كميل شمعون.. عندما ذهب بعيداً في عروبته!

في مقالة سابقة (29ـ 10ـ2020) بعنوان "شارل مالك قال ذلك للبنانيين عام 1949"، جرى استعراض مواقف وزير الخارجية اللبنانية الأسبق حين كان يشغل منصب مندوب لبنان في الأمم المتحدة، حينذاك، شكلت قراءة مالك "نبوءة" فعلية حيال استراتيجية اسرائيل الآيلة إلى قيادة المنطقة العربية أمنياً واقتصادياً وسياسياً، وذلك قبل تحوله الدراماتيكي من النقيض إلى النقيض، وهو الأمر عينه الذي سيتكرر مع رئيس الجمهورية الأسبق كميل شمعون، ومن دون معرفة من كان له سبق التأثير على الآخر: مالك أم شمعون؟

في سياق إجابته عن أسباب تأييده وصول كميل شمعون إلى الرئاسة اللبنانية، يقول الرئيس صائب سلام لغسان شربل في “دفاتر الرؤساء”: “أيّدته لأنه كان آنذاك فتى العروبة الأغر، وكان مأمولاً منه أن يكون رئيساً جيداً”.

هذا التوصيف الذي كان لصيقاً بشمعون ومهّد له سبيل الوصول إلى الرئاسة الأولى عام 1952، جرى نزعه منذ انزياحه إلى سياسة المحاور الدولية بعد عام 1955، وليصل إلى ذروته مع رفضه قطع العلاقات مع بريطانيا وفرنسا إثر العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، ثم بالصدام مع الثلاثي المصري ـ السوري ـ السعودي عام 1958، كما يقول باسم الجسر في كتابه “فؤاد شهاب ذلك المجهول”، أي، عملياً مع أكثر الفواعل تأثيرا في صناعة القرار العربي، فيما يرى وزير الخارجية فؤاد بطرس في مذكراته أن “شمعون ذهب بعيداً في السباحة ضد التيار الناصري أبعد مما تحمله التركيبة اللبنانية”.

لكن؛ ما قصة “فتى العروبة الأغر”، وكيف حاول شمعون استعادتها بعد نهاية ولايته الرئاسية؟

في مذكراته، يقول شمعون “يوم الإثنين 16 نيسان/ابريل 1945 تركتُ لندن لأستقل الطائرة إلى القاهرة ـ ومنها ـ إلى اللد يوم الثلاثاء واستقبلني في المطار عدد من وجهاء يافا، زرت النادي العربي حيث ألححت بصراحة على وجوب اتحاد جميع الفلسطينيين واستعدادهم لمقاومة الخطر الصهيوني المتفاقم، وغادرت حيفا وكانت مدينة صور قد اكتست حلل العيد أول محطة، توقف الموكب للرد على الخطب التي ألقيت، وأما في صيدا فقد كان المشهد فريداً، يريد الجميع هنا كما في مصر وفلسطين أن يعربوا عن تقديرهم للجهود التي بذلتُها في سبيل لبنان والبلدان العربية، لكن استقبال حي البسطة في بيروت فاق كل خيال، كان رياض الصلح وحبيب ابو شهلا والأمير مجيد ارسلان في عداد الذين نظموا هذه المظاهرة، وأكدوا لي أن بيروت لم تعرف مثل هذا العيد بعد الزيارة التي قام بها الملك فيصل” عام 1918.

ويكمل شمعون قائلا “يوم السبت (21ـ 4 ـ1945) سافرت إلى دمشق وزرتُ رئيس الوزارة، وأبى رئيس الجمهورية إلا أن يشكرني بحرارة لدفاعي عن المصالح السورية كدفاعي عن المصالح اللبنانية”.

في هاتين الواقعتين المدونتين في أوراق الرئيس شمعون ما ينطوي على دلالتين، واحدة تؤكد على “تفاقم الخطر الصهيوني” وأخرى ترتبط بالأبعاد العربية للسياسة الشمعونية في مراحلها الأولى، وهاتان الدلالتان توجبان استدعاء محاضر الخطاب السياسي لكميل شمعون قبل انتخابه رئيساً للجمهورية.

كمال جنبلاط وأحمد الأسعد، كانا في طليعة الزعماء الشعبيين الذين أسهموا في إيصال شمعون إلى الرئاسة الأولى وفي مخاصمته حين اعتلى “عرش الجمهورية”، بسبب التغريب السياسي المفرط الذي اعتمده حين آلت آليات الحُكم إليه

في كتاب “رياض الصلح في زمانه”، يورد المؤرخ أحمد بيضون وقائع مشادة حامية الوطيس بين رياض الصلح وكميل شمعون على خلفية إخفاق الدول العربية ومنها لبنان في إيقاف التوسع الإسرائيلي في فلسطين المحتلة والذهاب إلى الموافقة على الهدنة مع اسرائيل. يقول بيضون:

“يوم 3 آب/أغسطس التأم المجلس النيابي لسماع بيان الحكومة الجديدة ومناقشته والتصويت على الثقة، وقد شهدت هذه الجلسة منازلة خطابية بين رياض الصلح وكميل شمعون، وكان مدار المنازلة فلسطين، وجاءت خطبة شمعون اطول بكثير من البيان الوزاري، وانحصرت تقريبا في الموضوع الفلسطيني، وفي نقص الإعداد للحرب، وفي قبول الهدنة مرتين خلافا للمصلحة، وكان منطق شمعون قائما حين يتناول موقف لبنان في الحرب، على تحميله جريرة الموقف العربي كله وجريرة ما انتهت اليه الحرب، على أن شمعون حين ذكر سوريا والعراق وصف موقفهما بالمشرف، وكان منطق شمعون قائما أيضا على كون الهدنة الأولى قد سلبت العرب نصرا كانوا يقتربون منه”.

وختم شمعون خطبته بأبيات شعرية شهيرة منسوبة إلى”عائشة الحرة” والدة آخر ملوك غرناطة ابو عبد الله الصغير، إذ أنشدت له بعدما رأته باكيا على مدينته التي استعادها الإسبان (1492):

 ابكِ مثل النساء مُلكاَ مضاعا / لم تحافظ عليه مثل الرجال.

حين انتهى شمعون من خطبته وصفه رياض الصلح بـ”الأصمعي”.

في واقعة ثانية لا تقل خطورة في اهميتها عن الأولى، وتعود عقارب وقتها إلى أواخر الأربعينيات الماضية، وفي تفاصيلها كما يعرضها نصري الصايغ في كتابه “عبد الحميد كرامي رجل لقضية” ما يلي:

“في 18 حزيران/يونيو 1949، وجهت الحكومة السورية إلى الحكومة اللبنانية مذكرة تخيرها بين الوحدة الإقتصادية الكاملة والإنفصال الإقتصادي، وفي الثامن من تموز/ يوليو حصل الإتفاق بين الحكومتين وظل حبرا على ورق، وفي السابع من آذار/مارس1950 أُبلغ لبنان بمضمون المذكرة السورية ـ التي تطلب منه ـ تحديد الإستيراد وتوحيد التشريعات الإقتصادية إلخ.. ولما لم يستطع الطرفان حل مشكلاتهما، حملت الصحافة السورية على رياض الصلح وحملت الصحافة اللبنانية على خالد العظم”، وكان لتداعيات ذلك آثارها في مجلس النواب، وفي جلسة حضرها رياض الصلح، قال كميل شمعون:

“إن الحالة في لبنان وفي سائر الدول العربية لا تدعو إلى الإطمئنان، وإنني ارتعب خوفا وجزعا عندما أرى الإختلافات التي نتخبط فيها، فلبنان أصبح منعزلا عن سوريا، وسوريا منعزلة عن العراق والأردن، والعراق منعزل عن مصر والسعودية، ومثله الأردن، وإني عندما أرى وأفكر في ما يمكن أن يترتب على هذه الحالة، أشعر بإحتقار لنفسي ولكل واحد منا”.

إقرأ على موقع 180  حبيب صادق.. من أين كان يأتيك الوضوح؟

ذاك ما كان يقوله شمعون، ولكن كيف وصل إلى الرئاسة؟

الإجابة قد تفيض بالدهشة إذا عُلم أن باب القصر الجمهوري قد فُتح لشمعون خلال “رحلة صيد” إلى سوريا. كيف؟

في كتابه “50 عاما مع الناس”، يقول الوزير والنائب الأسبق يوسف سالم “ما كادت استقالة الرئيس بشارة الخوري تضع حدا للأزمة السياسية الحادة التي عصفت بلبنان في خريف العام 1952، حتى بدأ صراع من نوع آخر، صراع على الخلافة بين الطامحين إلى الرئاسة، وبرز في الميدان مرشحان، كميل شمعون وحميد فرنجية، في بادىء الأمر كانت كفة فرنجية راجحة، وتذكر شمعون أنه قبل استقالة بشارة الخوري بأسبوع قام برحلة صيد إلى سوريا واجتمع برئيس دولتها أديب الشيشكلي، فاستعان به فأعانه الرئيس السوري، وإذ بكميل شمعون بين ليلة وضحاها، يجتذب إلى صفه جميع نواب بيروت وعددا لا يستهان به من نواب الشمال، بفضل الضغط السياسي من جانب سوريا وتدخل السفير البريطاني في بيروت”.

من الحقائق الواضحات والساطعات، ان كمال جنبلاط وأحمد الأسعد، كانا في طليعة الزعماء الشعبيين الذين أسهموا في إيصال شمعون إلى الرئاسة الأولى وفي مخاصمته حين اعتلى “عرش الجمهورية”، بسبب التغريب السياسي المفرط الذي اعتمده حين آلت آليات الحُكم إليه، وعلى ما يؤكد فؤاد بطرس في مذكراته “كنت أشعر ان سياسة الرئيس كميل شمعون القائمة على الإنحياز لحلف بغداد، والتطلع نحو الولايات المتحدة، تتنافى مع دورنا، وتتجاوز طاقتنا بالنظر إلى موقعنا الجيو ـ سياسي”.

في حوار شخصي مع كريم بقرادوني أن وفدا من “الجبهة اللبنانية” جال على دول عربية عدة بعد اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، وعلى مائدة الغداء في العاصمة الأردنية عمان سأل الملك الحسين بن طلال الرئيس شمعون عن حقيقة الإتصال بإسرائيل، فأومأ شمعون إيجابا، فنصحه الحسين بقطع الإتصال معها والتعاون مع سوريا

انتهت ولاية شمعون في الثاني والعشرين من أيلول/سبتمبر 1958، بنزاع مرير ودموي مع المناخ الناصري، لكن اللافت للإنتباه أن صحيفة “نداء الوطن” البيروتية (6 ـ 5 ـ 1970) وفيما كان لبنان يتأهب للإنتخابات الرئاسية خرجت بعنوان عريض هو “شمعون: عبد الناصر يقف وحيدا في المعركة ولا بد له من رئيس لبناني قوي يسنده”، ونقلت الصحيفة عن شمعون قوله “إن الجمهورية العربية المتحدة تجتاز ظروفا قاسية في سعيها لإحقاق الحق العربي، ضد عدو معقد شرس، وإن الرئيس جمال عبد الناصر يقف منفردا في المعركة المصيرية، وهذا الوضع يستدعي أن يكون الرئيس المقبل للبنان سندا للرئيس عبد الناصر في معركته ضد العدو المشترك”.

هل كان شمعون يسعى لإستعادة خطاب “فتى العروبة الأغر” بعدما غادره منذ منتصف الخمسينيات، وعلى أمل العودة إلى رئاسة الجمهورية من خلال إرسال الرسائل وبث المبثوثات إلى عبد الناصر؟

هذا سؤال شرعي ومشروع في التحليل السياسي.

لكن ماذا عن القضية الفلسطينية؟

في حوار شخصي مع الرئيس الأسبق لحزب “الكتائب اللبنانية” كريم بقرادوني أن وفدا من “الجبهة اللبنانية” جال على دول عربية عدة بعد اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، وعلى مائدة الغداء في العاصمة الأردنية عمان سأل الملك الحسين بن طلال الرئيس شمعون عن حقيقة الإتصال بإسرائيل، فأومأ شمعون إيجابا، فنصحه الحسين بقطع الإتصال معها والتعاون مع سوريا.

هذا التحول الجذري في مواقف وسياسات شمعون، ينتج إغراء المقارنة مع مواقف سابقة له، من بينها:

ـ جاء على صدر الصفحة الأولى لصحيفة “الرواد” اللبنانية (19 ـ 3 ـ 1969) “شمعون: فلسطين أمانة في عنقنا”.

ـ قال شمعون لصحيفة “الأنوار” البيروتية (31 ـ 5 ـ 1971) “على صعيد أزمة الشرق الأوسط أقول إننا بحاجة للوقوف بصلابة بوجه أي حل سلمي لا يضمن حقوق العرب كاملة في فلسطين ولا يعوض الكرامة بعد هزيمة الخامس من حزيران/يونيو 1967”.

ـ طلب شمعون (“الأنوار” في 4 ـ 6 ـ 1971) “من جميع دول العالم التدخل لوقف محاولات اسرائيل تهويد القدس، ولإعادة الحق الكامل للشعب الفلسطيني في أرضه”.

ـ في ندوة صحافية (“الحياة” في 16 ـ 6 ـ 1971) دعا شمعون “الدول العربية لتوحيد موقفها من ألمانيا الغربية وسائر الدول المؤيدة لإسرائيل”.

لا يفيد استعراض المزيد من المواقف، ولكن من المفيد السؤال عن معنى السياسة في الشرق وما نقطة دائرتها الأولى وما آخر نقطة في الدائرة، وما المسافة الفاصلة بين نقطة البداية ونقطة النهاية، أم أن التجاور بينهما يجعلهما على جوار مستدام، فيختلط البدء مع الختام؟.

خلجة أخيرة:

سُئل أعرابي ما السياسة؟ فأجاب: أما تراني متعبدا؟

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  الأسد في موسكو.. وبوتين في الحجر!