انتهت الانتخابات النيابية الى ما انتهت اليه، وسيعود المواطنون اللبنانيون اعتبارا من اليوم الى التعاطي مع رعب أرقام تداعيات الأزمة الاقتصادية والمالية، وصعود الدولار وغلاء الأسعار ونقص الكهرباء وتهديد شح القمح والخبز.. بانتظار وعد الإنقاذ المتأخر التنفيذ منذ أكثر من سنتين ونصف. وما لم يكن متوقعاً على نطاق واسع أن تقذف الانتخابات ونتائجها الانقاذ في غياهب الغيب المدلهم.
في المؤشرات الدالة على عمق المأزق الجديد، اعلن حزب القوات اللبنانية، الفائز بأكبر كتلة حزبية مسيحية، انه لن يشارك في حكومة وحدة وطنية، ولن يجلس على طاولة واحدة مع حزب الله. ردّ الحزب بلسان أحد نوابه بان ذلك يقود لبنان الى الهاوية، محذرا القوات:”اياكم ان تكونوا وقود حرب اهلية”.
صحيح ان الخلاف الجوهري حول السلاح ومفهوم السيادة وطبيعة العلاقات مع الخارج، عربياً كان أم دولياً، الا ان الاقتصاد ليس ببعيد عن جوهر الصراع بين الطرفين أيضاً.
يذكر أن سياسة حزب الله لادارة الأزمة منذ بدايتها ترمي إلى لم الجميع على الطاولة، محذراً من جلوس البعض على التل متفرجاً، كما قال بداية اندلاع الانتفاضة في أواخر 2019، وبدء انهيار الليرة واقفال المصارف وحبس الودائع.
فاضافة الى عزوف حزب القوات عن المشاركة في حكومة ما يسمى “وحدة وطنية” لم تنتج الا التحاصص والفساد والعجز وتبديد الموارد، يتوقع ايضاً أن يعزف نواب تغييريون أو معارضون عن المشاركة في تشكيل حكومي مؤلف مما يسمونه “المنظومة”.
السيناريو الثاني هو تعذر تشكيل حكومة، وبالتالي تولي حكومة ميقاتي تصريف الأعمال وتحميلها وزر فشل ما كانت بدأته ويستحيل عليها استكماله في القابل من اشهر طويلة صعبة، ان لم نقل الأسوأ في تاريخ الأزمة، بانتظار استحقاق رئاسي مشكوك في ثبات مواعيده الدستورية
وبما أن “الحريرية” خارج اللعبة (الى حين ربما) و”الجنبلاطية الجديدة” أقرب الى حزب القوات، وبما أن العونيين (التيار الوطني الحر) سيحاولون التمايز أكثر فاكثر عن حلفائهم، لا سيما في الشأن الاقتصادي كما فعلوا منذ أشهر طويلة بحثاً عن ابراء ذمة من الانهيار، وبما أن رئيس الحكومة الحالية نجيب ميقاتي يقدم نفسه منقذاً غير معني بأسباب الازمة التي يلقيها على ظهر غيره.. فالميدان سيشهد بقاء “حديدان” وحيداً فيه، وهنا نتحدث عن “الثنائي الشيعي”.
فحركة أمل شريك في حكومات المحاصصة منذ ما بعد الطائف الى اليوم بلا اي انقطاع، وحزب الله كذلك منذ 2005 حتى تاريخه. هذا “الثنائي” سيجد نفسه هذه المرة أيضاً وأيضاً معنياً بالشأن الحكومي بامتياز، لأسباب كانت وما زالت متصلة بتكريس فائض قوته، وحماية سلاحه، وحصرية تمثيله للطائفة الشيعية في نظام التحاصص. بيد أن الأمر يبدو محفوفاً بالمخاطر منذ هذه اللحظة الانتخابية الزلزالية.
سيجد “الثنائي” نفسه متلقياً كرة نار الأزمة في حضنه وحده من حيث الشكل على الأقل. اما في المضمون، فهي في حضنه وحضن كل اللبنانيين المتضررين من عدم التوافق على تسريع تنفيذ حلول انعاشية بالحد الأدنى وانقاذية بالأقصى.
سيناريوهان مطروحان: حكومة جديدة تُؤلف سريعاً؛ إستعصاء يبقي الحكومة الحالية في حالة تصريف أعمال. في السيناريو الأول، سنشهد وجوداً أساسياً لـ”الثنائي” الى جانب التيار الوطني الحر. الا ان الأخير، وكما بات واضحاً، سيمعن حتماً في تكرار عناوين دأب على اعلائها متنصلاً من مسؤوليته على قاعدة “ما خلونا”، متعلقة بالتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان وضرورة تغيير الحاكم رياض سلامة. فضلاً عن المطالبة باعادة الأموال المحولة الى الخارج واسترداد الامول المنهوبة.. الى آخر المعزوفة غير الموجهة الى مسامع حزب القوات بقدر ما هي موجهة الى آذان حركة أمل تارةً والى المنظومة طوراً. أجل، فالتيار يستخدم تعبير “المنظومة” هو الآخر كما لو انه في مقاعد المعارضة، وان رئيس الجمهورية ليس العماد ميشال عون!
والسيناريو الثاني هو تعذر تشكيل حكومة، وبالتالي تولي حكومة ميقاتي تصريف الأعمال وتحميلها وزر فشل ما كانت بدأته ويستحيل عليها استكماله في القابل من اشهر طويلة صعبة، ان لم نقل الأسوأ في تاريخ الأزمة، بانتظار استحقاق رئاسي مشكوك في ثبات مواعيده الدستورية. وسيقع عبء تصريف الأعمال على “الثنائي” وحده تقريباً، لأن التيار الوطني الحر سيصعد خطابه غب مزايدات متصلة بالاستحقاق الرئاسي في المدى المنظور، وبمستقبل التيار للسنوات الأربع المقبلة.
يبقى توكيد أن حكومات الوحدة الوطنية تناسب “الثنائي الشيعي”، وسيحاول المستحيل لتشكيلها بشكل أو بآخر سواء الآن أو بعد الاستحقاق الرئاسي. في الأثناء، سيسود الغموض سعر صرف الدولار مع تسريبات من مصرف لبنان أنه لن يستخدم دولارات من الاحتياطي الالزامي الا بقانون يقر في البرلمان، قانون يمكن ان نتوقع استحالته من الآن.
وهناك مستقبل ورقة التفاهم مع صندوق النقد التي اصبحت يتيمة، ليس بسبب نتائج الانتخابات بل منذ ما قبل ذلك مع الانشقاقات السياسية والمصرفية حول قانون ضبط التحويلات والسحوبات (كابيتال كونترول)، واختلاف الاجتهادات في ورطة كيفية رد الودائع لاصحابها. الى ذلك يضاف عنوان موازنة 2022 المحملة برسوم وضرائب، الى جانب مشاريع لرفع تعرفات الاتصالات والكهرباء.. علماً بأن لسان حال حزب الله المعلن عدم تحميل المواطنين تلك الأعباء، متجاهلاً نشوء معضلة حادة من عدم زيادة الايرادات العامة لمقابلة وعود الرواتب الإضافية للموظفين وبدلات نقلهم. ومع صعود الدولار أكثر وشح الايرادات العامة سيزداد اهتراء مرافق الدولة واداراتها ومستشفياتها وجامعاتها..
ماذا بقي من سيناريوهات؟ ربما تقضي الشجاعة في هذه المرحلة المفصلية الاقلاع عن فكرة حكومات التحاصص الوطني وتشكيل حكومة مهمة إنقاذية كالتي اقترحتها المبادرة الفرنسية في 2020، وتفويضها اجتراح حلول انقاذية مؤلمة لكن ناجعة وفق ما بات معروفاً في كل أدبيات خبراء الاقتصاد. الحل الثاني الممكن هو تشكيل حكومة أغلبية مقابل معارضة تراقبها كما في الديمقراطيات السليمة القائمة على التناوب في السلطة. خلاف ذلك، لبنان أمام استعصاء من الداخل يستدعي تدخل الخارج.. ومرة اخرى، وسلملي على الكرامة والسيادة معاً!