إذا كان شاعر البنفسج العراقي مظفر النواب قد أحدث مثل هذا التأثير والامتداد على صعيد العالم العربي من أقصاه حتى أقصاه ومن المحيط إلى الخليج كما يقال، لا سيّما بعد اغترابه عن بلده منذ العام 1969، إلّا أنه لم يلق الإهتمام المطلوب من جانب اليسار العراقي الرسمي وهو الذي يمثل بيئته الأولى ومنطلقه الأول، بل كان تعامل اليسار العراقي معه سلبياً، سواء بالإهمال من جهة أو بمحاولة الانتقاص منه من جهة ثانية، على الصعيدين الشخصي والإبداعي، فتارة بزعم نضوب وسيلته الإبداعية بعد أن تحوّل إلى الفصحى، وتارة أخرى لمؤاخذات سياسية، لا سيّما في أواسط السبعينيات وقد يكون جزء منها “إرضاءً” لحزب البعث “الحليف”، خصوصاً وأنه انحاز إلى القيادة المركزية في الصراع الداخلي، ولم تكتب أي دراسة أو بحث أو نقد جاد لإبداعه طيلة سنوات السبعينيات والثمانينيات، في حين كان الاهتمام العربي به يزداد ويتّسع من جانب حركة المقاومة الفلسطينية أو من جانب المثقفين العرب بشكل عام، حيث أصبح مظفر النواب ظاهرة وتظاهرة شعرية أينما حلّ وحيثما رحل يحتشد لسماعه الآلاف من الشابات والشبان المتعطش للتغيير، وكانت الأمسيات التي تسجل على كاسيتات بمثابة منشور سري مبشر بالعشق والثورة والجمال يتناقله المعجبون به وبشعره.
لقد وضع مظفر النواب مسافة بينه وبين العمل الحزبي والسياسي الروتيني اليومي، لكنه لم يتوانَ عن النقد الفكري والثقافي للمواقف والتوجهات ضمن اجتهادات وقناعات ظلّ متمسكاً بها، وعبّر عنها في العديد من القصائد، وإذا كانت مرحلة المنفى الأولى أقرب إلى المباشرة كما عكست “وتريات ليلية” فإن المرحلة الثانية امتازت بالرمزية وغير المباشرة واتسمت بمسحة صوفية وظهرت تلك واضحة في مجموعته “المساورة أمام الباب الثاني“.
ولعلّ المواقف السلبية من جانب اليسار العراقي الرسمي، إزاء مظفر النواب، ألحقت ضرراً باليسار نفسه، ودلّت على قصر نظر العديد من الإدارات الحزبية، لا سيّما بتعاطيها مع شؤون الثقافة والمثقفين وهي مواقف ظلّت مستمرة في ما يتعلّق بالسياسة الثقافية والمثقفين والمبدعين، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر المواقف من كل من الروائي ذو النون أيوب والشاعر بدر شاكر السياب والكاتب والأكاديمي صلاح خالص وعشرات الأسماء الكبيرة، من ضمنهم مؤخراً الشاعر سعدي يوسف، بل إن قسماً غير قليل منهم تعرّضوا للتنكيل وجرت محاولات لحجب نصوصهم عن النشر، ناهيك عن المحاربة بالأرزاق والأمثلة عديدة لا يتّسع المجال لذكرها.
وإذا كان خروج بعض المثقفين من الأحزاب الشمولية يضيق أمامهم فرص النشر والانتشار، إلّا أن خروج بعضهم الآخر من أمثال مظفر النواب فيه خسارة للأحزاب ذاتها، لا يمكن تعويضها بآلاف المنتسبين، وذلك درس لا غنى عنه للمشتغلين في عالم السياسة بلحاظ علاقته بعالم الثقافة والإبداع، ناهيك عن “وصايا” الرفيق فهد التي طالما يتم ترديدها بطريقة أقرب إلى التعاويذ والأدعية، خصوصاً حين تتحوّل إلى مجرّد نصوص صمّاء وعظية وذات سمة نمطية أقرب إلى المحفوظات، لا سيّما بإهمالها عند التطبيق، بل العمل بالضد منها وأنقلها هنا للاستذكار والفائدة “أيها الرفيق كن تقدمياً.. في نظرتك نحو العلم والفن والأدب والثقافة، ودافع عنها باعتبارها ملك شعبنا.. وملك الإنسانية التقدمية.. واحترام العلماء والفنانين والأدباء دون الالتفات إلى قومياتهم وأجناسهم..”.
وباستثناء ما نشره كاظم غيلان من دراسة أولية في “مجلة الثقافة” التي كان يرأسها صلاح خالص والموسومة “مع قصائد مظفر النواب خارج ديوان الريل وحمد”، آب (أغسطس) 1975 يكاد يكون مظفر النواب قد اختفى من الصحافة الشيوعية الرسمية، واستمرّ الأمر حتى حين انتقلت هذه الصحافة إلى المعارضة في أواخر السبعينيات وإن ظلّ جمهور اليسار العراقي بشكل عام متشبثاً بمظفر النواب، ويتابع أخباره ونشاطاته ويتناقل قصائده ويدونها ويوزّعها فيما بينه، بل ويتبادل قصصاً أقرب إلى المتخيّل عنها مثل المشاركة في الثورة الإرتيرية مروراً بالثورة الظفارية إلى الكفاح المسلح في فلسطين، ولعلّ ذلك نابع من التسريبات عن زياراته لحركات التحرر الوطني حينها وفي مواقعها المتقدمة، ولكن حين أصبح مظفر النواب منارة شامخة في الوسط الثقافي العربي، بدأت المؤسسة الحزبية الرسمية هي التي تتقّرب منه وتجامله حد “التملّق” في مسعى لتعزيز مكانتها.
وكنت قد سمعت الكثير من الحكايا من مظفر النواب شخصياً، كما أعرف تفاصيل عن مواقف البعض للنيل منه، وحين أتعرّض إلى هذا الموضوع، فليس الهدف منه نكأ الجراح، بل لأخذ الدروس والعبر،”فذكّر إن نفعت الذكرى” (القرآن، سورة الأعلى 87، الآية 9).
وأتذكّر أن شريط كاسيت وصلني كان فيه النواب يهجو الوضع السياسي في العراق في أواسط السبعينيات بما فيه مواقفنا، ولم أعثر على تلك القصيدة التي وردت فيه طيلة الفترة الماضية حتى وجدتها لدى حسين الهنداوي في مقالته “فتى العراق مظفر النواب” والقصيدة بعنوان “سالوفة أبو سرهيد” وهي ستة سوالف كما يقول وقد نشرت حينها في “جبل شاخ رش” في كردستان أوائل نيسان (ابريل) 1974 كما يذكر:
أسولفلك
أسولفلك
وسوالف ليل
وحصيني نفط
وأحزاب إجاهه الموت
طرك الله وكراسي بالوزارة
ولبست النفنوف
خل يكعد فهد ويشوف
يغاتي بغيبتك كام الشكنك والبتل والزبل والخريط
وانته تكلي لو خيط الفجر بيّن
إلزموا الخيط ولتعوفوه
لكن كلّي وين الخيط؟
وين الخيط؟
وقد اطّلعت على دراسة ثانية للصديق حسين الهنداوي الذي كان على ملاك القيادة المركزية (الجناح الشيوعي الآخر) نشرها في “مجلة أصوات” في باريس التي كان يرأس تحريرها. وأود أن أشير إلى أن من الكتب المهمة الأولى التي أرّخت لمظفر النواب هو ما نشره باقر ياسين في دمشق العام 1988 وقد تحاورت معه بشأنه مطولاً عدّة مرات والموسوم “مظفر النواب حياته وشعره”، كما جرت محاولات لجمع قصائده ونشرها وأحياناً دون موافقة منه، حيث كانت تُجمع من بعض الكاسيتات لأماسي كان النواب يعقدها في دمشق أو السلميّة أو طرابلس أو بيروت أو أوروبا أو أمريكا وكندا، لكنها كما قال لأكثر من مرة لا تعبّر عنه ولا تمثله، علماً بأن ما صدر عنه هو ديوان “الريل وحمد” العام 1969 الذي صمم غلافه الفنان ضياء العزاوي و“وتريات ليلية” طبع في الجزائر في أواخر السبعينيات والطبعة الثالثة العام 1983، و“حجّام” و”المساورة أمام الباب الثاني“.
وقد بذلتُ مع دار الكنوز الأدبية التي كان صاحبها عبد الرحمن النعيمي (سعيد سيف) ورفاقه محاولة جادة لطبع “الأعمال الكاملة”، وذلك بالاتفاق مع مظفر النواب، وتعهدت الدار بإخراجها بأحسن حلّة وتدقيقها والحصول على موافقته الخطية قبل طبعها، لكن ذلك لم يتحقق لأسباب موضوعية وذاتية، ومنها عودة أصحابها إلى البحرين بعد الانفراج الذي حصل فيها العام 2000، وعدم استكمال جميع أعماله الموزعة في كاسيتات عديدة.
وكان عبد الرحمن النعيمي أميناً عاماً للجبهة الشعبية في البحرين وسبق له أن التقى مظفر في عدن وظفار في السبعينيات، ومعه رفيقه عبد النبي العكري (حسين موسى) وظلّت العلاقة بين الجبهة، وفيما بعد جمعية العمل الوطني “وعد” التي انبثقت عنها، وبين مظفر متينة ووثيقة وقد منحه “منتدى عبد الرحمن النعيمي الفكري” في العام 2016 وساماً ودرعاً خاصاً، علماً بان المنتدى تأسس بعد رحيل النعيمي، وبسبب ظروف مظفر الصحية تسلمته نيابة عنه، وكنت قد تعرّفت على النعيمي في عدن أيضاً خلال وجودي لإلقاء محاضرة عن “ديمقراطية التعليم والإصلاح الجامعي” في العام 1974، وقد دوّنت في سردية موسّعة علاقتي التاريخية به في كتاب أصدرته عنه بعد رحيله والموسوم “عبد الرحمن النعيمي – الرائي والمرئي وما بينهما، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 2016″.
هناك قوة خفية وشحنة جاذبة مع شيء من الشجن والتوجّع والتحدّي في لغة مظفر النواب فهي لغة مركبة كيمياوياً، فقد تنفجر في المواجهة وقد تتحوّل إلى سمفونية بهارموني في المحسوسات والصوفيات، حيث يختفي الصخب والضوضاء الذي تحدثه قصيدة التحدي والمباشرة، فلكل حرف صوت وإذا اجتمعت الحروف تشكلت كلمات وجمل ومعان ودلالات
تجدر الإشارة إلى أن دراستين مهمتين كانتا قد صدرتا عن الشاعر الأولى في العام 1996 والموسومة “مظفر النواب شاعر المعارضة السياسية” لـ عبد القادر الحسني وهاني الخير، والثانية لـ حسين سرمك حسن التي هي بعنوان “الثورة النوابية” العام 2010 وقد أشرت إليها في مقالتي عن مظفر النواب المنشورة في صحيفة الاقتصادية (السعودية) بتاريخ 13/5/2011 بعنوان “بعد سنوات من التمرد.. مظفر النواب يعود إلى بغداد”.
وقبل أن أختتم هذا المقطع أود أن أشير إلى أن مظفر النواب من مواليد 1934، وهناك من يقول 1932 استناداً إلى الطبيبة التشيكية فلاستا كالالوفا التي عاشت في العراق منذ أوسط العشرينيات وغادرته في العام 1932، واستند في هذا التاريخ إلى الرواية التي أصدرتها ايلونا بورسكا بعنوان “طبيبة في بيت البرزنجي” وقام بترجمتها حسين العامل في أواخر التسعينيات ونشرتها دار المدى في دمشق العام 2000، وحسب ما يذكر مظفر النواب أنها هي التي ولّدته وهذا يعني أنه ولد في مطلع العام 1932، وقد دققت ذلك بتنبيه من الصديق عصام الحافظ الزند.
وقد قطع مظفر النواب غربته بزيارة عابرة إلى الوطن في العام 2011 بدعوة من جلال الطالباني رئيس الجمهورية حينها، إلّا أنه فضّل البقاء معتّقاً في منفاه، وكان مكتب رئيس الوزراء نوري المالكي قد بذل عدّة محاولات للتواصل معه وأجرى عدّة اتصالات معي، وكذلك السفارة العراقية في بيروت، لكنه ظلّ معتكفاً في صومعته لائذاً بعزلته المجيدة، خصوصاً بعد التدهور الشديد في صحته، وهذا ما دفعني لعدم اللقاء به لكي أحتفظ بصورته المتألقة في ذهني لاعتبارات نفسية وعاطفية، وهو ما اتبعته أيضاً مع الجواهري وأديب الجادر ومحمود البياتي وكوثر الواعظ وصالح دكّله ومحمد بحر العلوم ومحمد حسين فضل الله وغيرهم من أصدقاء وشخصيات عامة، علماً بأنني كنت دائم السؤال من محيطهم عن أوضاعهم الصحية ومتابعاً لأخبارهم.
***
أشعر أحياناً وربما معي كثيرون أننا حين نستمع إلى مظفر النواب فإن الكلمات لا تخرج من فمه، بل يتحدث بفؤاده، وهكذا يطغى عنده حب اللغة لدرجة العشق والتولّه، وهو الذي يجمع بين جوانحه عفوية طفل ودهشته وتلقائيته وصدقه ومشاكسته وتمرده، مثلما يجمع تجربة شيخ مجرب وحكيم خبِر الحياة ودروبها الوعرة، ونتعجب كيف استطاع أن يوائم بين النقيضين، بساطة الطفل وحكمة الحكيم.
وكان مظفر النواب حريصاً على جودة ما ينتج حتى لتبدو متوافقة مع قيم الجمال والخير والحرية، وتلك باقة أحلامه، وهو لا يكتفي بالعابر أو العيش في اللحظة الراهنة، بل إن عقله يعيش في المستقبل، باستعارة من الروائي الروسي مكسيم غوركي حين وصف أحد ثوريّ عصره بقوله: إن نصف عقله يعيش في المستقبل، وبقدر ما كان مظفر باستمرار مع الناس، لكنه كان يميّز نفسه عنهم، إنه يشبه المجموع، لكنه ليس على شاكلة أي واحد منهم.
ولعلّ ما يكتبه هو أقرب إلى صيحة انبهار، لأنه يرى ما لا يراه الإنسان العادي، وكثيراً ما يتوقف وتسترعي انتباهه وتشغل تفكيره قضايا يمرّ عليها البشر العاديون دون أن تلفت انتباههم، فعينه وذاكرته البصرية كانت شديدة الملاحظة، حيث صوّر الهور بكل ما فيه واستمع إلى أنغامه من لهجة أهله، فمظفر راصد وقارئ ومصوّر وموسيقي يحسّ بالأشياء ويشمّها ويسمع نبضها، ويقوم بتفكيك الظواهر وإعادة تركيبها لاستجلاء قدراتها وإظهار دلالاتها، بالمألوف واللاّمألوف، وهو لا يستسهل كتابة قصيدته لساعة أو ساعتين، وأحياناً تطول بيده حياكتها لأشهر أو حتى لسنوات، فلم ينجز قصيدته للريل وحمد دون عملية هضم وتمثّل للحالة الجديدة التي دخلها منذ زيارته الأولى للأهوار، حتى نضجت عنده القصيدة على نار هادئة دامت أكثر من سنتين، أي منذ العام 1956 إلى العام 1958، فخرجت من التنّور طازجة شهية، وهذا هو الفرق بين الشاعر الجيد والشاعر الرديء، وكذلك الكاتب الجيد والكاتب الرديء لأن البحث عن الجودة ينبغي أن يبقي الكاتب والشاعر والمبدع بشكل عام ضنيناً بنفسه واسمه وقلمه وريشته وصوته وأداته، لذلك يبقى على قلق كما يقول المتنبي:
فما حاولت في أرض مقاماً/ ولا أزمعت عن أرض زوالا
على قلق كأن الريح تحتي/ أوجهها جنوباً أو شمالاً
ولذلك بقي مظفر النواب كثير التردّد في النشر لأنه يعيد ويصقل ويحسّن ويضيف ويحذف ساعياً للرقي والجودة، وكل شاعر جيد أو مبدع جيد بشكل عام هو قارئ جيد، يجيد الإصغاء بكل حواسه، ناهيك عن ضرورة أن يكون خياله خصباً، فلا شاعر أو مبدعا بدون خيال أو حتى يوتوبيا، ففي كل فلسفة هناك شيء من اليوتوبيا، والمبدع لا يصبح مبدعاً إلّا بالقارئ، حيث ينمو ويتطور ويتجدّد معه، ولذلك تراه غير قابل على نفسه ولا قناعة له بما ينتج لأنه يريد الأفضل والأحسن والأبهى، خصوصاً إذا ما قرأ نصوصه بعين الناقد، لا سيّما إذا اختلى بنفسه.
وثمة خيط رفيع بين العبقرية والجنون، ولعلّ هذا ينطبق على الشعر والموسيقى والفنون بشكل عام أكثر من غيرها، لذلك يقال أحياناً جنون الشاعر أو عبقريته، شيطانه أو رحمانه، بمعنى الإلهام والإيحاء الذي يأتيه من مصادر غامضة، وكنت قد سألت الجواهري عن “اللحظة الإبداعية” وكيف ينزل عليه أو يفاجئه الإلهام؟ فقال إن شيئاً ما يوشوشني ويهمس في أذني فأستجيب إليه، ولا سيّما حينما يستحثه على الخطى ويحفّزه ويستفزه ليأتي بطلعته البهية وصوته الجميل ورشاقة حركته.
هناك قوة خفية وشحنة جاذبة مع شيء من الشجن والتوجّع والتحدّي في لغة مظفر النواب فهي لغة مركبة كيمياوياً، فقد تنفجر في المواجهة وقد تتحوّل إلى سمفونية بهارموني في المحسوسات والصوفيات، حيث يختفي الصخب والضوضاء الذي تحدثه قصيدة التحدي والمباشرة، فلكل حرف صوت وإذا اجتمعت الحروف تشكلت كلمات وجمل ومعان ودلالات، فما بالك حين تكتسب مسحة موسيقية، وهكذا هو شعر مظفر، إنه يضع حواسك كلّها في حالة تأهب، لا سيّما الأذن والعين، فشعر مظفر مغنّى ومطرّب ومسموع على طريقة القدامى.
وقد سألته مرّة من تفضّل أن يغني شعرك، فذكر المطربين الياس خضر وسعدون جابر، وسألته عن آخرين، فلم يحبّذ ذلك، وكان أحد المطربين قد استمات في الحصول على موافقة لنص يغنيه، فلم يستجب له مظفر النواب، مع أنه يحمل صوتاً جميلاً، وقال لي: إن طبقات صوته لا تتناسب مع قصائدي، وهناك علاقة بين دلالات الحروف والنقطة والفارزة والوقوف والانطلاق والسكون والصعود، وكلها تشعر بها مع روح مظفر حين يتلو قصيدته، فجذوة الشعر في قصائده مبثوثة في خلاياه، وكل ما يلزمها شرارة صغيرة ليشتعل السهل كله على حد تعبير ماو تسي تونغ، وتلك بصمة مظفر وتميّزه.
وإذا كنّا نقول لا يمكن تعريف الشعر، فهو عصي على أي وصف، لأنه لغة متفردة داخل اللغة المألوفة على حد تعبير الكاتبة سلام خياط في كتابها القيّم والمتميّز “إقرأ” – صناعة الكتابة وأسرار اللغة، دار رياض الريس، بيروت- لندن، 1999، وهو الوصف ذاته الذي تقتبسه من إسحاق الموصلي بشأن النغم إذ أنه من الأشياء التي تحيط بها المعرفة ولا يدركها الوصف.
لقد رسم مظفر النواب الحزن لوحات وألواناً لدرجة فاض به الكيل وهو يعشّق الحزن بالحزن ويعتّق الدنان بخمرته السلسة، ويعجن الحروف ويدوف الكلمات منقّعة بقطراتها الصافية النقية وورودها المتفتحة الزكية.
چنّه خدّك مر على الزعرور
وشال الفي وحطة بوسط حجري
والحواجب چنهه مطرت گبل ساعة
ورسمت النوم عله صدري
والصبح كلش
والبساتين عرگانه مسچ ودموع
احچي بكل حرير الله التعرفه وياك
وتگلي خشن
خشن حزن الليل
صيحة ريل راجع من وليف بعيد كلش
مثل الفراگين كلش
حزن ينطخ بحزن
(قصيدة ذيب حزن الليل)
(*) الجزء الأول بعنوان: مظفر النواب شاعر البنفسج المتلألىء