وعلى الرغم من أن الحزب استمر في السياسات الداخلية نفسها (دعم ميشال عون والتعامل السلبي مع حراك 17 أكتوبر) والخارجية (بقاءه في سوريا ودعمه حركات المقاومة في فلسطين والعراق واليمن) إلا أن الممارسات النافرة توقفت بظاهرها واتخذت طابعاً مختلفاً بالخطاب والفعل والأداء.
فمنذ الـ2016 انحاز الحزب بشكل لافت للإنتباه لترتيب علاقاته مع من يشبهونه، منطقاً وخطاباً، وترك أمور الصراع اليومي والمناكفات والاشتباك الداخلي لحلفائه الآخرين، بدليل أن جل الغضب الذي انصب في 17 تشرين/أكتوبر 2019 كان من نصيب رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل ورئيس المجلس النيابي نبيه بري.
هذا الكلام ليس دفاعاً عن حزب الله، بل اعترافاً بقدرته العالية على تحويل الانتفاضة الشعبية في الشارع من التصويب عليه بالمباشر، إلى رفع شعارات في الأصل يتبناها في عمقها الاجتماعي على اعتبار مظلومية “جمهوره” وتهميشه في سياق صناعة فكرة الدولة الوطنية لعقود طويلة، وهكذا استطاع الحزب في الأشهر الأولى للانتفاضة بأن يُحوّل قضية السلاح (السلم والحرب أو الصراع مع إسرائيل) إلى مادة صراعية بين مكونات 17 تشرين ومجموعاتها، مستفيداً من وجود مجموعات يسارية لا تغادر أبداً نظرتها الإيجابية للحزب ولو من زاوية مقاومة إسرائيل والإستعمار الأجنبي.
وقبيل “طوفان الأقصى”، عكف حزب الله على استعادة الدفة في مشروع ترتيب جبهة قوى المقاومة، فالمصالحة مع حركة حماس باتت تحالفاً استراتيجياً تجلى بالإعلان عن “وحدة الساحات”، وهذا الأمر كان من الصعب تصديقه إلا مع اعلان حماس بعد معركة “سيف القدس” في 2021 عن تقديرها للدور الذي لعبته غرفة العمليات المشتركة التي يشارك بها الحزب والحرس الثوري الإيراني.
مع دخول قوات الفجر (الجناح العسكري المقاوم للجماعة الإسلامية) من جهة وكتائب القسام “فرع لبنان” من جهة ثانية، على خط المواجهات جنوباً، كسب حزب الله أقله “شبه غطاء سني”، برغم وجود نوع من الانقسام العامودي في الشارع السني حول جدوى جبهة الاسناد والتخوف من خلق “حماس لاند” جديدة وتنظيمات مسلحة سنية
ما بعد الطوفان
بالنسبة لحزب الله، الظرف الداخلي المعقد والأكثر حساسية جرى اختراقه بالعديد من الأوراق الفاعلة والتي يسعى الحزب للاستفادة منها في المستقبل وتحتاج للتركيز الداخلي والفعّال وهي تجسدت بالآتي:
أولاً؛ مع مشاركة حركة أمل في المعركة والاعلان عن سقوط مقاتلين لها في ميدان الجنوب، ظهر حزب الله في موقع الحريص على اشراك توأمه “الشيعي” في كل المسارات، فالجهود التي يبذلها الرئيس نبيه بري في ميدان السياسة والتفاوض جرى ربطها برسائل عسكرية لأمل على اعتبار أن المنبت الأساسي للحركة هو من رحم المواجهة مع العدو نفسه، فيما حرصت الحركة على التنبه للشكل قبل المضمون بدليل تذييل بيانات النعي بعبارة “شهيد على طريق لبنان” وليس القدس كما يفعل حزب الله، ما يؤشر لإدراك رئيس حركة أمل حساسية الظرفين الخارجي والداخلي، وخاصة أن الواقع الداخلي وموقع بري السياسي يُحتّم ضرورة التنبه لأي مصطلح يُمكن استخدامه.
ثانياً؛ مع دخول قوات الفجر (الجناح العسكري المقاوم للجماعة الإسلامية) من جهة وكتائب القسام (الذراع العسكرية لحماس) “فرع لبنان” من جهة ثانية، على خط المواجهات جنوباً، كسب حزب الله أقله “شبه غطاء سني”، وعلى الرغم من وجود نوع من الانقسام العامودي في الشارع السني حول جدوى جبهة الاسناد والتخوف من خلق “حماس لاند” جديدة وتنظيمات مسلحة سنية، إلا أن الثابت أن الشارع السني اللبناني من أقصى الشمال في عكار إلى أقصى الجنوب في الهبارية وكفرشوبا وشبعا منخرطٌ عاطفياً في دعم القضية الفلسطينية ورفدها والتماهي مع مواجهة إسرائيل، خصوصاً في ضوء النموذج الذي قدّمته حماس في لحظة “طوفان الأقصى”، وهو نموذج غير مسبوق في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.
ثالثاً؛ فتح حزب الله الباب أمام قوى اليسار والأحزاب القومية للانخراط في المعركة، فمع اعلان البعث والقومي واستنفار الشيوعي في قرى الجنوب، عادت إلى الاذهان تجربة “الجبهة القومية” التي قامت، بدفع من دمشق، في مواجهة الحركة الوطنية اللبنانية بزعامة كمال جنبلاط (والمدعومة من زعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات)، وعلى الرغم من أن رفاق محسن إبراهيم وجورج حاوي باتوا اليوم أقرب إلى قوى “المعارضة السيادية”، إلا أن إفساح المجال أمام حلفاء حزب الله من يساريين وقوميين وبعثيين قد يُنتج صراعاً هوياتياً مستقبلاً.
“خلية حمد” جديدة؟
ومع دخول الحرب شهرها السادس، وفي ظل ما يتردد عن نقاشات في المؤسستين العسكرية والسياسية الاسرائيلية بشأن خوض حرب واسعة ضد لبنان، يشعر حزب الله أن هناك الكثير من المبررات لاتساع رقعة الحرب الإسرائيلية، منذ اليوم الأول، لكن إسرائيل تتهيب مثل هذه الحرب، أما اليوم، وبرغم كل ما يُحكى عن ضغوط غربية وعربية لمنع بنيامين نتنياهو من تنفيذ اجتياح عسكري واسع لمدينة رفح، ثمة خشية بأن يكون البديل عن معركة رفح تكثيف العمليات العسكرية ضد حزب الله في لبنان وسوريا، مع وصول الاستهداف المركز إلى البقاع وبعلبك والتخوف من تمدده إلى مناطق أخرى، فضلاً عن البعد الإستتثنائي الذي اتخذه استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، لما سيترتب عليه من تداعيات، خصوصاً وأنها المرة الأولى التي يطال القصف الإسرائيلي هدفاً ديبلوماسياً إيرانيا في قلب عاصمة عربية.
في هذا السياق، كان لافتاً للإنتباه ما تم تسريبه عن لقاء جمع حزب الله وحركتي حماس والجهاد الإسلامي، إضافة للجماعة الإسلامية وحزبي البعث والقومي بهدف تقييم الموقف والاستعداد لأية احتمالات مستقبلية قد تُصبح أمراً واقعاً، خصوصاً اذا تهور نتنياهو باتجاه ضرب لبنان أو تكرار ضربة القنصلية الإيرانية، وهذه الاجتماعات تحمل في ظاهرها شكلاً تنسيقياً لمواجهة تحديات الحرب القائمة، إلا أن عمقها الفعلي يصب في خانة محاولة خلق إطار سياسي لقوى لبنانية متقاطعة فى مواجهة المشروع الإسرائيلي.
ويحرص الحزب على الاستفادة من حالة التنافر القائمة بين قوى المعارضة من جهة وبين مكونات سنية لبنانية من جهة ثانية، في ظل حالة من التناغم بين رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي و”الثنائي الشيعي” في الموقف السياسي من الجنوب وغزة، وبالمقابل بدا لافتاً للإنتباه التقارب السياسي الحاصل بين حزب الله والجماعة الإسلامية والذي ترجم باجتماعات مستمرة، ثنائية أو موسعة تضم قوى “وحدة الساحات”، ولا سيما غداة السجال السياسي الذي شهدناه بين نواب بيروت السنة وبين الجماعة الإسلامية على خلفية استقطاب شبان في “قوات الفجر”. زدْ على ذلك أن كثيرين لم يُركزوا على الإتصال الدافىء الذي حصل بين زعيم تيار المستقبل سعد الحريري والمعاون السياسي للأمين العام لحزب الله حسين خليل، حتى أن الحريري كان حريصاً على أن تتخطى المسألة حدود الإتصال الهاتفي، واعداً بترتيب لقاء قريب، وهو الأمر الذي تعذر بسبب روزنامة المواعيد الحريرية، على هامش ذكرى 14 شباط/فبراير الأخيرة.
وتعتبر أوساط سياسية لبنانية أن اختلاق أطر تنسيقية بعد الحرب، يشبه تماماً مرحلة ما قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري مثل لقاء عين التينة، وما سبقه من لقاء “خلية حمد” والذي عُرِفَ حينها باللقاء الوطني الإسلامي وكان رداً على لقاء قرنة شهوان، ذات الطبيعة المسيحية، لذا تعتقد أوساط متعددة لبنانياً أن الإطار الجديد لقوى وحدة الساحات اللبنانية، ربما يكون تعبيراً عن إعادة فرز للقوى والشخصيات في ظل سعي حزب الكتائب وقوى التغيير لإطلاق جبهة سياسية عريضة تضم شخصيات ونواباً ومجموعات، لكن هكذا جبهة ما تزال تصطدم بموقف القوات اللبنانية وأغلبية نواب التغيير.
من هذا المنطلق يمكن فهم كل السياقات الجارية على اعتبار أن كل ما يجري هو تعبئة للفراغ السياسي الحاصل، بانتظار لحظة التفاهم الخارجي على الصيغة اللبنانية والإقليمية وهذا الأمر سيعمل حزب الله على الاستثمار به في ظل الحوارات الجارية بين ايران والدولة السورية من جهة وبين الأميركيين وعواصم عربية من جهة أخرى.