في “السفير” خضت تجاربي الأولى في العمل الصحافي وهي التجربة الأجمل في حياتي ربما. هناك كان احتكاكي الحقيقيّ مع الناس، في الواقع، وفي القضية فكانت معجن اختبار أفكاري ومعتقداتي، وكانت أيضاً التجربة التي عرفت فيها أولى خيباتي أمام واقع أخبار التسويات القاتلة لكلّ قضية مهما كانت محقة.
كنت مع الصحافة وأنا في سنواتي العملية الأولى كمن يعيش قصة حبّ أعلم يقينا أن الغوص فيها صعب ومتعب والابتعاد عنها يكاد يكون تخلّياً عن جزء مني. وتخلّيت بعد سنوات عدة، باكراً نعم، لأنني شعرت أنني سأكون شاهد زور على معاناة الناس، على قصصهم التي كنت على تماس مباشر معها لفترة من الزمن، ولأنني تيّقنت باكراً أنني لن أغيّر شيئاً في مجتمعي. اتجهت إلى الحياة الأكاديمية في استكمال الشهادات والدراسات العليا وفي الممارسة العملية في العمل الأكاديمي الجامعي وفي الكتابة الأكاديمية فربّما نستطيع أن نعدّ جيلاً واعياً ومهنياً ومحترفاً قد يحقق ما حكمت على عجزي في القيام به سريعاً.
لم تنسحب هذه الخيبة في الشأن الداخلي فقط، بل أيضاً في ما يخص القضايا الوطنية الكبرى وعلى رأسها قضية فلسطين. قبل أحداث حيّ الشيخ جراح في العام ٢٠٢١، كنت أعيش في إحباط يلامس الاستسلام في ما يخص فلسطين. فبين الانقسام الفلسطيني الذي يشكل بالنسبة إليَّ القاتل الأول لقضية فلسطين، وبين انغماسنا كشعوب عربية في قضايا ودوامات من العنف والحروب لا تنتهي تحت مسميّات وعناوين مختلفة مرهقة حتى انقطاع النفس، وبين تسويات وعمليات تطبيع و”بروباغندا” محكمة لضرب القضية الفلسطينية إعلامياً واقتصادياً وثقافياً يقابلها للأسف فشل مستفزّ في مواجهتها بالطريقة نفسها بذريعة غياب الموارد (وعذراً هي ذريعة غير مقنعة)، بات التحدّث عن فلسطين وكأنه يأتي من خارج الزمن ومن خارج التقدّم والحضارة، وإذا ما اعترض أحدنا، نحن القلّة، يقال لنا: “لن تكونوا ملكيين أكثر من الملك”.
قضية شيرين هي قضية فلسطين، هي قضية الإنسان، هي قضية الكلمة في وجه الظلم والإجرام المتمثّل بالاحتلال الإسرائيلي، هي قضية الكلمة ضد المحاولات المستمرة لتفريغنا من إنسانيتنا، هي قضية الكلمة التي تحكي قصةّ شعب يخترع سبلاً للعيش في ظلّ احتلال يستهدف حتى توابيت شهدائه
أعادت لي أحداث حي الشيخ جراح بعضاً من روح، فأبطالها هذه المرة هم الصحافيون والشباب والناشطون الذين أبدعوا في مقاومتهم الفكرية في نشر قضيتهم إلى العالم. وهنا الأساس. للميدان العسكريّ مقاوموه الذين لا يتوانون عن الدفاع عن الأرض، لكن المعركة الأخطر اليوم هي معركة مراكمة الوعي ليس فقط للعالم بل أيضا لأجيالنا التي تواجه حروباً من كافة الأنواع تأخذ عادة عقوداً من الزمن لتقع ولتعالج.
سرعان ما خفّت الهمة، للأسباب الداخلية والإقليمية نفسها، باستثناء جهود فردية يقابلها جهد إعلاميّ مضن من المراسلين الفلسطينيين لكي “لا تكون قضية فلسطين على الرفّ”، كما قالت شيرين ابو عاقلة ذات مقابلة. كنت أعي تماماً أن قضية فلسطين ما تزال حاضرة في فكري وفي انتمائي وأن هذا الإيمان بأحقية القضية الفلسطينية كقضية إنسانية أولاً لم يتغيّر برغم كل ما يقال وكل ما يحدث، لكنني كنت عاجزة، عاجزة جداً عن القيام بأي خطوة غير الكلام من حين لآخر، وكنت أسأل نفسي كلّ يوم: هل أخطأت عندما ابتعدت عن الصحافة؟ هل يكفي الحديث عن فلسطين؟ وماذا سنغيّر؟ كنت أشاهد تغطيات “الجزيرة” و”الميادين” عن فلسطين، ولمكتب فلسطين في “الجزيرة” مكانة خاصة في ترسيخ قضية فلسطين في أذهاننا من خلال التغطيات الصحافية التي واكبت وعينا منذ الانتفاضة الأولى إلى اليوم.
واستشهدت شيرين أبو عاقلة. ١١ أيار/مايو ٢٠٢٢. لم يُخيّل لي يوماً أن اغتيال صحافية لا أعرفها على المستوى الشخصيّ سيترك هذا الأثر، حتى بات يسألني أصدقائي وعائلتي باستمرار وأسأل أنا نفسي حتى: لماذا شيرين؟ هل لأن اغتيالها جاء بعد سنين طويلة من تعرّضنا المستمرّ وبوتيرة قاسية جداً لخيبات في مواجهة الحروب، وانقلاب المفاهيم والتخلي والمشاكل التي لا تنتهي في بلادنا المثقلة بالخيبات؟ هل اغتيال شيرين كان الصفعة التي تقول لي أنني ساذجة حين أدّعي أنني روّضت نفسي على تقبّل الخيبات وعلى الاستسلام المتكابر أمام فكرة أن كلّ حقيقة في بلادي قابلة للتسوية على حساب كل قضية وكل انتماء وكلّ من استشهد في سبيل وطنه؟ هو هذا الصراع الذي أعيشه كلّ يوم بين الإيمان بالقضية وبين الخيبة والشعور بالعجز. هل أن اغتيال شيرين هو هذه الصفعة التي حوّلت الشعور بالعجز والظلم إلى غضب لا يستكين؟
في أحد النقاشات حول تأثري الشديد باغتيال شيرين، قلت أن هذا الاغتيال كسر شيئاً في داخلي ربما لأنها من الصحافيين القلائل جداً الذين يتحدّثون عن فلسطين بمهنية وبشغف لا يكلّ برغم كلّ الحزن والتخاذل، ولأنها من الصحافيين القلائل جداً أو النادرين الذين يعيدون إلى المهنة هويتها وهدفها السامي في هستيريا الألقاب التي نعيشها. لقد قتلوا الصوت الذي يحمل فلسطين إلى العالم في وقت يتكاثر المتخاذلون بوقاحة لا يتقبّلها أي منطق. فأي عدل هذا؟
لقد قتلوا شيرين لأنهم يخافون الكلمة. رسمت من جديد شهادتي الجامعية الأولى في الصحافة، وبعد ما يقارب الشهرين من الاغتيال ما تزال تدفعني كلّ يوم إلى الإصرار على العودة إلى الكتابة وإلى الصحافة بأي شكل من الأشكال.
قضية شيرين هي قضية فلسطين، هي قضية الإنسان، هي قضية الكلمة في وجه الظلم والإجرام المتمثّل بالاحتلال الإسرائيلي، هي قضية الكلمة ضد المحاولات المستمرة لتفريغنا من إنسانيتنا، هي قضية الكلمة التي تحكي قصةّ شعب يخترع سبلاً للعيش في ظلّ احتلال يستهدف حتى توابيت شهدائه، هي قضية الكلمة التي تحكي قصة الإنسان بعيداً عن استغلال وتسويات الفصائل والمنظمات والمجموعات والسلطات. الكلمة تؤرقهم وإلا لما قتلوا شيرين ولما قتلوا المفكّرين والصحافيين منذ ١٩٤٨ إلى اليوم.
هي معركة وجود وضمير إنسانيّ ووعي نخوضها بالكلمة، بعيداً عن كلّ المزايدات وأشكال الاستغلال، لنقول أننا نستحق العيش بكرامة على هذه الحياة. فهل سنرضخ لمنهجية حملات التضليل التي تراهن على مبدأ أن ذاكرتنا سريعة النسيان، لنتخاذل نحن أيضاً ضد أنفسنا وضد إنسانيتنا؟