أولادنا مجرد مستخدمي تكنولوجيا أم صُنّاعاً لها؟

عندما نتجول قليلاً في أحياء العاصمة وضواحيها، نشعر أكثر فأكثر بوجع الناس، بهمومهم المعيشية، فشغلهم الشاغل أصبح منذ زمن تأمين قوت يومهم، ولعل أهم هدف للخبثاء ممن أوصلونا الى هذه الحالة قد تحقق، وهو أن ننشغل عن التفكير والعمل على تحقيق التقدم العلمي وامتلاك المعرفة.

في العام 2015، صادقت وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي والبحث في فرنسا على ادخال مادة علوم البرمجة والحاسوب الى الصفوف الاولى في المدرسة، وفي العام 2017، تم اعتمادها كمادة اساسية في اختبارات صفوف البريفيه، وذلك اسوة بباقي دول الاتحاد الاوروبي وأمريكا. سأعرض في هذا المقال أهمية امتلاك هذه المعرفة وكيفية تأثيرها على طريقة التفكير والمعالجة عند التلاميذ، مع شواهد عن أدوات وبرامج يمكن استخدامها وفق الفئة العمرية، وصولاً الى ربطها بالمشروع الاساس وهو تحقيق اقتدار المجتمع.

يتم العمل في هذا النوع من المواد من خلال مشروع تطبيقي يُطلب من التلاميذ تنفيذه باستخدام برامج خاصة من مثل “سكراتش”، وهي أداة سهلة الاستخدام تم تصميمها خصيصًا لتعريف طلاب المدارس على البرمجة وهنا نتحدث عن أعمار تبدأ من ثماني سنوات، حيث يتم تزويدهم بكتيب يشرح المواصفات والاهداف المراد تحقيقها من البرنامج التطبيقي. ويكون العمل جماعيًا في هذه المشاريع التطبيقية وذلك بهدف تمكين التلاميذ من تنظيم أنفسهم حول مشروع مشترك والتفكير في كيفية حل المشكلة على مراحل.

تتيح هذه المادة للتلاميذ فهم التفاصيل الدقيقة للخوارزميات وتصميمها، أي القواعد والتقنيات التي تتكون منها. حيث تسمح بتطوير حسهم المنطقي وقدرتهم على تقسيم المشكلة الاساسية إلى مشاكل فرعية. فعلى سبيل المثال، في هذه المادة عادة مايقوم التلميذ ببرمجة لعبة معينة، ممكن أن تكون دمية أو روبوت أو سيارة او أي شيء أخر، تتحرك باستخدام أزرار لوحة المفاتيح في الحاسوب (Keybord). لذلك يجب عليه أولاً برمجة حركته، ثم دمج العوائق في طريقه، من ثم رسم المشهدية الكاملة للعبة. لذلك يجب عليهم التخطيط لكل هذه الخطوات. يتعلم التلاميذ في هذه المادة كيفية إدارة المشاريع. بالإضافة إلى ذلك، فإن برمجة الكمبيوتر تقلل من شعورهم بالفشل في مواجهة الخطأ. فهم لا يحتاجون إلى الرجوع إلى معلمهم بل يصبحون مستقلين. فمن خلال اختبار البرنامج يعرفون ما إذا كان يعمل أم لا. وهناك برامج مرافقة تساعدهم على فهم وايجاد الخطأ بشكل ذاتي. وبالتالي فإن هذه المادة تُمكنهم وتقوي احترامهم لذاتهم وثقتهم بأنفسهم، وفق ماجاء على لسان أحد أساتذة هذه المادة في فرنسا.

إن الفباء تحقيق التقدم العلمي وامتلاك المعرفة يبدأ بتطوير مناهجنا الدراسية، ومن بينها ادخال علوم البرمجة والحاسوب الى الصفوف الاولى في مدارسنا، والمؤسف أننا عوض تحقيق هذه الأولوية ها نحن مشغولون بسعر ربطة الخبز وحبة الدواء وليتر المحروقات

أما على مستوى الثانويات، فهل تعلمون بوجود أكثر من ثلاثة عشر فرعًا في الثانوية العامة في فرنسا بدل الفروع الاربعة الموجودة في لبنان؟ ومن بين هذه الفروع، هناك فرع مخصص لعلوم الحاسوب، فلماذا لا نحول التهديد الفرصة، والمقصود بدل أن يكون أولادنا مجرد مستخدمين للتكنولوجيا، يجب ان نوفر لهم الارضية ليكونوا صُنَّاعًا لها بدل ان يتلهوا بلعبة من هنا أو هناك، وخاصة بوجود الحافزية لديهم. وبتقديري فالارضية جاهزة، فلبنان يملك القدرات البشرية اللازمة لذلك، ولكن ما ينقصنا دائماً هو القرار.

هذا التحول في المقاربة للمناهج، هو مدماك أساسي لخروج لبنان من أزمته الاقتصادية. فقد أثبتت التجربة بأن المستقبل الان هو للاقتصاد المعرفي والذي ينمو يشكل مضطرد، ذلك الاقتصاد المبني على صناعة التكنولوجيا والبرمجيات، والذي يبدأ بناؤه في المدرسة، من خلال زرع هذه المعرفة في عقول أولادنا. فهو لا يحتاج الى مواد أولية من نفط وغاز بل الى عقول نيرة تملك المعرفة وهي موجودة. أليس نظام سويفت المالي هو سيف العقوبات الغربية على روسيا؟ أتساءلنا يوما من صنع هذا النظام من الناحية التقنية؟ من يدير ويصنع الهجمات السيبرانية التي ترعب دول الصف الاول؟ كيف حاربت الصين كورونا، ألم تكن أنظمة الذكاء الصناعي أحد أسلحتها؟ أليس الذكاء الاصطناعي اليوم هو أهم مجال بحثي في مختلف الحقول الطبية؟ من يدير الحروب الاعلامية الكترونية عبروسائل التواصل الإجتماعي؟ من يدير التجارة الكترونية؟ من صنع الوتساب وفايسبوك وإنستغرام وغيرها من وسائل التواصل؟ من صنع العملات الرقمية من بيتكوين وغيرها لتصبح عملة مستخدمة في التداولات؟ الجواب واحد: إنهم المبرمجون.

إن أردنا ان نطمس رأسنا في الرمال كالنعامة فهذا خيار، وإن أردنا ان نُكفر عن خطايانا وما إرتكبناه نحن وأسلافنا فالفرصة ماثلة أمامنا. الخيارات واضحة ودقيقة ولا يوجد فيها التباس، والوقت ليس في صالحنا. فلقد جاء في الحديث الشريف “وعلموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل”، ولو أردنا تأويل الرماية في هذا الزمن لكانت البرمجة في الصدارة.

إن الفباء تحقيق التقدم العلمي وامتلاك المعرفة يبدأ بتطوير مناهجنا الدراسية، ومن بينها ادخال علوم البرمجة والحاسوب الى الصفوف الاولى في مدارسنا، والمؤسف أننا عوض تحقيق هذه الأولوية ها نحن مشغولون بسعر ربطة الخبز وحبة الدواء وليتر المحروقات.

إقرأ على موقع 180  برهان حياة ما عرفنا كيف نبت

 

Print Friendly, PDF & Email
عبد الصفدي

أكاديمي وباحث تربوي، لبنان

Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  "البامياء".. رمزاً وطنياً!