أسئلة تحاول اليوم مجموعة من الباحثين الإجابة عنها ضمن مجموعة بحثية بدأت فكرتها منذ العام 2015 مع الراحلة، حيث تستند هذه المجموعة إلى إنشاء جيل من الباحثين والباحثات قادر على دراسة علوم الاتصال في سياقها الثقافي والسياسي والإقتصادي والفني.
***
في واحدة من أكثر القضايا إشكالية في زمن العولمة والفضاء العام المخترق، نظّرت الراحلة حياة حويك إلى العلاقة بين “الأنا” والـ”نحن” في ظل غياب السيادة الوطنية، والانكفاء الهوياتي، والبنى المفقودة؛ لتضع مسألة الهوية في سياق التشكلات الاجتماعية، والعلاقة بين الفرد والمجتمع، متجاوزة المدرسة الأميركية (مارتن ليبست وجوزيف إلدر) التي اعتبرت العمل الاقتصادي هو الضامن الوحيد لبناء الهوية، حيث انطلقت الراحلة من هذه العلاقة الاقتصادية بوضعها في إطار تاريخي جغرافي، وضمن عوامل تشكُلهما داخل بنيتها وحواملها الاجتماعية، والوعي بها، ثم أخضعت الهوية في إطار “الأنا” والـ”نحن” لمراحلها الاجتماعية التي تشكّلت عبر صيرورة تاريخية مرتبطة باللغة ومنظومة القيم، وفق مراحل تبدأ بالجدل كشرط أساسي يدخل مساحات النقاش بخطه الفكري، بحيث يُشكل تيارات فكرية، ثم ينتقل إلى الفضاء العام الذي يُشكّل الهوية في سياقها الفردي والجمعي.
***
مع الانتقال إلى عصر الفضائيات التي تجاوزت الحيز الجغرافي إلى اللغوي، انتقلت الساحة العامة إلى حقل وسائل الإعلام الذي أنتج الخطاب العرقي والإثني والهويات الفرعية والبديلة أمام الهويات الجامعة، وعلى عكس التطور التاريخي، باتت وسائل الإعلام المرتبطة بمراكز قوى ليبرالية معولمة حاجزًا أساسيًا يمنع تشكّل الهوية الجامعة في إطار الدولة/الأمة، وإعادة إنتاج هويات ما قبل المجتمع. وفي سياق بنائها المقارن للهوية والتعددية، اعتبرت تشكل “الأنا” الناقدة المختلفة سيرورة لبناء الـ”نحن” في إطارها الاجتماعي والثقافي، على أساس استكمال بناء الدولة/الأمة، كنتيجة لهذه التفاعلات الاجتماعية المركبة؛ لقطع الطريق أمام استمرار بناء الهويات الفرعية، وتفكيك سردياتها، حيث قطعت الـ”نحنوات” المعولمة الطريق أمام تشكّل “الأنا” الحرة والـ”نحن” المركبة في إطارها الجمعي.
شرّحت حياة حويك جيوبوليتيك خطاب الفضائيات العربية، ففي عام 1991، كان عدد القنوات العربية 50 قناة مملوكة للحكومات، تديرها وزارات الإعلام المحلية، وعند دخول قوى رأس المال، وصل عدد القنوات العربية عام 2008 إلى 400 قناة خاصة تابعة لمراكز قوى جديدة هي في الأغلب الأكثر نفوذًا وهيمنة من حكومات ودول بذاتها
تطرح حياة الحويك تساؤلات عدة: هل نحن أمام رأي عام تشكل وفق صراع تاريخي وجدل عام؟ أم أننا أمام محركين وفاعلين ومراكز قوى تسعى إلى منع تشكل الهوية/الأمة؛ لمصلحة قوى عالمية تسعى لإبقاء المنطقة داخل هيمنتها؟ لقد غابت “الأنا” الناقدة كمواطن في عصر النيوليبرالية، واستحضرت وسائل الإعلام الفرد المستهلك، وأبدلت بالمجتمع (الـ”نحن”) السوق والأسواق، وتلاشت السيادة الوطنية للدولة/الأمة، وأُدخلت الكيانية الوظيفية والهويات الفرعية والقبلية والإثنية والطائفية.
***
في محاولة لإعادة فهم الخطاب الإعلامي العربي عشية دخول الألفية الجديدة، وعلى أعتاب سقوط جدار برلين، وانهيار الكتلة الاشتراكية، وانتصار قوى السوق لصالح النظام العالمي الجديد، اجتاحت القنوات العبر- عربية الفضاء العام، مرسلة قواعدها الإعلامية بما تحمله من خطابات التبعية والإلحاق المتساوقة مع المشروع الإمبريالي عبر وسائل الاتصال، فتُرجمت انتصارات ليبرالية السوق من خلال ظاهرة خصخصة التلفزيونات العربية، وتحويلها إلى فضائيات تجارية خاصة في الظاهر، ممولة من العائلات الحاكمة والمال المتمركز ضمن منظومة السلطة. في هذا السياق، تطرح الدكتورة الراحلة حياة حويك، في كتابها “الفضائيات العربية بين عولمتين”، تساؤلات عدة؛ هل يعد هذا التحول حرية تعبير حقيقية ستقود إلى تحول ديمقراطي في عالمنا العربي، أم أنها ظاهرة ليبرالية إعلامية اقتصادية وسياسية؟
يدعو هربرت أ. تشيلير وحياة حويك إلى إعادة تأسيس مفهوم الإمبريالية الثقافية والإعلامية الأميركية، من حيث هي إعادة توطين للمشهد السمعي – البصري الوطني الذي لا يؤدي إلى تنامي تداول المنتجات الثقافية ذات “الماركة الأميركية”، إذ ساعدت حركة الخصخصة والتحول التجاري داخل الفضائيات العربية إلى احتواء الفضاء الإعلامي والثقافي. لكن الحويك لم تضع “الأنا” في مواجهة الآخر بشكل مطلق، وإنما الـ”نحنوات” المجزءة في مواجهة “الأنا” والآخر المشترك في الجغرافيا والاقتصاد. وعليه اعتبرت أن العولمة الإسلامية هي الوجه الآخر المكمل للعولمة الأميركية، حيث أنها تخدم الهيمنة الاقتصادية العولمية بتظهير الـ”نحنوات” الفرعية المانعة لتشكل “الأنا” غير المستلبة، والـ”نحن” الجامعة.
من منطلق هذه الظاهرة المُشكّلة للرأي العام، شرّحت حياة حويك جيوبوليتيك خطاب الفضائيات العربية، ففي عام 1991، كان عدد القنوات العربية 50 قناة مملوكة للحكومات، تديرها وزارات الإعلام المحلية، وعند دخول قوى رأس المال، وصل عدد القنوات العربية عام 2008 إلى 400 قناة خاصة تابعة لمراكز قوى جديدة هي في الأغلب الأكثر نفوذًا وهيمنة من حكومات ودول بذاتها، فهل يمثّل هؤلاء المالكين الذين يديرون الفضائيات الإعلامية ويحركونها، ويتحكمون باستراتيجياتها وآليات تنفيذها، قوى التقدم الاجتماعي والديموقراطي في السياق التاريخي؟ وهل يحملون تطلعات الجماهير المقموعة، أم أنهم جزء من قوى ومراكز عولمية، وزعامات عرفوا كيف يتأقلمون مع الاتجاه الليبرالي الجديد؟
في رسم السياق الكلي، عبر قراءة جغرافية وتاريخية لعالم الإعلام العربي، حُكم على التطورات الاجتماعية والسياسية والثقافية داخل الفضاء الإعلامي، وحُدد السياقان العام والخاص للمتلقي والمشاهد، فأصبحت قوى السوق الليبرالية المحرك الأساسي في صناعة الرأي العام سياسيًا وثقافيًا، على قاعدة المفكر الفرنسي ثيودور أدورنو الموالية للاندماج في نسق التسليع الثقافي والفني، وتحوّل الخطاب الإعلامي إلى قيمة سلعية ربحية دخلت عصر الإنتاج وفقًا للعرض والطلب، ووفقًا لسياسة المالكين والمحركين، وتجلى ذلك عام 2004، أي في الفترة التي دعت فيها الإدارة الأميركية إلى التغيير الديموقراطي في المنطقة، وبدأت التسويق للعصر الجديد والشرق الأوسط الجديد، حيث بنية الارتباط بين المالكين ورأس المال الدولي العولمي المتعدد الجنسيات، والذي يهدف بالدرجة الأولى إلى كسب التأييد، ما يقتضي نشر وسائل الإعلام جميع ما من شأنه أن يشجع على الاستهلاك، وهنا، أُفرغت السلطة الرابعة لصالح قوى ومراكز النفوذ التابعة لرأس المال الذي يسعى إلى تحويل الفعل الثقافي والإعلامي إلى قيمة تبادلية تقضي، كما يقول ميشال ماتلار، على ما تبقى من الوعي النقدي، فثمة إعلام تتمثل داخله رؤية مراكز الهيمنة التي تتحول من شكل إلى آخر عبر مقولاتها ومصالحها وسلطويتها في الإبقاء على مجتمع الاستعراض والاستهلاك، ومن ثم تحول الفضاء الثقافي العام إلى سوق قابل للتغليف والتلخيص وإعادة الإنتاج، وفقًا لما تراه قوى السوق مجديًا ومربحًا.
سارعت حياة الحويك إلى مواجهة السلطة والسلطة المضادة معًا، ونقدتهما نقدًا جذريًا عبر تحليل خطابها وتحليل آلياتها في إطار المسكوت عنه (كتابها ما قبل الأخير)، وما تخفيه آليات الإقصاء والتهميش والتغييب الجديدة لشعوب دول الجنوب
وإذا كان ثمة تساؤل، بعد أعوام من الحرب الدائرة في سورية والعراق واليمن، وحروب الوكالة في ليبيا، ودخول بعض دول المنطقة في اتفاقات أمنية وعسكرية واقتصادية مع العدو الصهيوني، فهو: هل نحن أمام فضاء إعلامي تشكّل نتيجة الوعي الاجتماعي أم نتيجة تحولات الفاعلين الاجتماعيين والمالكين ومراكز القوى الاقتصادية والسياسية؟
لم تقع منطقة في العالم ضحية لتخيّل مدروس يكاد لا يتوقف مثلما يحصل في منطقتنا العربية، حيث مثّل التنميط الذي مارسته وسائل الإعلام لحضارته وتاريخه صورة لصدام حقيقي محتمل بين الحضارات، إذ تنخرط وسائل الإعلام في عملها داخل الحقل السياسي والثقافي في الليبرالية لا خارجها، بإدخالها النبرة الفوقية والاستعلائية والإلحاقية في خطابها، وبموجبها دخل فضاء المجتمع العربي ومؤسساته الاجتماعية والاقتصادية المجتمع الدولي المعولم أو ما بات يُعرف بالإمبريالية الثقافية.
ساعد التنظير الذي قدمته الدكتورة الراحلة حياة الحويك على المستوى الأكاديمي في فهم العلاقة بين قوى الهيمنة وثوره الاتصالات وتشكلات الهوية بين “الأنا” والـ”نحن” في الساحة العربية، ومنع وصولهما إلى الذات، عبر نموذج الفضائيات العربية، ومدى ارتباطها بمراكز القوى الجديدة في المنطقة بالنظام العالمي. وهنا، فسرت نظرية زبيغنيو برجنسكي القائلة “بعد عصر المدفعية، وبعد عصر التجارة والمال، باتت تقنيات الاتصال والشبكات تمثل الجيل الثالث من هيمنتنا على العالم”.
***
في الخلاصة؛ لقد سعت الدكتورة الراحلة حياة الحويك إلى تفكيك صورة الهيمنة بشكل أكاديمي، ضمن خط مواجهة يمتد عبر فهم جوهر الصراع الدائر في المنطقة، وتفكيك مراكز قوى السياسية والاقتصادية فيها منذ بروز التحولات التاريخية للنظام العالمي الجديد حتى يومنا هذا، موضحة أساليب الهيمنة الإمبريالية عبر الجيلين الثالث والرابع للاتصالات؛ فالنظرية التي طوّرتها الراحلة تحدد أشكال الهيمنة في نظام الإنتاج اللامادي بحيث يشعر المرء وكأنه يمتلك وسائل إنتاجه في مجتمع التواصل الشبكي. ففي عصر الميديا والداتا وحروب الجيلين الخامس والسادس أنتجت منظومات السيطرة أشكالا جديدة للهيمنة والإخضاع عبر تأزيم المجتمعات وتفكيك سرديتها الثقافية وحامياتها الاجتماعية بحيث أصبح لكل مجتمع سلطته المضادة وأسواقه الجديدة وفضاءاته المصنوعة. وبحتمية هذه التغيرات سارعت حياة الحويك إلى مواجهة السلطة والسلطة المضادة معًا، ونقدتهما نقدًا جذريًا عبر تحليل خطابها وتحليل آلياتها في إطار المسكوت عنه (كتابها ما قبل الأخير)، وما تخفيه آليات الإقصاء والتهميش والتغييب الجديدة لشعوب دول الجنوب.