الأنبياء في القرآن.. المسيح عيسى بن مريم وقصّة البشارة (2)

المقارنة بين قصّة بشارة عيسى بن مريم في سورة آل عمران مع تلك التي نجدها في سورة مريم تكشف لنا بعض الإختلافات التي تبدو بسيطة للوهلة الأولى لكنها من الأهمية بحيث تتطلّب التحرّي لمعرفة سبب وجود قصّتين مختلفتين بعض الشيء في القرآن عن البشارة به، وهل يساعد ذلك على فهم أفضل للإطار العام للقرآن والتاريخ الديني الذي تأثّر به النبي محمّد وأتباعه.

قصّة بشارة عيسى بن مريم مذكورة في سورتين من سور القرآن. في سورة آل عمران، الآيات 42-47، نجد النصّ التالي لها:

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ: يَا مَرْيَمُ، إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ، وَطَهَّرَكِ، وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ. يَا مَرْيَمُ، اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ. ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ. إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ: يَا مَرْيَمُ، إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ، اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً، وَمِنَ الصَّالِحِينَ. قَالَتْ: رَبِّ، أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ، وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ؟ قَالَ: كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء، إِذَا قَضَى أَمراً، فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُون”.

ونجد القصّة الثانية في سورة مريم، الآيات 16-31، ونصّها كما يلي:

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيّاً. فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً، فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً. قَالَتْ: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً. قَالَ: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً. قَالَتْ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكٌ بَغِياً؟ قَالَ: كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً. فَحَمَلَتْهُ، فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيّاً. فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْ­عِ النَّخْلَةِ، قَالَتْ: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا، وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً. فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا: أَلاَّ تَحْزَنِي، قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْ­عِ النَّخْلَةِ، تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً. فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً. فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً، فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً. فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ، قَالُوا: يَا مَرْيَمُ، لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً! يَا أُخْتَ هَارُونَ، مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ، وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً! فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ، قَالُوا: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً؟ قَالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً. وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ، وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً”.

لماذا نجد قصّتين عن بشارة عيسى في القرآن؟

للإجابة عن هذا السؤال، علينا أن ننظر في السياق العام لكلّ من هاتين القصّتين، أي ما هو التركيز الأساسي لكلّ من سورة آل عمران وسورة مريم وهل يعطينا هذا الأمر تفسيراً مقبولاً للفرق بين القصّتين؟ وعلينا أن نسأل أيضاً إذا ما كان لكلّ من هاتين القصّتين ما يشابهها في المصادر المسيحيّة؟

أريد أن أبدأ بالإجابة عن الشطر الثاني من السؤال، كونه يفتح لنا باباً مثيراً للإهتمام حول هاتين القصّتين. هناك فعليّاً في المصادر المسيحيّة القديمة ما يشابه هاتين القصّتين القرآنيّتين (بما في ذلك الإختلاف بينهما). نصّ قصّة البشارة في سورة مريم يشبه كثيراً ما نجده في إنجيل لوقا والذي يركّز على ولادة المسيح وسيرته وموته (الصلب والقيامة والمعروفة كنسيّاً بـ”آلام المسيح”)، بينما يشبه نصّ سورة آل عمران ما نجده في إنجيل آخر يعرف بـ “الإنجيل المنسوب إلى يعقوب” (Protevangelium of James)، وهو من الكتب التي راج استخدامها عند مسيحيّي شرق المتوسّط، خصوصاً بين القرن الثاني للميلاد والقرن الرابع عشر، والذي يُركّز الضوء كاملاً على ولادة وحياة مريم.

يتبدى لنا أنّ القرآن يتلو قصّتين مختلفتين عن البشارة. قصّة تُعرّف عيسى كغلام، بينما هناك قصّة أخرى تُعرّفه ككلمة من الله وأنّ الله إختار له اسم عيسى. هناك أيضاً الإختلاف حول تفصيل آخر: في سورة مريم، لا يرد أي ذكر عن إصطفاء مريم، بينما تبدأ البشارة في سورة آل عمران بالإعلان عن أنّ الله اصطفاها

إذاً، هل عبر سرد قصّة البشارة بأسلوبين مختلفين يمكن القول إنّ القرآن يُحاكي القصّتين في التراث المسيحي؟

في الحالة الأولى، في سورة آل عمران، قصّة البشارة نجدها في إطار قصّة أكبر تُركّز على ولادة وحياة مريم. إذاً من الحري أن يحاكي القرآن هنا ما نجده في الإنجيل المنسوب إلى يعقوب كونه كتاب عن حياة مريم. ومن دون شكّ، النصّ القرآني في سورة آل عمران هو تلخيص مقتضب لسيرة مريم في الإنجيل المنسوب إلى يعقوب (وهذا ينطبق على معظم القصص القرآنية حيث نجده يلخص التاريخ القديم بإختصار كبير).

أمّا في سورة مريم، فنجد أنّ تركيز النصّ القرآني هو على عيسى المسيح نفسه – ولادته وحياته (بما في ذلك رسالته وأتباعه) ووفاته وقيامته – وهذا يحاكي بالضبط ما نجده في إنجيل لوقا.

هناك تفاصيل أخرى شيّقة يمكن أن نضيفها. في إنجيل لوقا، يأتي ملاك الله إلى مريم، فتتعوّذ منه خوفاً، فيطمئنها ويبشّرها بغلام، فتتعجّب من ذلك، فيؤكّد لها الأمر، فتحبل بعيسى وبعد أن تلده، تأتي به إلى الهيكل حيث يستجوبها الكهنة. هذا بالتمام ما يذكره النصّ في سورة مريم.

إقرأ على موقع 180  يهودٌ في قريتنا بجزين.. كيف نصنعُ هويّاتنا؟

أمّا في الإنجيل المنسوب إلى يعقوب، فنجد التفاصيل مختلفة بعض الشيء. في البدء، تسمع مريم صوت ملاك يناديها ويخبرها أنّ الله اصطفاها من بين نساء العالمين. ثمّ يعود الملاك ليبشّرها بأنّها ستحمل بـ”كلمة” الله، فتتعجّب وتتساءل عن إمكانيّة ذلك، فيؤكّد لها الأمر ويعلمها أنّ عليها أن تسمّيه “عيسى”. وهذا تحديداً ما نجده في سورة آل عمران، مع إختلاف حتّمه بعد عقائدي، وأعني هنا أنّه في القرآن، عيسى هو كلمة من الله، بينما في التقليد المسيحي الشائع، هو كلمة الله.

إذا نظرنا في هذه الإختلافات والتي تبدو للوهلة الأولى بسيطة، يتبدى لنا أنّ القرآن يتلو قصّتين مختلفتين عن البشارة. قصّة تُعرّف عيسى كغلام، بينما هناك قصّة أخرى تُعرّفه ككلمة من الله وأنّ الله إختار له اسم عيسى. هناك أيضاً الإختلاف حول تفصيل آخر: في سورة مريم، لا يرد أي ذكر عن إصطفاء مريم، بينما تبدأ البشارة في سورة آل عمران بالإعلان عن أنّ الله اصطفاها. ويمكن أن نضيف أنّ الإنجيل المنسوب إلى يعقوب يبدأ بالبشارة إلى أم مريم بأنّها ستحمل بها، وهو تماماً ما نجده في سورة آل عمران، بينما في إنجيل لوقا، تبدأ القصة بالبشارة إلى زكريّا بيحيى، وهو ما نجده في سورة مريم التي لا تذكر ولادة مريم.

تشكّل هذه الأمور حقائق دامغة على أنّ القرآن يستخدم قصّتين عن البشارة، لا قصّة واحدة، وأنّه يحاكي مصادر مسيحيّة قديمة. وحتّى لو كان المنطلق أنّ القرآن هو كلام الله، فهو يحاكي هنا (وفي حالات كثيرة مشابهة) كلاماً لله سبق أن أوحاه إلى أنبياء من قبل وأصبح جزءاً من التقليد التاريخي الديني عند المسيحيّين، وجعله القرآن جزءاً من التقليد التاريخي الديني عند المسلمين.

الخلاصة هي أنّ قصة البشارة التي نجدها في سورة آل عمران هي ليست إعادة بسيطة للقصّة التي نجدها في سورة مريم. بل، تحاكي كلٌّ منهما مصدراً مسيحياً مختلفاً. والمعروف، حسب التقليد الإسلامي الشائع، أنّ سورة مريم هي مكّيّة، بينما سورة آل عمران مدنيّة. هل يعطينا هذا فكرة عن تطوّر في رؤية النبي وأتباعه لمريم ودورها أكبر من ذلك الذي أعطوه لها أثناء الفترة المكيّة، الذي حتّم إعادة سرد البشارة بعيسى من منطلق مختلف، بالتركيز على مريم هذه المرّة بدل التركيز على عيسى، أي في إطار يُظهر خصوصيّات مريم وكيف اصطفاها الله وطهّرها لتلعب الدور الذي لعبته؟

من الصعب الجزم بهذه الأمور، لكن أهميّتها للمؤرخ هي كأهمّية الإكتشافات الأثريّة التي تُعطينا تفاصيل صغيرة، لكن عندما نجمعها مع بعضها البعض تظهر لنا صورة أكبر تقرّبنا أكثر من فهم الماضي.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  تعالوا نُنقذ الله من.. أتباعه!