مؤسسة عامل.. تعالج “الجراح” بالإبرة والخيط

تتشابك الخيوط مع قصص الفتيات وذكرياتهن المؤلمة بينما تحاول كل واحدة منهن تعلّم مهارات الخياطة ولأن صناعة الملابس كانت لستر عيوبنا وتحسين مظهرنا الاجتماعي، فإنها الحرفة الأسرع لإعادة الاندماج في مسيرة الحياة التي قد تكون تعثّرت لظروف قاهرة وحالت دون الحصول على الحقوق الاساسية كالصحة والتعليم والعمل والعيش بكرامة.

تُقيم مؤسسة عامل في مركزها في حارة حريك بالشراكة مع DCA) DanChurchAid in Lebanon) دورة لتعليم الخياطة بهدف تمكين النساء والشباب سواء من اللبنانيين أو من مجتمعات اللجوء في لبنان، من تحسين سُبل عيشهم وتوسيع فُرص عملهم وزيادة مصادر دخلهم من خلال تعلّم مهارات جديدة تعيد لهم ثقتهم بقدراتهم في أن يكونوا فاعلين في مجتمعاتهم؛ هذه الدورة تستمر لستة أشهر وتتوزع على مراحل متعددة وتطال قرابة ثلاثمئة مستفيد تتراوح أعمارهم بين 16 و60 عاماً، وتُتبع بدورات أخرى كإدارة المشاريع الصغيرة والتسويق الإلكتروني واللغة الإنجليزية وعلوم الكومبيوتر بالإضافة إلى ورشات الدعم النفسي، كما تقول المنسقة الميدانية في المركز رحمة عباس، شارحة الهدف من الدورة بتحضير المشاركين لمواكبة سوق العمل من خلال مشاريع صغيرة تؤمّن لهم العيش بكرامة.

أعادت الازمة الإقتصادية إلى مهنة الخياطة عزّها السابق بسبب عجز الكثيرين عن شراء الملابس الجديدة وبالتالي اللجوء لإصلاح القديمة منها، ما سبب طلباً مُتزايداً على هذه المهنة التي كادت تندثر في الفترة الأخيرة بسبب النمط الاستهلاكي الذي غرق فيه المجتمع اللبناني. وتؤكّد الخياطة فاطمة وهي تجلس بين كومة من الملابس القديمة حاجتها للمساعدة، فلم تعدّ تستطيع انجاز عملها في الوقت المطلوب.

لا بدّ من مرحلة في حياة الانسان يتغيّر بعدها كل شيء، قد تكون محطات عديدة وقد تكون محطة واحدة، قد تحصل في ثوان أو دقائق أو ساعات، وقد تحصل بلمح البرق، لكنّ الأكيد أنّ ما قبلها ليس كما بعدها، فهي تكشفنا أمام أنفسنا لندرك بعدها أقسى درجات ضعفنا، ومن بعدها يأتي الخَيار، النهوض من جديد أو الإنكسار الى الأبد، وكلمّا كان القرارُ باكراً كلّما كانت القدرة على التعافي أكبر ومهما كان القرارُ متأخِّراً سيكون أفضلَ من أن لا يأتي أبداً.

بداية جديدة

تلخص الجملة الآنفة الذكر الأحاديث مع مجموعة من الفتيات السوريات في ورشة الخياطة في مؤسسة عامل. “غطي وجهك، ارفعي الغطاء، ضعي الحجاب، ارفعي الحجاب”، عبارات كانت تتردد على مسامعهن عند اجتياز الحواجز في رحلة نزوحهن إلى لبنان، وبالنسبة لهنّ كانت هذه الحواجز أصعب ما مررن به على الإطلاق، (حاجز داعش، حاجز الأكراد، حاجز الجيش الحرّ، حاجز الجيش النظامي إلخ..) وبعد اجتياز كل حاجز كانت كل فتاة تروي نفس المشاعر التغلّب على الضعف، الأمل ببداية جديدة.. وهكذا فور وصولهنّ إلى لبنان كانت الحياة تدفعّهن إلى الأمام، إلى نقطة انطلاق جديدة اختلفت حسب داوفع كل واحدة منهن.

كان حلم ميس أن تصبح معلمة. درست سنة أولى أدب عربي في الجامعة بسوريا، وبعدها بدأت الحرب، واضطرت إلى التوقف عن الدراسة ثم الزواج تقول:”سافر زوجي إلى لبنان للعمل وبقيت أعيش مع أهله في ريف حلب لمدّة ست سنوات، إلى أن طفح الكيل، حملت ابني وحقيبة ملابس أساسية، وقطعت حاجزاً تلو حاجز، حتى وصلت إلى برّ الأمان، لكن سرعان ما كان هذا الآمان زائفاً. أشهر قليلة وانفصلت عن زوجي. تعلّمت الخياطة وكيفية إدارة المشاريع الصغيرة وتسجلت في دورات في اللغة الانجليزية وبدأت اعمل في تعليم الخياطة، ومن هنا من مؤسسة عامل أقول تحقق حلمي، أنا الآن معلّمة”.

لا تنجح المرأة إلا إذا اعترفت بنفسها وبقدرتها على ان تكون فاعلة في مجتمعها وبيئتها، ولا يقتصر تمكين المرأة على دورات الخياطة واللغات او فنون الطبخ او التجميل، بل هو حلقة من سلسلة طويلة تختلف بين فتاة وأخرى، لكن تعلّم مهنة بوقت قصير وظروف صعبة كالتي يشهدها لبنان، ما هو إلاّ نوع من أنواع الحماية الذاتية

ترفع حلا البرقع عن وجهها، وتقول لي “المعلّمة ميس هي معالجتي النفسية”، ثم تضحكان معاً، لتضيف “هذا أكثر من صف لتعليم الخياطة. نتشارك قصصنا، ألمنا، معاناتنا، فرحنا، قوتنا، الواحدة تسند الأخرى، كما نتعاون في حبك الخيوط وفي تفصيل الملابس، نتعاون في حلّ العقد وفكفكة الصعوبات”، حلا تبلغ من العمر 29 عاماً، تروي قصتها والدموع تنهمر من عينيها والبسمة على شفتيها تضيف:”ما عشته جعلني أشعر أني في الخمسين من عمري، تركت سوريا مع أطفالي الأربعة وحماتي بسبب القصف المستمر، وقال لي زوجي أنه سيلحق بنا إلى لبنان، وسرعان ما انقطع الاتصال معه، لم نعرف عنه شيئاً، بين أخبار تقول أنه مات وأخبار أنه مخطوف، حتى تأكدّنا أنه سجين، ثلاث سنوات مرت بطيئة وثقيلة لحين عودته، هو اليوم يدفعني لتعلّم الخياطة، وعندما أكون بحالة نفسية سيئة يأخذني إلى مؤسسة عامل لأرى أشخاصاً جدد، قائلاً شوفي مصيبة غيرك بتهون مصيبتك”، هكذا يفتح صف الخياطة نافذة للاجئات للمشاركة في الحياة خارج إطار أسرِهّن.

إقرأ على موقع 180  ها أنذا أعترف أمامكم.. لبنانكم لا يكفيني!

حماية الذات والمجتمع

تسرد خلفة بصوت واثق ما حصل معها:”أريد أن أتعلّم بسرعة، ممكن أعمل من داخل بيتي في مخيم برج البراجنة، على الأقل أستطيع أن أؤمّن مصروفي وأخيط فساتين لبناتي كما أحبُ، عندما أمسك الإبرة والخيط أنسى كل شيء، تركيزي على التفاصيل يخفّف من كل المعاناة التي نعيشها كلاجئين في لبنان”، تثني خلفة على جهود مؤسسة عامل التي أصبحت مقصدا للاجئين لما تقدمه من معاملة كريمة وانسانية.

سامية (18 عاماً) لم تدخل المدرسة أبداً. كانت أمها تخاف عليها من الرجال. تقول:”لا أعرف القراءة ولا الكتابة، ومنذ أتينا إلى لبنان أنا لا أخرج من المخيم أبداً، سمعت أمي بدورة الخياطة عندما كانت في مستوصف المؤسسة في حارة حريك، ولأنها تثق بالفتيات هنا، سجلتني في الدورة حتى يكون عندي عمل أعتمد فيه على نفسي، وانا آتي مشياً على الأقدام إلى المركز من برج البراجنة، مهما كان الطقس بارداً او حاراً، لا أريد تفويت درس واحد، كان حلمي أن أجلس خلف ماكينة الخياطة وحلمي تحقق الآن”.

لفاطمة حكاية مختلفة، هي المتميزة في مدرستها، متفوقة، ذات طموح عالٍ، لطالما أرادت أن تكون إعلامية تقرأ الأخبار على التلفزيون، ولكن الحرب غيّرت خطتّها وفرضت عليها واقعاً جديداً، الهروب من سوريا والنزوح إلى لبنان مع أسرتها كلاجئين، هي اليوم أكملت كافة مستويات اللغة الإنجليزية والكمبيوتر، وتتعلم الخياطة كهواية قد تحتاجها في المستقبل، مؤكّدةً أنها تستثمر وقتها بشكل مفيد.

لا تنجح المرأة إلا إذا اعترفت بنفسها وبقدرتها على ان تكون فاعلة في مجتمعها وبيئتها، ولا يقتصر تمكين المرأة على دورات الخياطة واللغات او فنون الطبخ او التجميل، بل هو حلقة من سلسلة طويلة تختلف بين فتاة وأخرى، لكن تعلّم مهنة بوقت قصير وظروف صعبة كالتي يشهدها لبنان، ما هو إلاّ نوع من أنواع الحماية الذاتية تستطيع المرأة من خلالها إستعادة ثقتها بنفسها والبدء من جديد، هذا ما تُظهره قائمة الإنتظار الطويلة للانضمام إلى صفوف الخياطة في مؤسسة عامل التي تعمل بأقصى جهدها لأجل حفظ كرامة الانسان في أي مكان وزمان.

Print Friendly, PDF & Email
مايا ياغي

صحافية لبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  رحيل خدام: إسدالُ ستارِة معادلة "الوصل" بين لبنان وسوريا