بعلبكيان في بعلبك.. أصالة سمية وعصا لبنان

يقول الفيلسوف الفرنسي فولتير:"الحياة سفينة محطمة لكن علينا أن لا ننسى أبداً لذة الغناء في قوارب النجاة".. هكذا تعود مهرجانات بعلبك الدولية هذه السنة، إلى مدينة الشمس، بعد انقطاع قسري دام سنتين، بفعل جائحة كورونا والإنهيار الإقتصادي، في إشارة متجددة إلى أن بلداً يختزن هذه الروح لن يموت ولن يغرق.

“كلما وطئت قدمايَ أرض قلعة بعلبك كنتُ أسأل نفسي عن اليوم الذي سوف أتمكن فيه من الغناء هنا. ينتابني شعورٌ من الفرح والرهبة في آنٍ واحدٍ.. كيف لا ومهرجانات بعلبك بعراقتها هي حلم كل فنان لبناني وعالمي”.

حقّقت سمية بعلبكي حلمها. سنوات من العمل والمثابرة والمكابدة “في مقاومة السائد والسهل”، بعفوية الطفلة التي لا تبارحها وبنضج المرأة التي تأسرك بصوتها وحضورها وبإرادة الفنانة المصممة، إلى أن جاءها الخبر المنتظر.

لطالما سألت نفسي كيف لبيت تسكن فيه كل هذه الألوان والورود ألا يُنبت كل هذه الإضاءات والإلتماعات والنجوم!

محظوظ من يخرج من كنف عائلة تعرف كيف تهب الحياة صفحة بيضاء من ريشة وخيال يخلق من قمقم الألوان جنى اللوحات وسحرها المدهش.

البعلبكيان سمية ولبنان ثنائي فريد من نوعه. الأخ يقود فرقة موسيقية والأخت الأكبر منه تُغني. قريباً يُحلقان في سماء مدينة الشمس غناءً عذباً وموسيقى تقدح القلوب. سوف يحديا للشمس فتنام وتصحو على مقامات الحب واللوعة والطرب الأصيل، وبرفقتهما كورال فرقة سيدة اللويزة.

تقاوم سمية المناطقية الضيقة فتقول “جئنا من الجنوب في رحلة بمثابة عودة إلى الجذور محملين برسالة حب جامعة بعيدة عن المناطقية المقيتة، نعد الجمهور بسهرة لبنانية فولكلورية بإمتياز مضافاً إليها باقة أغانٍ طربية، بعضها خاص والبعض الآخر معروف”.

لا يخرج من الأصيل إلا الأصالة.. وها نحن ننتظر الأمسية المرتقبة كجرعة شفاء من هذا السقم المخيم على حياتنا. ننتظر شيئاً ما ينتشلنا ويُعيننا على تحمل رحلتنا الطويلة في هذا الشقاء المقيم على طول هذه الطريق ـ الجلجلة.

للكلام في حضرة هياكل بعلبك صوت، صوت الصمت بين فواصل الموسيقى.

كيف لهذين الفنانين أن يملآ آذان الغروب بإيقاعات السحر والدهشة والتوثب الخلاّق. ننتظرهما لأنهما وعدا بأن يكون للحفل روح وهوية وطنية خالصة..

ننتظر حلمهما الطفولي ينسكب على هياكل المدينة التي تضج بالتاريخ وتعبق بأصوات الآلهة المسكونة بكل الألق والتوهج الممكن والمستحيل، ننتظر.. نعم ننتظر.

لا أخفي حماسة إعترتني حين علمت ان حفل الإفتتاح سيكون معقوداً لسمية ولبنان بعلبكي. اشعر بصلة قرابة ما مع الإثنين، ليس من جهة الجغرافيا بالتأكيد ولكن من جهة الفكر والروح وما ينتج عنهما من تفاعل آسر في هذا العالم القاسي.

سمية بعلبكي: جئنا من الجنوب في رحلة بمثابة عودة إلى الجذور محملين برسالة حب جامعة بعيدة عن المناطقية المقيتة، نعد الجمهور بسهرة لبنانية فولكلورية بإمتياز

لقد واكبت إنطلاقة الصوت المُدعّم بالرقة والقوة في آن واحد. تابعت أكثر حفلات سمية وليس لشهادتي أن تضيف ولكنها تؤكد على موهبة أكيدة في بحر من الأصوات التي تملأ الفضاء بكل أنواع الطنين المزعج والعادي والممل، أما سمية عبد الحميد بعلبكي فتبدو لي من طينة فريدة، رخامية الصوت، إفروديتية الجمال.

يقول المايسترو عبدالله المصري إن سمية تملك هالة حضور ساحر، “فصوتها النقي الشجي وأداءها الآخاذ يندمج بكتلة جارفة لا تقاوم من الجمال. قدّمنا سوية أمسية “تحية إلى أسمهان” مع الأوركسترا اللبنانية الشرق عربية وقد حلقت سمية بنا وبالجمهور المحتشد الى عوالم الطرب والابداع. لها وقعها بجمالها المكتمل وقدراتها الفنية العالية وهذا وحده كفيل بإنجاح اي تجربة مهما كانت صعبة”.

لصوت سمية الآخاذ رنة القبرة، ولجمالها الأوروبي مسحة أميرة إغريقية. فنانة قررت ألا تغرق في السائد والرائج، وهذا يُحسب لها من بين مجايليها من الفنانات اللواتي سقطن في المستهلك والتجاري فكن فقاعات مؤقتة تنفجر عند أول امتحان صعب.

غرقت سمية في سواد الحزن والإكتئاب حزناً على موت والدتها المفاجىء في ريعان أمومتها وشبابها، فامتشقت مع إخوتها حزنها ونهضت لتتابع خط الحياة. لا شيء كالموت يجعلنا ندرك قيمة الحياة ونعمتها.

نضجت في لجة الألم وأدركت نفسها المبدعة بهدوء لافت للإنتباه، لم تفسدها الأضواء ولم تسلبها وداعة وبساطة أبناء القرى وحقولها السمراء ومروجها المترعة بالضوء والحب والحنين والعفوية.

تزوّدت في المعهد الموسيقي (الكونسرفاتوار) بزاد اكاديمي عالي المستوى مكّنها موسيقياً، كما في تعرفها إلى مساحات صوتها الفريد ذي الدمغة المغمسة بالطرب والعذوبة. الصوت الذي تصفه الفنانة أميمة الخليل بالمتين ذي المساحات الحلوة، “فنانة حضورها جاد وتأخذ الفن بجدية مطلقة بالفعل والقول”.

سمية بعلبكي تلوّن الأغنيات بصوتها فتصير لوحات غنائية. حين تغني طرباً لسيدة الطرب أم كلثوم ولأسمهان يرشح زيتاً على قماش بقياسات استثنائية. وحين تغني للصبوحة يخرج الماء من لدن الينابيع الجبلية هداراً وزلالاً مصفى بالورد الجوري. وحين تغني الموشحات، يشف القماش ويتعرى الصوت ويأخذنا الأكواريل إلى البعيد في تاريخ الأندلس وزرياب وباقي أقرانه.

وكما سمية كذلك هو لبنان.

إقرأ على موقع 180  برنامج إنقاذ لبنان قبل "القبطان".. وشاطىء الأمان

لبنان، لم يكن هذا إسمه الأول. في لحظة ولادته إختار له والده إسماً مختلفاً. حادثة بسيطة على أحد حواجز “قوات الردع” في بيروت، جعلت الوالد ينتصر لوطنية لبنانية مهدورة. قرر أن يُسمي وليده الجديد لبنان. هذا الشاب صار يحمل هم إسمه.. وإسمه يُحمّله هماً أكبر. لماذا “لأن هذا الوطن بحاجة لكل واحد منا، أشعر بمسؤولية مضاعفة”، يقول المايسترو لبنان بعلبكي.

شاب واثق من نفسه ومن قدراته، هو الذي درس آلة الكمان في جامعة الروح القدس في الكسليك، ثم سافر إلى رومانيا وإختار دراسة قيادة الأوركسترا وهو من القلائل جداً في العالم العربي ممن إستهواهم هذا المجال، ليتابع دراساته العليا في علم نفس القيادة في إحدى الجامعات بأوروبا. عملياً، خلق لبنان رؤيته الموسيقية وحاز على ثقة العازفين من أجيال مختلفة برغم الصعوبات التي إعترضته في البدايات، بسبب صغر سنه.

فوجئت صراحة بجرعة التفاؤل التي تكتنفه.. “بلدٌ كلبنان غني بكل تاريخه لا يمكن أن يزول. لبنان هو من أقدم أسماء البلدان التي ما زالت موجودة. موضوع البقاء في لبنان هو خيار نابع من ثقافة فيها الكثير من الإنتماء والواقعية في آن معاً، أفضل أن أبقى في هذا البلد الذي أتكلم لغته وأعرف ناسه وتناقضاته وجماله وقبحه وغناه ومشكلاته وأن أحاول أن أكون جزءاً من أمله على أن أعيش في غربة مزمنة خاصة أنني عشت 14 عاماً في أوروبا. البقاء خيار والهجرة خيار. خياري حتى الآن هو الصمود والبقاء وصناعة لغة مختلفة، لغة الموسيقى والثقافة. العالم ليس أفضل حالاً منا. لذلك، أشعر بأهمية دور الفن في تجاوز محنة البلد”.

ولبنان بعلبكي الذي ترعرع في بيت فني زاخر بالألوان أخذ لونه الخاص بسرعة وشق طريقه إلى فوق. فقد حضر الفنان مارسيل خليفة حفل تخرجه تأليفاً وعزفاً، وقال عنه “من سنوات وأنا أرافق لبنان بعلبكي في دراسته الأكاديميّة برومانيا، شاركت تأليفاً وعزفاً في حفلة تخرجّه العلنيّة حيث كان الطقس مثلجاً”.

لبنان بعلبكي: “خياري حتى الآن هو الصمود والبقاء وصناعة لغة مختلفة، لغة الموسيقى والثقافة. العالم ليس أفضل حالاً منا. لذلك، أشعر بأهمية دور الفن في تجاوز محنة البلد”

هل كان لبنان بعلبكي يعلم أن بوسع عصاه الطريّة أن تعيد قراءة النص الموسيقي وتنجح في قيادته؟

كانت حماسته تسبق وعي قيادته في تلك الحفلة الأولى. كانت كالقربانة الأولى لها طعمٌ لا يُنسى. وبعدها عصت عصاه كل عادي وخاضت حرباً طويلة لإثبات فعاليتها وانتصرت في العبور إلى أعمال كبيرة مع اوركسترات عالميّة.

تحيّة الى لبنان بعلبكي لا لأنه أول متخصّص في قيادة الاوركسترا في لبنان، بل لأنه أمضى سنوات في البحث عن هويّة بعصاه لتتداخل مع ذاكرة وطنه الأم.

لقد ولد لبنان بعلبكي متورطاً بالفن كشأن عائلته الفنيّة: الرسم والموسيقى والعزف والغناء.

يكفي أن يتذكّر طفولة بيته ليرسم مع والده وأخيه أو ليغني مع شقيقته أو ليرافق والدته أو حتى يعزف وحده على الكمان. هذا هو حال إبنته نور المقيمة في رومانيا والتي تعشق الموسيقى والأنتيكا وكل قديم غير مستهلك.

يكفي لبنان بعلبكي أن يتذكّر طفولته ليحمل عصاه ويحلّق.

ولبنان بعلبكي الذي شارك الفنان مارسيل خليفة في افتتاح مهرجانات بعلبك عام 2019 وسبق له ان شارك الفنان جورج خباز أوركستراليا على طريقة الأوبرا (مهرجان إهدن)، يحمل هماً وطنياً إسمه المعهد الوطني للموسيقى الذي يواجه أوضاعاً صعبة جداً في هذه الأيام.

شارك لبنان الفرقة السمفونية الوطنية والمايسترو عبدالله المصري في تقديم كونشرتو البيانو للسوليست رامي خليفة وقلدتهم وزارة الثقافة الوطنية درعاً تحت عنوان “صنع في لبنان”. يشيد المصري بقدرة لبنان بعلبكي العالية على تقديم التحف الموسيقية الغربية والشرقية بالمهارة ذاتها.

 للمايسترو لبنان مساهمات في لقاءات وبرامج تلفزيونية عديدة فالكاميرا تحبه، آخرها مع الفنانة أميمة الخليل والإعلامي التونسي عماد دبور، “بالنسبة إليّ يمثل لبنان كل ما هو جميل قلباً وقالباً”، تقول أميمة عنه بحب وحماسة كبيرين.

في وطن لم يبق خبز للجسد ولا خبز للروح.. نقاوم الموت بالفنون.

يقول الشاعر محمود درويش:

“يا موت لقد هزمتك الفنون. جميعها. نبرعم الكلام لينعقد بعد الحفل ورودا تتفتح لها القلوب”.

ننتظر ليلة بعلبكية وطنية ترد لنا الروح في الثامن من تموز/يوليو المقبل.

Print Friendly, PDF & Email
أغنار عواضة

كاتبة وشاعرة لبنانية

Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  عندما وقعت في حب مقهى بشارع سانتافيه!