الإكتفاء الذاتي في الصين.. معركة مع الداخل والخارج!

الضرورة الوطنية جعلت الاعتماد على الذات بمثابة معركة تنموية جديدة لا بد من خوضها. فكرة الصين في اعتمادها على ذاتها هي ليست مجرد فكرة نشأت في الحاضر إنما لها جذورها في الماضي وغصونها في المستقبل؛ هي فكرة استخلصتها الصين على مر تاريخ طويل، فالوصول إلى هذا الحاضر المتقدم ما كان ليتم لولا ألم الماضي.

تحقيق الإكتفاء الذاتي 

قد يكون مفهوم “الإكتفاء الذاتي” مصطلحاً تطلقه جميع الأمم، وربما قد سمعناه مراراً، إلا أن لتطبيقه في الصين طريقة مختلفة ناتجة عن آلية تفكير مختلفة لأمة اختبرت الاستعمار والحروب حتى استطاعت الوصول إلى ما هي عليه الآن. فما هو الإكتفاء الذاتي وفقاً للنظرة الصينية؟

تنطوي فكرة الإكتفاء الذاتي في الصين على جانب أمني غير تقليدي، فالإكتفاء والاعتماد على الذات هو بمثابة خط دفاع عن النفس، ولا سيما حالياً في ظل تزايد الضغوط الغربية على بكين، فدخول الصين في النظام العالمي بدون تأمين إكتفاء ذاتي هو بمثابة دخول إلى منظومة عالمية بدون حماية وقائية. وهو ما يُعيدنا إلى تاريخ التبادلات التجارية في العالم، عندما كانت تتم بين دولة متقدمة عظمى ودولة متخلفة، إذ أنه وفي الغالب كانت تتم التجارة لصالح الدولة المتقدمة، وبما لا يراعي مصالح الدولة المتأخرة، وهو سببٌ كافٍ لأن ترغب الصين اليوم كدولة نامية في تحصين نفسها بعيداً عن أي مغامرة قد تخلّ بأمنها، فعبر التاريخ كانت التجارة الدولية بين مختلف الدول وتحديداً الدول المتقدمة والمتخلّفة بمثابة عمليات سيطرة وتبعية لأنها لا تجري بين أطراف متكافئة وكذلك لا تؤدي إلى تحقيق أي نوع من التقدم للدول المتخلفة، مما يُشكّلُ فخّاً يجب تجنبه.

ما الذي يدفع الصين إلى التركيز على الجانبين الغذائي والتكنولوجي في مجال الإكتفاء الذاتي وتحقيق الأمن؟

إن الاستمرار في العمل والإبداع يحتاج إلى غذاء كاف ومناسب، وفي الواقع هناك فكرة سائدة في المجتمع الصيني بأنّ الصحة تقع في المقام الأول، وبعد الصحة تأتي نهضة الأمة. وقد ذكر الرئيس الصيني شي جين بينغ أن الأمن الغذائي هو خط أحمر إذ قال: “وعاء الأرز للشعب الصيني يجب في جميع الأحوال، أن يكون بقوة بين أيدينا”. وأما الأمن التكنولوجي فهو مطلب ضروري لمواكبة العصر.

الأمن الغذائي خط أحمر

“لا يُعرف الأدب والشعر إلا عندما يُملأ المستودع”، هو قول صيني مأثور يعني أن الأدب هو ترف في الأوقات التي تجوع خلالها الأمم، وبالتالي لا أولوية تتقدم على تحقيق الأمن الغذائي لبلاد كالصين، ولذلك فإنّ ضمان هذا النوع من الأمن يُعدّ أيضًا شرطًا أساسيًا مهمًا، ليس فقط من أجل تحقيق الإكتفاء الذاتي وإنما أيضًا لتحسين الصحة والبنية الجسدية للمواطنين الصينيين التي غالبا ما تُجرى عليها دراسات وأبحاث لمعرفة الغذاء الملائم الذي يساهم في تحسين نوعية الحياة، لا سيما بالنسبة للأطفال في الأرياف النائية.

تدرك الصين جيدًا أهمية تحقيق الإكتفاء الذاتي لأنه الوسيلة الرئيسية لزيادة ثقلها سواء على الساحة الدولية أو حتى على صعيد رفاهية الشعب الصيني في الداخل، فالصين دولة تبحث في داخلها أكثر ما تبحث في خارجها، ولذلك تنظر إلى ما يمكن أن تُطوّر نفسها به بعيدًا عن النظر في أطماع الآخرين

ووفق بعض الإحصائيات، استمرت مؤشرات الطول والوزن عند الأطفال الصينيين في النمو بسرعة منذ سنة 1975 إلى سنة 2015. وإذا تم أخذ الفئة العمرية من 5 إلى 5.5 سنوات، فقد لوحظ أنه قد ازداد طول الأولاد والبنات بمقدار 8 و 8.2 سنتم على التوالي. كما ارتفع متوسط العمر المتوقع من 35 سنة عام 1949 إلى 77 سنة أي أكثر من الضعف، وهو ما يعطي فكرة عن أهمية الغذاء كعامل مساعد على تحسين الصحة للأجيال وبالتالي تحسين إنتاجية القوى العاملة. فحتى عندما أعلنت الصين تخلصها من الفقر المدقع كانت قد قدمت مساعدة إلى العالم أجمع، لتخفيف حدة الفقر العالمي، ولذلك يُعدُّ تحقيق الإكتفاء الذاتي الغذائي في الصين عاملًا مساعدًا في تحقيق الأمن الغذائي العالمي، فتأمين الغذاء لمليار و400 مليون مواطن ليس بالأمر السهل. هذا بالإضافة إلى أنه لا يمكن النظر إلى قضايا الغذاء من منظور اقتصادي فحسب، بل يجب النظر إليها من منظور سياسي وأمني، فضمان الأمن الغذائي الوطني يُشكّل أساساً مهماً لتحقيق التنمية الاقتصادية، والاستقرار الاجتماعي، والأمن الوطني، وهنا لا بد من الإشارة إلى أنّ معظم المبادرات العالمية التي تُطلقها الصين مثل مبادرة الأمن العالمي ومبادرة التنمية العالمية، والتي تتقاطع عند أهمية الحصول على أمن عالمي غير تقليدي، يُعدُّ الأمن الغذائي في مقدمة بنودها.

حوافز ومكننة وحوكمة

على الصعيد الداخلي ومن أجل ضمان الأمن الغذائي، اتخذت الصين تدابير متعددة ومنها على سبيل المثال: عزّزت الحكومة المركزية مسؤوليات الحكومات المحلية، وزادت المساحة الإجمالية للحبوب المزروعة في مختلف المناطق. قامت بزراعة أصناف عالية الجودة لتحقيق نمو في إنتاج الحبوب؛ كذلك بعد وقوع كوارث مناخية شديدة، تم اتخاذ تدابير علاجية سريعة مثل إعادة الزراعة وإدارة الحقول للحد من الخسائر الناجمة عن الكوارث؛ وأخيراً تمت زيادة الحد الأدنى لسعر الشراء وتوسيع نطاق التغطية الزراعية لمختلف المناطق، وبالتالي تحسين حافز الإنتاج لدى المزارعين. كما يتم العمل على حماية الأراضي المزروعة وتحقيق الاستقرار في مساحة زراعة الحبوب، تعديل هيكل صناعة الحبوب وتوسيع مساحة زراعة محاصيل زيت فول الصويا.

إقرأ على موقع 180  أمريكا القابلة للكسر!

وفي الوقت نفسه، فإن استخدام المعدات الذكية وتعزيز المكننة الزراعية والذكاء الاصطناعي في مجال العمل الزراعي يمكن أن يحل بشكل فعّال مشكلة انخفاض نسبة القوى العاملة. أما خارجيًا وفي مواجهة التقلبات في سوق الحبوب على المستوى الدولي، غالبًا ما تُفكّر الصين بالمشاركة بنشاط في حوكمة الأمن الغذائي العالمي وتعزيز استقرار سلاسل التوريد من خلال التعاون الدولي الفعّال وكذلك من خلال تعزيز أمن الممرات التجارية العالمية.

مواكبة العصر الجديد

على الصعيد التكنولوجي، وتحديدًا في المرحلة الراهنة، فإنّ القيادة الصينية تضع هدفًا نُصبَ عينيها: “لن تقوم أمة إلا على أساس علمي وتكنولوجي، فقوة البلاد تأتي من قوة العلم والتكنولوجيا”. فكرةٌ تُلخّص طريقة التفكير الصينية في تحقيق الإكتفاء الذاتي في العلوم والتكنولوجيا. فتحقيق الاعتماد على الذات علمياً وتكنولوجياً بشكل رفيع المستوى هو حجر الزاوية الاستراتيجي للرخاء الوطني والنهضة الوطنية. وهو في الوقت ذاته خيار لا مفر منه للتعامل مع المخاطر والتحديات وحماية المصالح الوطنية. وكذلك هو مطلب أساسي لتنفيذ مفاهيم التنمية الجديدة، وبناء مجتمع متكامل.

يحتل الإنفاق على البحث العلمي والتطوير في الصين المرتبة الثانية في العالم، ويحتل العدد الإجمالي للعاملين في مجال البحث والتطوير المرتبة الأولى في العالم؛ كما ارتفع تصنيف مؤشر الابتكار العالمي إلى المرتبة 11، إذ تتمتع الصين اليوم بقدرة ابتكارية قوية

ترى الصين أنّ تسريع الاعتماد على الذات في العلوم والتكنولوجيا هو المفتاح لضمان دورة محلية إنتاجية سلسة على الصعيد الداخلي وكذلك يساهم في إعطاء الصين مزايا جديدة. ووفقًا لتعبير “العصر الجديد”، فإنّ التنمية عمومًا والتنمية عالية الجودة خصوصًا، تتطلب حلولًا علمية وتكنولوجية أكثر من أي وقت مضى. فبناء نمط تنموي جديد مناسب للوضع الراهن يحتاج إلى المزيد من الابتكار التكنولوجي.

وحسب الأرقام، يحتل الإنفاق على البحث العلمي والتطوير في الصين المرتبة الثانية في العالم، ويحتل العدد الإجمالي للعاملين في مجال البحث والتطوير المرتبة الأولى في العالم؛ كما ارتفع تصنيف مؤشر الابتكار العالمي إلى المرتبة 11، إذ تتمتع الصين اليوم بقدرة ابتكارية قوية وإمكانات تنموية كافية.

الإكتفاء والانفتاح 

عندما سألت إحدى وسائل الإعلام مسؤولًا صينيًا عن إمكانية تقليل الاعتماد على الموارد الأجنبية المستوردة مثل خام الحديد والنفط الخام والغاز الطبيعي وفول الصويا لتحقيق اقتصاد أكثر إكتفاء ذاتيًا، أجاب بالآتي: “هذه القضية تنطوي على الفهم والاعتراف ببناء نمط تنمية جديد، إن بناء نمط تنموي جديد هو قرار رئيسي يتم اتخاذه على أساس التغيرات في مرحلة التنمية وبيئتها وظروفها ولكنه لا يعني انغلاق الصين على ذاتها”، وهو ما يؤكد على العلاقة بين الإكتفاء الذاتي و التنمية في الداخل الصيني.

وحول العلاقة بين الإكتفاء الذاتي والانفتاح على الخارج، وتحديدا في الحالة التي يُعتبر فيها التوزيع المحلي والإكتفاء الذاتي المحلي نقطة لتقليص الانفتاح على الخارج، فقد تم التأكيد مرارًا أنّ بناء نمط تنموي جديد هو دورة مزدوجة محلية ودولية مفتوحة، وليس دورة محلية واحدة مغلقة، فوفقًا لاعتقاد الصين لا يمكن لأي بلد متابعة بناء نفسه بطريقة مغلقة بعيدًا عن الاندماج في النظام العالمي، فبناء الجدران بين الدول لا ينفع بل يجب التوجه إلى بناء الجسور، وهو ما عبّر عنه الرئيس الصيني شي جين بينغ بقوله: “اقتصاد الصين بحر، والاقتصاد العالمي بحر أيضًا، وجميع البحار والمحيطات في العالم مترابطة”..

ووفقا لتجربة الصين خلال السنوات الماضية التي تبدأ من عصر الإصلاح والانفتاح عام 1978، فقد تم استخدام الأسواق والموارد المحلية والأجنبية لتهيئة الظروف لتعزيز بناء اقتصاد السوق وإثراء العرض ودفع التحول والارتقاء بالهيكل الصناعي وتنمية مزايا جديدة في المنافسة الدولية وتحسين القوة الوطنية الشاملة، وهو ما أدّى إلى تحسين جودة عوامل الإنتاج.

خاتمة 

تدرك الصين جيدًا أهمية تحقيق الإكتفاء الذاتي لأنه الوسيلة الرئيسية لزيادة ثقلها سواء على الساحة الدولية أو حتى على صعيد رفاهية الشعب الصيني في الداخل، فالصين دولة تبحث في داخلها أكثر ما تبحث في خارجها، ولذلك تنظر إلى ما يمكن أن تُطوّر نفسها به بعيدًا عن النظر في أطماع الآخرين.

Print Friendly, PDF & Email
لُجين سليمان

باحثة وكاتبة وصحافية سورية

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  دلالات أحداث كازاخستان: وضوح في الشرق.. إرتباك في الغرب