أمل كعوش يليقُ بكِ تمثيل الأسطورة.. الفلسطينية

في الأمسية الغنائية التي قدّمتها أمل كعوش على خشبة "مسرح المدينة" في بيروت، بعنوان "ولاد الأرض"، لم تكن مجرد مطربة تتغنى ببطولة شعبها وتضحياته. صبية مثقفة وحكواتية متميّزة؛ مُغنية وصاحبة صوت نقي ومخارج حروف واضحة حتى وهي تغني بعدة لهجات فلسطينية وشامية.

لم تأتِ أمل كعوش طوال الأمسية، التي دامت تسعين دقيقة، على ذكر “المقاومة” في فلسطين بالإسم ولكن المقاومة حضرت بزي أمل الفولكلوري الفلسطيني والكوفيات التي ارتداها الفريق الموسيقي الرباعي الذي رافقها، كما في حركة جسدها وهي تتفاعل مع كلمات وسطور وألحان أغانيها، حتى وهي تسترجع بضعة أغانٍ شعبية تتردد في الأعراس، وهنا مكمن ابداعها بتقديم وتنسيق باقة غنائية تحاكي اللحظة الفلسطينية.

من “مراكبنا عا لمينا” إلى “المراجيح” إلى “نصرانيات مرج عامر” مروراً بالأغاني الشعبية الوطنية التي ردّدها أبناء فلسطين إبّان انتفاضتهم الأولى عام 1987 وصولاً إلى “ولاد الأرض” (نص من تأليفها) وانتهاءً بـ”يمّا مويل الهوى، يمّا مويليّا ضرب الخناجر، ولا حكم النذل بيّا”.

في تسلسل هذه الأغاني، روت أمل كعوش بطريقة بسيطة قصة فلسطين من النكبة إلى “الطوفان”، وكانت قبل بعض الأغاني تشرح كيف وردت هذه الأغنية مستعينة بقصة روتها لها جدّتها أو جدّها، لأجل التوكيد أن الذاكرة الفلسطينية لا تموت وفلسطين ليست مجرد أرض بل هي انتماء تتناقله الأجيال. ليس صحيحاً ما يُقال “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.. والدليل أن شعب فلسطين متجذر ليس بصكوك الأرض ومفاتيح البيوت، بل بتراث غني وزاخر هو جزء من تراث بلاد الشام.

وكما غنت أمل في “ملتقى السفير” في الربيع الماضي، كانت في كل رواية صغيرة ترويها، من ماضي فلسطين وحاضرها، تشد انتباه المئات ممن حضروا أمسيتها في “مسرح المدينة”، وكأن على رؤوسهم الطير، وباتت بانتقالها من دور الراوي إلى دور المغني وضابط الإيقاع وقائد الأوركسترا الصغيرة التي رافقتها (عازف كونترباص، وعازف غيتار وعازف بزق وضابط ايقاع) تتسيد خشبة المسرح براحة تامة وبطريقة سلسلة تقول معها للمستمع والمشاهد أنا هنا وإيّاك أن تُضيّع ثانية من المتعة والانتباه.

لقد نجحت أمل كعوش في تحويلنا إلى أطفال حالمين عندما طلبت منا إغلاق أعيننا وتركيز تفكيرنا على أي مدينة فلسطينية نتخيلها ونتخيل معها أنفسنا نجوب شوارعها وأزقتها، ومضت تغني بعيون مغمضة وبلغة جسد مليئة بالتحدي وبصوت كأن لا صوت يعلوه في الدنيا لأنه صوت الحق وصوت القلب وصوت الضمير.. والإنسانية.

وتبدّت ذروة تألق أمل كعوش عندما غنّت “اترك قمرنا يا حوت” بعد أن روت الخرافة وراء كلمات هذه الأغنية، وهي التي كان يُردّدها أهالي القرى والمدن في بلاد الشام عند خسوف القمر، ظناً منهم أن أنثى الحوت ابتلعته وأن لا طريقة لاسترجاعه إلا بالقرع على الطناجر والهتاف “اترك قمرنا يا حوت”. وهنا تحوّلت كعوش إلى سيدة صالة الجمهور، فنزلت من على خشبة المسرح حاملة طنجرة وملعقة وتجوّلت بين مقاعد الحاضرين، من فئات عمرية مختلفة، وهي تهتف “اترك قمرنا يا حوت”، فكان أن صار الجمهور تظاهرة ثابتة في مقاعده. واللافت للانتباه أن بعض الحاضرين كانوا على علم مسبق بـ”الخبرية”، فما كان منهم إلا أن استلوا طناجرهم وملاعقهم مشاركين أمل في الإيقاع نفسه، مسترجعين طفولة كنا نظنُ معها أن الحوت بلع القمر ولا سبيل إلى استعادته إلا بهذا النوع من التظاهر والغناء.

لم تكتفِ أمل كعوش بالتقليد الشعبي لذاته بل لتربطه بالانهيار المالي في لبنان، معتبرة أن الحوت هو حيتان المال الذين نهبوا أموال المودعين.. وهو أيضاً الأنظمة العربية القمعية التي تصادر حريات شعوبها، فاذا بـ”اترك قمرنا يا حوت” تتطور إلى “نحن أمرنا يا حوت” وفي لغة الأمر هذه وبكلمة بسيطة، “أمرنا”، حوّلت القمر المخسوف إلى أحلام الشعوب العربية بالحرية من المغرب إلى الخليج.

أمل كعوش إبنة صيدا وبيروت ومخيم عين الحلوة، طاقةٌ مذهلة؛ عنوانُ شعب بطل يُسطّر منذ قرابة العام أروع أسطورة صمود وملحمة نضال في التاريخ في مواجهة ليس فقط آلة الحرب “الإسرائيلية” بل كل آلات الصمت العربي وآلات غض النظر العالمي عن مجازر الصهيونية.

الفن يجمع ولا يُفرّق وأمل كعوش يليقُ بكِ أن تمثلي أولئك الأبطال الذين يعيشون الآن في عراء غزة وأنفاقها وفي مخيمات الضفة الغربية، واضعين حجراً على أمعائهم الخاوية حيث ينقصهم كل شيء إلا الكرامة المفقودة لدى الملايين من شعوبنا العربية.

أمل كعوش، نموذج فلسطيني لشعب يقاتل بكل ما يملك لتحقيق حريته وحرية وطنه بطريقة مُبدعة وخلاّقة.

(*) فريق الأمسية: أمل كعوش غناء؛ جورج الشيخ على البزق والناي؛ مازن ملاعب على الإيقاع؛ مكرم أبو الحسن على الكونترباص وجو عوّاد على الغيتار.

 

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  حكومة العراق على خطى حكومة لبنان.. وببركة السفارات
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  لنا في محمد علي كلاي عبرة يا "أولي الشهادات"!