يقول بيرغمان، “مرت أربعة أشهر مليئة بالإحباط جراء فشل عملية اغتيال فتحي الشقاقي (قرب الحدود التونسية الليبية). أخيراً وفي منتصف تشرين الأول/أكتوبر 1995، حصل رجال “الموساد” على معلومة تُمكنهم من تنفيذ عملية الاغتيال بأنفسهم ومن دون اية عمليات مشتركة معقدة مع الجيش “الإسرائيلي”. فقد رنّ الهاتف في مكتب الشقاقي في دمشق، وكان قيد الرصد والمراقبة من “الموساد”، وكان على الخط الآخر أحد مساعدي الزعيم الليبي معمر القذافي يدعوه إلى حضور مؤتمر في ليبيا. قال الشقاقي انه لن يشارك في المؤتمر، ولكن “الموساد” علم حينها أنه سيكون من ضمن المشاركين في هذا المؤتمر سعيد موسى المراغة (أبو موسى)، وهو قائد فصيل فلسطيني متطرف انشق عن الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات (فتح ـ الانتفاضة) وترك منظمة التحرير الفلسطينية وبات يتخذ من دمشق قاعدة له ويدير منها عملياته بحماية سورية، وكان أبو موسى من ابرز منافسي الشقاقي. وفي اجتماع في مقر “الموساد” لمناقشة الموضوع، قال أحد ضباط “وحدة قيساريا” ويدعى ميشكا بن ديفيد “اذا ذهب أبو موسى الى هذا المؤتمر فان زبوننا (الشقاقي) لا يستطيع ان يبقى بعيداً. قولوا لرجالنا ان يكونوا جاهزين”.
في مالطا، لم ينتبه الشقاقي الى دراجة نارية من طراز “ياماها” كانت أصبحت على مقربة منه عند الساعة 11:15، عندها كان الشقاقي وحده على رصيف الشارع عندما شهر الراكب خلف سائق الدراجة مسدسا مزودا بكاتم للصوت وأطلق رصاصتين على رأس الشقاقي وما ان سقط حتى عاجله برصاصة ثالثة في عنقه
يتابع بيرغمان، “لم يكن واضحاً ما سيفعل الشقاقي في النهاية، ولكن الموساد اعتبر انه إذا قرر الشقاقي الذهاب فانه سيكون هدفا سهل المنال خلال توقفه في مالطا في طريقه الى ليبيا او لاحقاً في طريق عودته منها. قبل ذلك ببضعة أشهر تم تعيين “جيري” قائدا لوحدة القتل المتعمد (في الموساد)، ولم يكن جيري شخصا محبوبا لدى زملائه في الموساد وكان قليل الكلام وقد نفذ خدمته العسكرية في وحدة خاصة للغطس البحري، كما انه كان أحد أعضاء فرق الاغتيال التي نفذت عمليتي اغتيال (القائد الفلسطيني) عاطف بسيسو وجيرالد بال (عالم كندي عمل سابقاً في وكالة الفضاء الاميركية “ناسا” ومع الجيشين الأميركي و”الإسرائيلي” على تطوير المدافع العراقية العملاقة بطلب من الرئيس صدام حسين). وكان جيري يعتقد ان موقعه الجديد سيوصله إلى ما يهدف اليه وهو قيادة وحدة قيساريا”.
وينقل بيرغمان عن جيري قوله لاحد أصدقائه حينها “اريد ان اجلس في مقعد مايك هراري (قائد قيساريا حينها)”. لذا كان قتل فتحي الشقاقي يشكل حينها مصلحة وطنية وطموحا شخصياً لجيري في آن معاً.
سافر جيري وفريقه الى مالطا في 22 أكتوبر/تشرين الأول (1995) وانتظروا في المطار يتفحصون المسافرين القادمين، “وبعد ان حطت بضع طائرات، اتصل جيري باللاسلكي بشركائه وبالموساد في تل ابيب قائلا “يجلس الى جانبي شخص سأتفحصه”، فبدأ التوتر، وما هي الا دقيقة حتى عاد للقول “اعتقد اننا حصلنا على الهدف، انه يضع شعرا مستعارا، ولكن هناك احتمال كبير ان يكون رجلنا”. لم يغادر الشقاقي المطار، بل على العكس، اخذ الطائرة التالية المتوجهة الى تونس، وكان الموساد يعرف بأنه سيبقى ليلة او ليلتين في “فندق ديبلومات” المالطي إما في طريقه الى ليبيا او في طريق عودته منها. لذلك كان الامر ملائما للانتظار بضعة أيام عندما يكون الشقاقي سهل المنال”، يقول بيرغمان.
بعد عودته من المؤتمر (في ليبيا)، حطّ الشقاقي في مالطا مرة ثانية في 26 أكتوبر/تشرين الأول، ويضيف بيرغمان، “تم رصد وصوله الى المطار من قبل أحد عملاء وحدة “الحربة”، وجرى عند الساعة العاشرة صباحا اعلام عميلين في بهو “فندق ديبلومات” بالأمر. وصل الشقاقي الى الفندق بسيارة أجرة وسجل دخوله الى الفندق لليلة واحدة ولم يسمح للحمّال ان يأخذ حقائبه، بل اخذها هو بيده الى غرفته في الفندق، وتبعه أحد العميلين “الإسرائيليين” ورآه يدخل الغرفة رقم 616. كانت مالطا الهادئة التي تعج بالسياح قاعدة للموساد، لذلك تُركَ الامر لجيري حتى يُقرر كيف سينفذ عملية القتل. وهكذا فقد جمع جيري رجال فريقه عند إحدى الزوايا خارج الفندق وقدم لهم ملخصا عن الامر”.
يتابع بيرغمان، “غادر الشقاقي الفندق عند الساعة 11:30 واستدار يسارا وراح يتجول في الشارع مستمتعاً بالطقس اللطيف. ذهب الى مخزن “ماركس اند سبنسر” وكان ملاحقاً من أحد العملاء الذي كان يراقبه وهو يشتري قميصا ومن ثم ثلاثة قمصان أخرى من مخزن اخر. كان جيري يقف على الجهة المقابلة من الشارع عندما رأى الشقاقي يخرج من المخزن فهمس في جهاز اللاسلكي في كم قميصه كلمتين “افتحوا عيونكم”.. وكانت هذه هي كلمة السر لبدء العمل. لم يلاحظ الشقاقي أي شيء غير عادي فكان يواصل تجواله في الشارع، ولم ينتبه الى دراجة نارية من طراز “ياماها” كانت أصبحت على مقربة منه عند الساعة 11:15، عندها كان الشقاقي وحده على رصيف الشارع عندما شهر الراكب خلف سائق الدراجة مسدسا مزودا بكاتم للصوت وأطلق رصاصتين على رأس الشقاقي وما ان سقط حتى عاجله برصاصة ثالثة في عنقه من الخلف، كان المسدس مزودا بما يشبه الحقيبة الصغيرة التي تتجمع فيها الرصاصات الفارغة مما لا يترك شيئا لمحققي الشرطة المتخصصين بدراسة مسرح الجريمة. فرّت الدراجة براكبيها بعيدا فيما قامت سيارتان مستأجرتان بنقل باقي أعضاء الفريق حيث تجمع الجميع في شاطئ قريب حيث كان بانتظارهم قارب سريع يقوده ثلاثة من رجال الكوماندوس يرتدون البسة مدنية مثلهم مثل باقي السياح. إصطحبوا فريق الاغتيال كله ونقلوه الى مركب تابع للبحرية “الإسرائيلية” كان ينتظرهم بعيدا عن الشاطئ، وفي اليوم التالي وجدت الشرطة المالطية الدراجة النارية عند الشاطئ”.
لقد طفح كيل الراي العام “الإسرائيلي” من رؤيته للدم المراق والاجساد المحترقة في الحافلات، وقد عرف رابين انه لا بد ان يفعل شيئا ما حيال هذا الامر فوقع “الصفحة الحمراء” (قرار اغتيال عياش). وكان هذا الامر غير عادي أيضا، فقد كان عياش يدير “ارهابييه” الانتحاريين من داخل الضفة الغربية وقطاع غزة، وهي الأراضي التي باتت تحت سيطرة السلطة الفلسطينية
“في ضوء تغير المقاربة التي كانت معتمدة مع التهديدات “الإرهابية” واثر هجوم بيت ليد، أمر رئيس الوزراء إسحاق رابين بجمع اكبر قدر ممكن من المعلومات الاستخبارية عن قادة “حماس” ولا سيما يحيى عياش الملقب بـ”المهندس” الذي كان قد تدرب في المنفى واستورد التفجيرات الانتحارية الى داخل “إسرائيل” في ربيع العام 1993″، يقول بيرغمان، ويتابع، “خلال العامين 1994 و1995 كان عياش مسؤولا عن تسع هجمات انتحارية أدت إلى مقتل 56 شخصا وجرح 387. لقد طفح كيل الراي العام “الإسرائيلي” من رؤيته للدم المراق والاجساد المحترقة في الحافلات، وقد عرف رابين انه لا بد ان يفعل شيئا ما حيال هذا الامر فوقع “الصفحة الحمراء” (قرار اغتيال عياش). وكان هذا الامر غير عادي أيضا، فقد كان عياش يدير “ارهابييه” الانتحاريين من داخل الضفة الغربية وقطاع غزة، وهي الأراضي التي باتت تحت سيطرة السلطة الفلسطينية، وبالتالي تحت سلطتها القضائية التي كان يفترض بها اعتقاله ورجاله، في ذلك الوقت، كانت السلطة الفلسطينية و”إسرائيل” تتفاوضان بشأن المرحلة التالية من “اتفاقيات أوسلو” وكان من شان أي عمل “إسرائيلي” في مناطق السلطة الفلسطينية ان يشكل خرقا لاتفاقيات السلام مما يتحول الى ازمة سياسية”.
لقد دعا رابين مرارا رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ان يتصرف بحزم وبشكل حاسم لوقف التفجيرات الانتحارية، وينقل بيرغمان عن ضابط استخبارات كان حاضرا خلال مكالمة هاتفية مع عرفات قوله ان رابين “وبّخ عرفات بقسوة، وعندما وضع جانبا سماعة الهاتف كان “وجهه قد بات احمر اللون” واخذ يشكو كيف ان عرفات وجماعته لا يفعلون أي شيء لكبح جماح حماس والجهاد الإسلامي. ومن جانبه، فقد كان عرفات ينكر ان يكون الفلسطينيون خلف تلك الهجمات ووضع نظرية مؤامرة من صياغته بالكامل ولا أساس لها من الصحة. فقد كان يقول “ان هناك منظمة سرية إسرائيلية تسمى اواس تعمل في صفوف جهاز الشين بيت وبالتعاون مع حماس والجهاد الإسلامي وهدفهم تقويض عملية السلام، هذه المنظمة هي وراء تلك الهجمات وغيرها”.
يقول بيرغمان، في مطلع العام 1995 (أي بعد اقل من عامين من توقيع اتفاق أوسلو) تيقن “الإسرائيليون” ان كل امالهم بان السلطة الفلسطينية ستوقف الهجمات “الإرهابية” كانت في أفضل احوالها غير واقعية على الاطلاق. وينقل بيرغمان عن رئيس الشاباك حينها كارمي جيلون قوله “الى جانب كل الاتصالات والمحادثات والطلبات والأمور التي رفعناها للفلسطينيين قررنا ان نعتمد على أنفسنا وان نبذل كل جهد ممكن لمواجهة الإرهاب”. بمحض الصدفة في الوقت نفسه الذي هاجم فيه الانتحاريان بيت ليد في 22 يناير/كانون الثاني، إستدعى رئيس الشين بيت ياكوف بيري الضابط يسرائيل حسون وطلب منه ان يكون رئيس القيادة الوسطى للجهاز، وكان حسون من بين اكثر العملاء خبرة في الشين بيت وقال انه سيوافق على التعيين اذا اتخذ الجهاز قرارا راديكاليا بالتعامل مع يحيى عياش. وقال حسون لبيري “إذا كنت تعتقد ان موضوع عياش هو مشكلة محلية تخص الضابط المحلي في رافات (القرية التي ولد فيها عياش في الضفة الغربية وتقع ضمن محافظة القدس لكنها أقرب إلى مدينة رام الله حيث تبعد عنها فقط ثلاثة كيلومترات) فانك ترتكب خطأ فادحا، هذا الرجل يقوض عملية السلام برمتها والطريقة الوحيدة للوصول اليه هي ان يتحول الى هاجس لدى الجهاز برمته ولدى كل عناصره بحيث ان كل واحد يستيقظ صباح كل يوم ويسأل نفسه ماذا يمكن ان افعل اليوم للامساك بيحي عياش”. فسأله بيري ماذا يريد، أجابه حسون “اريد المسؤولية المطلقة على كل العناصر المعنية بالتعامل مع يحيى عياش”. وكان بيري المتمرس في إدارة العملاء اجابه “انا الان اعينك رئيسا للوكالة لشؤون يحيى عياش”، فأجابه حسون “اذا، اريد منك الان وعدا بان لا تتجاوزني وان أي قرار اتخذه في هذا الموضوع يكون نهائيا ولا رد له”. كان بيري واثقا بانه سيكون قادرا على اقناع رابين بتوقيع الصفحة الحمراء ضد عياش، ولكنه كان ذكيا بما فيه الكفاية لمعرفة الألغام التنظيمية التي ستعترض طريقه لذلك فقد رد على حسون بالقول “يسرائيل. كل الوكالة ستدعمك وتقف خلفك. انطلق واحضر لنا رأس عياش”.
ويختم بيرغمان بالقول “تولى حسون مسؤوليته الجديدة، وبدأ بمراجعة كل المعلومات الاستخبارية عن عياش، وقد كانت قليلة على أي حال، فقد تبين له انه لاكثر من عام لم يكن أي مصدر في الشين بيت على تواصل مع عياش او مع أي من مساعديه المقربين كما لم يكن هناك اية معلومات واضحة عن مكان تواجده باستثناء تقرير واحد يقول ان حماس تمكنت من مساعدته على الفرار الى بولندا خوفا من وقوعه في ايدي الشين بيت. شكّك حسون بصحة هذا التقرير وتساءل خلال اجتماع لضباطه في شهر فبراير/شباط “كيف يعقل ان يكون في بولندا ونحن نجد بصماته في كل عمليات التفجير الانتحارية هنا”؟