تُرسم إيقاعات التحولات في شرق المتوسط، على مسارعة الأطراف الإقليمية المتصدرة للمشهد السياسي، لتثبيت وقائع النظام الإقليمي الجديد الذي لم يتم حتى الآن وضع ملامحه النهائية، وتؤدي فيه الجغرافيا السياسية لكل من سوريا والعراق دوراً أساسياً في تحديد مساراته النهائية، بما يمكن أن ينعكس عليهما كإمكانية للاستقرار والتنمية، أو استمرارهما في الانحدار نحو فقدان تكوينيهما الاجتماعي والسياسي.
ولا يغيب اليمن عن مشهد التحولات أيضاً، وهو صاحب الدور الأقدر، عند مقارنته مع دوري كل من سوريا والعراق، على الرغم من بعده الجغرافي عن شرق المتوسط، ولكنه بإطلالته على الممر المائي الأهم نحو البحر الأبيض المتوسط وصلابة قوة “أنصار الله” المتماسكة كتجربة متميزة ومختلفة عن مثيلتيها في البلدين السابقين، فإنه تحول إلى رقم صعب ومرجِّح في معادلات صراع الأدوار الإقليمية.
يأتي الدور الإقليمي للسعودية الأبرز عربياً، في مقدمة القوى التي تعمل للاستحواذ على القرار السياسي للدول الثلاث، إن كان باستمرار حصار اليمن، واستمرار الهدنة الهشة والمُنهكة لهذا البلد، واستمرار العمل على احتواء العراق وإخراجه من دائرة جوار الجغرافيا السياسية لإيران. وهذا ما أظهره مؤتمر بغداد الثاني، الذي عُقد في عمّان، وقادته كل من فرنسا والسعودية، ومن خلفهما “إسرائيل”.
إضافةً الى استغلال الوضع الاقتصادي الضاغط على سوريا، ورفض تقديم أي مساعدات اقتصادية أو سياسية لفك الحصار من دون أثمان كبيرة، تقتضي خروج إيران بشكل كامل منها، بما يحقق الأمن الدائم “لإسرائيل”، ويتيح لها السيطرة الكاملة على القرار السياسي والاقتصادي، بشكل مشابه لما حصل لمصر إثر معاهدة “كامب ديفيد”، وتسليم دورها الإقليمي الأبرز لكل من: “إسرائيل” والسعودية، اللتين يرتبط دورهما الإقليمي واستمرارهما حتى الآن بمدى توافقهما وتآزرهما مع بعضهما البعض.
ومن هنا كان الموقف السعودي المتشدد تجاه سوريا بالذات، التي تُعتبر مفتاح انهيار النُظم الإقليمية الطامحة، ولا يمكن للرياض أن تسمح لأي تخفيف عن سوريا من دون تحقيق متطلباتها، وهي بطبيعة الحال لا يهمها حصول أي تغيير سياسي داخلي مقابل تحقيق شروطها، التي تعتبرها مصيرية.
ليس أمام دمشق سوى خيارين للخروج من كارثتها الكُبرى، فإما الذهاب نحو التوافق مع السعودية، والاستمرار في الصيغة السياسية والإدارية الحالية نفسها، مع ما يعنيه ذلك من شروط قاهرة بدورها الإقليمي ومستقبلها السياسي والاقتصادي، وإما الذهاب والتماهي مع دول أستانة الراعية للملف السوري وما يمكن له أن يتيح لها هامشاً أكبر لاستعادة التعافي والدور الإقليمي
وفي المقابل، وعلى الرغم من التناقضات التي حكمت العلاقة بين تركيا وإيران في سوريا، فإن الدولتين وصلتا إلى مرحلة من التنسيق العالي مع روسيا، من خلال منصة أستانة، التي تحولت إلى منصة لصياغة التفاهمات والاتفاقات بين الدول الثلاث، بعد فشل محاولة الانقلاب الأميركية على الرئيس التركي رجب طيب إردوغان عام 2016، مما دفع بهذه الدول إلى الالتقاء على إعادة تشكيل منطقة شرق المتوسط، انطلاقاً من إدراك أهمية سوريا وأولويتها في الصراع على إعادة تشكيل منطقة غرب آسيا، التي تقتضي خروج الولايات المتحدة منها، وخاصةً من منطقتي الجزيرة السورية والتنف.
وهذا ما دفع بروسيا وإيران إلى بذل أقصى الجهود لتحويل مسار العلاقة السورية التركية، من الصدام إلى المصالحة والتوافق، وهو مسار ترفضه الولايات المتحدة وتعمل على منع حصوله بشتّى السُبل، ولو تطلب الأمر تعزيز قواتها في الجزيرة السورية والتحرك على مستوى الجنوب السوري.
وتستند هذه المصالحة التي يتم العمل عليها، إلى وقائع على الأرض، بعد التشظّي السوري إثر الحرب التي انطلقت من منتصف آذار/مارس 2011، واستحالة العودة إلى ما قبل عام 2011، وفقاً للصيغة السياسية المستمرة حتى الآن. فأكثر من 40% من السوريين قد أصبحوا خارج بلدهم، إضافة إلى أنّ مناطق واسعة من الدولة السورية خارج السيطرة الرسمية لدمشق، ووجود 5 جيوش مختلفة، وتهاوي الاقتصاد الداخلي، مع الفشل في إدارة الملف الداخلي اقتصادياً واجتماعياً وإدارياً واستمرار انحدار مستوى الحياة العامة للسوريين. كل هذه الكوارث المُتعمقة في البنية السورية، لا يمكن مواجهتها بالسياسات المُتبعة نفسها، وهي تقتضي وجود حل سياسي يستبعد الدورين الأميركي والأوروبي، وتحقيق القرار 2254 وفقاً للرؤية الروسية التركية الإيرانية، بما يحافظ على التموضع الجيوسياسي لسوريا بعيداً عن القوى الغربية.
هذا الأمر يمكن تحقيقه من خلال الحوار بين دمشق ومعارضين يؤمنون بخيار هذا التموضع الجيوسياسي وحسم الخيارات السورية بين الشرق والغرب، ويمكن فيه لأنقرة وموسكو وطهران تأدية دور المِظلة الراعية لنجاح هذا الحوار، وتقديم ضمانات النجاح، وخاصةً أنقرة التي تهيمن على أغلب قوى المعارضة السورية، وتحتل أكثر من 9% من مجمل الأراضي السورية، وهي التي أصبحت بأمسّ الحاجة إلى المصالحة مع دمشق، لأسباب تتعلق بالصراع السياسي الداخلي، وأخرى تتعلق بالأمن القومي التركي.
ليس أمام دمشق سوى خيارين للخروج من كارثتها الكُبرى، فإما الذهاب نحو التوافق مع السعودية، والاستمرار في الصيغة السياسية والإدارية الحالية نفسها، مع ما يعنيه ذلك من شروط قاهرة بدورها الإقليمي ومستقبلها السياسي والاقتصادي، بما يشبه دوراً مصرياً مستلباً لا يليق بتاريخها وجغرافيتها وثِقلها العربي والأفريقي، وإما الذهاب والتماهي مع دول أستانة الراعية للملف السوري وما يمكن له أن يتيح لها هامشاً أكبر لاستعادة التعافي والدور الإقليمي، واستعادة القرار السيادي ووحدة أراضي الدولة السورية، وفقاً لحل سياسي يلحظ المتغيرات الكبيرة والعميقة في المجتمع السوري، ويدفع بالشراكة الوطنية نحو صدارة مشهد التحولات الداخلية، التي تأخرت أكثر مما ينبغي، فأيّهما سيختار السوريون؟
(*) بالتزامن مع “الميادين“