من جاكسون إلى جوني.. وحوشٌ وهمية صنعتها الغفلة

لا تتوانى وسائل الإعلام العالمية، وخاصة الأمريكية، في إطلاق لقب "محاكمة القرن" على آخر قضية تزور قاعات المحاكم، حاملة على جانبي الإدعاء والدفاع أو أحدهما، أسماء ذي شهرة عالمية كبيرة: تشارلز مانسون، أو جي سيمبسون، مايكل جاكسون، بيل كلينتون، بيل كوسبي، آر كيلي، وصولاً إلى آخر نموذج متمثلاً في قضية جوني ديب.

أعدكم بأنني لن أغوص طويلاً في التفاصيل، لسببين، أولهما أن هذه القصص لا يسعها مقالاً ولا ألف مقال على أية حال. وثانيهما أن الكثيرين ربما يرون أن قراءة تفاصيل محاكمات نورمبرج، أو المحاكمة العسكرية الصورية لنيقولاي تشاوشيسكو، أو حتى لو عادوا إلى زمن محاكمة جاليليو بتهمة الهرطقة سنة 1633 ضمن إطار محاكم التفتيش، أهم أو أكثر قيمة من مثل هذه القضايا “الهوليوودية” السخيفة.

لكن، اسمحوا لي أن أسجل اختلافي مع هذه النظرة المترفعة “الزائفة”، النابعة ممن يمكن أن يعتبر وقته أثمن قيمة من أن يضيعه في متابعة تفاصيل مثل هذه الأمور، أو ممن يعتقد أنه لا وجود لمعانٍ أكبر يمكن أن تستقى منها، وكأنها مجرد كوميكس هزلية، مصممة للإلهاء والترفيه فقط، بلا عمق ولا قطب مخفية ولا مضامين اجتماعية.

دعوني اصطحبكم في زيارة خفيفة لبعض هذه الأبعاد ذات الدلالة، في قضيتين من هذا الصنف، هما قضيتا مايكل جاكسون وجوني ديب.

سيدهشكم أن أبرز عامل مشترك بين هاتين القضيتين، ليس هو شهرة الاسمين، ولا حكم البراءة من تهمة التحرش الجنسي بالنسبة لجاكسون عام 2005، أو الفوز في قضية تشهير لتنقية إسم جوني من تهمة العنف المنزلي عام 2022. ولا هو قوة أداء فريق المحامين لكل منهما، النابع من قوة الحقيقة التي أظهروها بالأدلة على براءة كل من جاكسون وجوني من التهم المزيفة الموجهة ضدهما.

ولا هو عامل التفاهة بالطبع، بل إن العامل المشترك الحقيقي هو.. الغفلة.

نعم، غفلة من اتهموهم، غفلة مدعي الفضيلة والمتاجرين بالأخلاق في وسائل الإعلام، فهؤلاء هم من يراهنون على غفلة المتابعين والمشاهدين ممن يصدقونهم. هذا بالإضافة إلى غفلة من يعتبر مثل هذه القضايا تافهة، بل وغفلة مايكل جاكسون وجوني ديب أنفسهم، التي تسببت في وضعهم في مثل هذه المواقف المشوهة للسمعة.

لا تستهينوا بقوة الغفلة، فهي في رأيي أقوى من قوة الإنكار، وسر هذه القوة الشديدة للغفلة، هو للغرابة، سهولة استخدامها إما لتزييف الحقيقة أو كشفها!

طليقة جوني ديب المريضة نفسياً قامت بالتعدي عليه، ثم صدقها الملايين حينما ادعت أنها الضحية. كما أن متهمي مايكل جاكسون إدعوا عليه كذباً لسنوات تخطت حتى تاريخ وفاته، فصدقهم الملايين حتى بعد حكم براءة من المحكمة

فكما أغفل الإعجاب بجمال آمبر هيرد، جوني ديب عن كشف حقيقة مثل هذا الصنف المسمم من النساء. غفل مايكل جاكسون داخل عالمه الخاص الذي تفوق على عالم ديزني، عن حقيقة أنه مهما بلغ حجم البراءة الطفولية التي أراد حصر ذاته بداخلها مثل بيتر بان الذي لا يشيخ أبداً، ستظل حقيقة هذا العالم القبيح، تطل برأسها من أي منفذ تجده، لكي تسمم عليك عالم البراءة الذي حلمت بصنعه بقلب مفتوح.

فقد فات جوني ديب، بعد علاقتي ارتباط بفتاتين مشهورتين، أولى بعارضة الأزياء البريطانية كيت موس، وثانية علاقة زواج انتهت بالطلاق من الممثلة والمغنية الفرنسية فانيسا بارادي، أن يدقق في من يختار أن يتزوج. أبهرته ملامح سطحية للممثلة الأميركية آمبر هيرد، أثناء مشاركتها معه بطولة فيلم The Rum Diary، وأحس بشعور جميل عندما قبلها في أحد مشاهد الفيلم، فنشأت بينهما علاقة انتهت بالزواج.

وإذا ما قمنا بتشغيل الشريط الزمني لعلاقتهما سريعاً إلى الأمام، سنمر فجأة بأمر تقييد من المحكمة، أو كما نسميه قرار عدم تعرض أو اقتراب، استصدرته آمبر ضد جوني. إلى مقال كتب في جريدة “ذا صن” البريطانية ذي السمعة “الصفراء”، مطلقة لقب Wife Beater على جوني ديب. ما جعل الممثل يرفع قضية تشهير ضد الجريدة التابلويدية في المملكة المتحدة، خسرها جوني لأسباب يطول شرحها. تقدماً إلى مقال كتبته طليقته آمبر هيرد لجريدة “الواشنطن بوست”، تدعي فيه أنها الآن صوت يمثل النساء المعتدى عليهن بالضرب، محاولة خلق دور زائف لنفسها في هذا النطاق، ومستخدمة هذا الإدعاء كمركبة دعاية تساعدها في نشر إسمها والترويج لأعمالها الفنية بشكل أو بآخر.

وصولاً إلى حكم الأول من حزيران/يونيو 2022، عندما قام فريق محامي جوني ديب بإظهار الحقيقة، في إطار قضية تشهير أخرى كان رفعها جوني هذه المرة ضد طليقته في ولاية فيرجينيا الأمريكية بسبب مقالة “الواشنطن بوست”، وفاز فيها بتعويضات عن تشويه السمعة والأضرار، زادت عن 10 ملايين دولار.

ظهر خلال هذه المحاكمة، مدى كذب هذه الطليقة المريضة نفسياً، التي تم تشخيص حالتها باضطراب الشخصية التمثيلي Histrionic Personality Disorder. بل وكشفت الأدلة الصوتية والمرئية والنصية أثناء المحاكمة، أنها كانت الطرف الذي قام بالاعتداء على جوني ديب بالضرب في مناسبات عديدة، لدرجة أنها تسببت في بتر جزء من أحد أصابع يده، بإلقائها زجاجة خمر عليه ذات مرة أثناء نوبة غضب.

أين كان عقل جوني ديب، حينما اختار امرأة مريضة كتلك لتكون زوجته، ألم يكن في غفلة؟. لماذا اعتقدت آمبر هيرد أن الجميع سيصدقون ادعاءاتها التي ثبت كذبها بالدليل في ما بعد، ألم تثق أن الجميع في غفلة؟. أين كانت عقول هؤلاء الإعلاميين والكتاب، عقول هؤلاء المشاهدين والقراء حين اختاروا تصديق الأكاذيب بلا أدنى تمهل أو تفكير معتبرين جوني ديب وحشاً، ألم يكونوا في غفلة؟

تذكروا أنه في عالم المشاهير المثير، هناك من يسعى دائماً لجعل الأبرياء يبدون وحوشاً، للتغطية على الوحوش الحقيقيين

أياً كانت أسباب هذه الغفلة، والتي يحلو للكثيرين ممن لهم مصلحة استغلالها، باستخدام مثل هذه القصص المثيرة للانتباه، والجاذبة للقراء والمشاهدين، لتحقيق المشاهدات والنقرات Clicks. ألا تمثل قصة مثل تلك فرصة للمماحكة في ثقافة Me Too، والنسوية المزيفة، التي تشجع البعض منهن على إدعاء اعتداءات جسدية وجنسية لم تحدث على الإطلاق، معتدين بذلك على صدقية آخرين ممن كانوا ضحايا بحق.

المهم في القصة ليس جوني ديب، ولا نحن هنا لندافع عن سمعته. الأهم هو المدى الذي يمكن أن تفهم به ما يحدث لمجتمع في غفلة، بداية من مشاهيره، إلى أوجهه وشاشاته الإعلامية، ومن يتسمرون أمامها من جماهير. ألا يستحق مثل هذا الأمر بعض التأمل. ألا يخبرنا بأمراض مجتمعية دالة.

إقرأ على موقع 180  قراءة في الانتخابات البرلمانية الجزائرية.. التقدّم إلى الخلف!

كما لم يكن مهماً في قضية مايكل جاكسون، ما إذا كان قد قام بما اتهم به أم لا، فمن ينشغل بمثل هكذا سؤال هو أيضاً في غفلة عن السؤال الحقيقى: لماذا يختار جاكسون طفلاً كان مصاباً بالسرطان، أعطاه الأطباء بضعة شهور قبل أن يموت، وحينما سألوه من تتمنى أن تقابل من المشاهير، قال “مايكل جاكسون”. فقام أشهر اسم على وجه الكوكب بتوجيه إهداء باسم الطفل المريض داخل غلاف كاسيت أحد ألبوماته غير الرسمية. بل وقام باستضافة الطفل وإخوته وأمه، وصديقها وفي بعض الأحيان طليقها، في أرضه وقتها المسماة “نيفرلاند”. ليتولى بعدها ملك البوب مصروفات وترتيبات علاج الطفل، مما كان سبباً في إنقاذه من موت شبه محقق، لكي … يتحرش به في النهاية في غرفة نومه، في وجود إخوته الذين يلهون في الجوار، وباب الغرفة مفتوح!

ضعوا أنفسكم أمام أكبر عدد من علامات التعجب هنا، على غفلة من ظنوا أن قصص أطفال كاذبة كتلك ستنطلي على من يدققون في التفاصيل. أو غفلة مايكل جاكسون نفسه حينما آمن مرات عديدة بأن أحداً لن يطعنه في ظهره، وحينما اعتقد أن مثل هؤلاء الناس يستحقون الدعم والمساعدة الإنسانية.

ما سردته لكم في الفقرة السابقة، هو نقطة في بحر الحقائق التي لا يعلمها إلا القليل من الجماهير. فهم بالطبع في غفلة عن أية تفاصيل، أو حقائق، ولتذهب سمعة إنسان إسمه مايكل جاكسون إلى الهاوية. المهم أن نتاجر بالأخلاق وندعي الفضيلة، من منطلق Virtue by Contrast، أو ها قد وجدنا شخصاً غريب الأطوار، متهماً بالتحرش الجنسي، فهل نفوّت فرصة المسارعة للإشارة إليه بأصابع الاتهام؟ أليست فرصة لنُبرّىء أنفسنا وندعي الفضيلة Virtue Signaling. أليست فرصة سانحة لتحقيق شعور سادي بالقوة والتفوق، تعويضاً عن إحساسنا بانعدام الأهمية مقارنة بالمشاهير، أو عن الانسحاق أمام من يتحرشون بحقوقنا ومستقبلنا وواقعنا الذي لا قيمة له؟

أرجو أن تكونوا قد فهمتم ما أقصد أعزائي القراء.

إذا كان اختيارنا دائماً، هو عدم الغوص في تفاصيل أية قضية عامة حتى ولو اعتبرت تافهة، ماذا يقول ذلك عنا حينما يبلغ الأمر قضايانا العامة الهامة بالفعل. إذا كنا لا نستطيع فهم أمور نترفع عنها باعتبارها “تافهة”، كيف لنا أن نقنع أنفسنا، أننا سنتحول فجأة – بقدرة قادر- إلى أشخاص منتبهين للتفاصيل حين يتعلق الأمر بقضايا هامة؟

من هم في غفلة من الجمهور، يتركون أشخاصاً مثل بيل جيتس، أوبرا وينفري، جيفري ابستين، أعضاء مجلس المحافظين للبنك الاحتياطي الفيدرالي، أو حتى افراد الأسرة المالكة البريطانية، والآلاف غيرهم، ممن يستحقون التدقيق بالفعل، في نواياهم، وأفعالهم، و”أدواتهم” و”من وراءهم”

العيب ليس في تفاهة الثقافة الشعبية، العيب الحقيقي في مدى غفلة من يدعي استعلاءً مزيفاً على مثل هذه الأمور، لكي ينكر غفلته عما يدور حوله، وعدم قدرته على المتابعة الدقيقة والتفكير النقدي، حتى في قضايا مشاهير “تافهة”.

طليقة جوني ديب المريضة نفسياً قامت بالتعدي عليه، ثم صدقها الملايين حينما ادعت أنها الضحية. كما أن متهمي مايكل جاكسون إدعوا عليه كذباً لسنوات تخطت حتى تاريخ وفاته، فصدقهم الملايين حتى بعد حكم براءة من المحكمة، وبعد أن تم دحض كل ما إدعوه بأدلة واضحة، بل وبعد أن ثبت أن ما كانوا وراءه هو المال، بل وفي حالة مايكل جاكسون تذهب القصة إلى ما هو أعمق من ذلك في عالم بيزنس الموسيقى، الذي “تخطى فيه حدوده” وامتلك ما لم يكن “مسموحاً” له امتلاكه.

ومن هم في غفلة من الجمهور، يتركون أشخاصاً مثل بيل جيتس، أوبرا وينفري، جيفري ابستين، أعضاء مجلس المحافظين للبنك الاحتياطي الفيدرالي، أو حتى افراد الأسرة المالكة البريطانية، والآلاف غيرهم، ممن يستحقون التدقيق بالفعل، في نواياهم، وأفعالهم، و”أدواتهم” و”من وراءهم”، ويهرولون نحو من يشار إليهم بأصابع التشهير والاتهامات الباطلة.

وتذكروا أنه في عالم المشاهير المثير، هناك من يسعى دائماً لجعل الأبرياء يبدون وحوشاً، للتغطية على الوحوش الحقيقيين!

فكيف لمن هم في غفلة، التمييز بين من هم أبرياء بالفعل كجاكسون وجوني، وبين من هم بالفعل وحَوش؟

إذا كانت الفقرات السابقة تحمل إبهامات مثيرة للانتباه ومدعاة للبحث، اعترف أنني فعلت ذلك عن قصد، مع سبق الإصرار والترصد.

فما نقلته لكم هنا من نقاط تخص جوني ديب أو مايكل جاكسون، هي بالفعل نقاط في محيط من التفاصيل الكاشفة، والهامة. نعم، هي هامة سواء اقتنعنا بذلك أم لا. والمجال هنا لا يتسع لذكر ما هو أكثر، عن قضايا جوني وجاكسون، وعلى من يريد أن يعرف المزيد، بذل جهد للصحوة من الغفلة عن الحقائق، حتى لو تعلقت بأمور تبدو تافهة. أو بمعنى أصح، يعتبرها من غفلوا عن تفاصيلها تافهة، لعدم رغبتهم في الخوض في التفاصيل والبقاء هائمين على طبقة المانشيتات السطحية الموجهة التي لا تكشف حقيقة، ولا تترك أية فرصة للتفكير النقدي، بل وتخفي الوحوش الحقيقيين، خاصة ممن هم “خلف الستار”.

حينما يتعلق الأمر بقضايا عامة، سواء أكانت هامة أم تافهة، أدعوكم لمعرفة الحقائق أولاً، بدلاً من الركون إلى الغفلة المريحة، وهذه هي الدعوة دائماً، حتى لو لم يتسع المجال في هذا السياق.

إنها دعوة للتفكير وللخوض في تفاصيل التفاصيل…

فكلنا يعلم أن من يكمن بها، هو الوحش الحقيقي.

والآن، استمعوا إلى أغنية مايكل جاكسون Is It Scary، وانتبهوا إلى تفاصيل ما يعنيه هذا العبقري الراحل بكلمات هذه الأغنية:

 تحياتي.

Print Friendly, PDF & Email
تامر منصور

مصمم وكاتب مصري

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  ما بين أشباه المشاهير، ترندات الفضائيين ومؤامرات الماسونيين؟