“زوجة رجل مهم”.. توثيق الحقبة الساداتية

يُصنف الفيلم المصري "زوجة رجل مهم" من بين أبرز الإنتاجات السينمائية في ثمانينيات القرن الماضي، فقد عرض مخرجه محمد خان لمرحلة الانتقال من "الإشتراكية الناصرية" إلى النظام الاقتصادي المفتوح (حقبة أنور السادات). لكن المختلف في العمل أنه استطاع ان يظهر أقوى وجوه النظام الأبوي في تلك الحقبة السياسية من تاريخ مصر.

اختار المخرج المصري محمد خان أن تدور احداث الفيلم عن انكسار أحلام زوجة الرجل المهم (رجل الأمن). يمكن لمقدمة وخاتمة الفيلم مع نغمات وكلمات أغنية “أهواك” للعندليب عبد الحليم حافظ ان تعد تعبيراً عن الحلم الناصري سياسياً واقتصادياً، أو أن تعد بمثابة تعبير عن احلام فتيات جيل عبد الحليم. تتشارك النساء في وطننا العربي في الهموم اليومية والمعيشية. يكسر الهم الهمم، وقد يشل القدرة على المقاومة في كثير من الأحيان كما حصل مع بطلة الفيلم منى (ميرفت امين). ترتبط النسوة أحيانا بمصير قاتلهن. لكن، كيف يكون وقع الأزمات الاقتصادية على نسائنا؟ كيف يحمّل الرجل، لا سيما صاحب النفوذ القوي، زوجته هم صعوده؟ كيف تُخدع المشاعر وتذوب الاحلام؟ كيف يحتال ويبتز ويهين هذا الرجل المهم؟ كيف ينتشي مثل هؤلاء الضباط بشعور العظمة فيعيشون نشوة الانتصار؟ كيف تقتل النساء في الفراش الزوجي؟ وكيف تهان زوجة هذا الرجل المهم؟

انتفاضة الخبز 1977

أطلق الشارع المصري على أحداث يومي 18 و19 يناير/كانون الثاني 1977 اسم ” ثورة الخبز”، بينما وصمها أنور السادات بتسمية “ثورة الحرامية”. خرج الشارع المصري يهتف ضد السادات والإجراءات الاقتصادية القاسية التي طالت كل شرائح الشعب المصري ولا سيما الفقراء. كانت مصر آنذاك قد بدأت بخصخصة العديد من القطاعات العامة بعد الخروج من التجربة الاشتراكية الناصرية مع بداية عصر الانفتاح المفتون بالنموذج الرأسمالي الأميركي. تطلبت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي لتدبير الموارد المالية الإضافية إجراءات تقشفية مثل تخفيض الأجور وتقليص الخدمات الإجتماعية. ومع انهيار سعر الصرف وارتفاع الأسعار واحتكار الشركات الخاصة، ضعفت القوة الشرائية للمواطن المصري. كما حدث ويحدث اليوم في لبنان، الذي لا يزال يفاوض من أجل قرض من صندوق النقد في ظل تأزم الاقتصاد العالمي وانهيار اقتصاد لبنان. حاولت الدولة المصرية في زمن السادات اتخاذ بعض الإجراءات الإصلاحية في موازاة قمعها الوحشي لأعمال الشغب التي انفجرت اعتراضا على ارتفاع الأسعار. جرت حملات اعتقال واسعة في صفوف الطلبة والعمال الذين تزايد اهتمامهم بالحديث في السياسة نتيجة التعبئة الشيوعية.

من هذا المنطلق تبرز أهمية عمل المخرج محمد خان. خلطة سينمائية بين الدراما والتوثيق، وهي سمة ميّزت الكثير من الأفلام التي قامت بتغطية الحقبة التي تميزت بالزج بآلاف المناضلين الشيوعيين في المعتقلات، وأبرزها معتقل أبو زعبل. بعد أحداث يناير/كانون الثاني 1977، أرادت الحكومة المصرية تهدئة الشارع الثائر، فتراجعت عن بعض القرارات الاقتصادية المؤلمة، وعلى الجانب الآخر قامت بمنح ترقيات لبعض الضباط الشباب وموظفي القطاعين العام والخاص، ما أدى إلى تسريع إحالة عدد من ضباط أمن المباحث إلى المعاش. وهكذا يسير الخط الدرامي لدور الضابط المهم في الفيلم، الذي يؤديه بعبقرية الممثل الراحل أحمد زكي وهو رجل يستغل سلطته المهنية ليمارس العنف ويحقر أعضاء الحركة التحررية بالإضافة الى استخدام نفوذه في تفاصيل حياته اليومية، ولا يقل تسلطه في نطاق حياته الأسرية.

ينهي محمد خان الفيلم بقتل أحلام ميرفت أمين الرومانسية، فقد مات عبد الحليم حافظ، وسقط وهم العظمة، لكن بعد أن سقطت الأحلام القومية، لمصلحة “الرئيس المؤمن” الذي ما يزال حتى اليوم عنوان إشتباك فكري بين مصريين يدينون له بالكثير من إزدهار مصر وبين آخرين يحملونه مسؤولية ضمور الدور المصري بكل تداعياته الداخلية والخارجية

تميز خان باستعمال الكاميرا من الأعلى، ليعكس علو الشعور بقوة السلطة عند هذا الضابط. لكن بعد إحالته إلى المعاش (راتب التقاعد)، يغير خان زوايا الكاميرا إلى الأسفل، الأمر الذي يدل على انهيار الهيبة. أما عن درجة تقريب عدسة الكاميرا، فقد كان خان يلجأ إلى لقطات قريبة “كلوز اب” في الحالات النفسية، كاللقطات التي يقوم فيها الضابط بمداعبة زوجته وابتزازها عاطفيا من أجل البقاء معه على سبيل المثال، ليظهر خان اهتمامه بتصوير الجانب النفسي بكل حواسه. أما عن شارب الضابط المهذب وهندامه، فهو يدل ربما على ذكورية هذا الرجل الأسمر الذي ظهر في لقطاته الأولى بالفيلم مرتدياً نظارة سوداء.

“كريمة المجتمع”

تتربع طبقة “كريمة المجتمع” على قمة الهرم الاقتصادي، وهي تحوي رجال الأعمال، النواب وكبار المستثمرين. وقد استخدم خان هذا المصطلح ليصف به دعامة الاقتصاد الرأسمالي. الطبقة التي تسخر من مشروع إنشاء السد العالي. السخرية ذاتها من أغنية عبد الحليم حافظ المخصصة للاحتفال بالمشروع “حكاية شعب”. هنا تتجلى رؤية محمد خان السياسية، أو بالأحرى رؤية الجماهير التي أراد التعبير عنها آنذاك. 

لقد اشتهر الجهاز الأمني في مصر بالتجسس على السياسيين أنفسهم أو الممثلين، وكانت واحدة من مهام الضابط (الرجل المهم) هي تلفيق التهم لأكبر عدد من المواطنين بتهمة الانتماء للشيوعية. كما كان هشام (أحمد زكي) يستعمل زوجته للحصول على معلومات عن زملائها في الجامعة، وهو السبب الذي جعله يسمح لها بالخروج من المنزل. فعانت هذه الزوجة من أشد أنواع العنف النفسي عبر إجبارها على العزلة. لكنها تستمر في البحث عن ذاتها، فتقرر العودة للدراسة في الجامعة، وحاولت في بداية الفيلم مقاومة الخضوع للعلاقات الاجتماعية التي فرضها زوجها المهم عليها مع طبقة “كريمة المجتمع”. كبرت الفتاة على قصص والدها عن المزارعين وايجابيات السد العالي، تحاول العودة الى الحياة كسيدة ناضجة، لكنها تكتشف أنها وزوجها مربوطين بحبل واحد.

“انا مستعدة أقف في طابور الجمعية بس تديني فلوس”، هذا ما قالته منى لزوجها الذي انفعل بوجهها بسبب عدم توفر المصروف الكافي. أصبحت الفتاة المراهقة زوجة مر عليها دهر ومرت عليها سلطة العسكري المريض بأوهام العظمة، كما هو حال الشارع المصري المليء بكل أنواع التناقضات. تدخن منى بشراهة، وتتحول تدريجياً إلى نموذج المرأة الباردة التي اعتادت التعامل مع هجومية رجل يرى نفسه مهماً. وحين ينكسر هذا الرجل، يرفض تقبل النزول بمستواه الاجتماعي ويصر على كونه رجل مهم. يحاول استبقاء دور المهم أمام زوجته، ولكنها تشهد انهياره بأم عينيها، وحين ينكر هو هذه الحقيقة، تواجهه هي بها. يستمر عنف هشام، ويتزايد ذبول منى، لكنها تحاول الهروب في النهاية من هذا الجحيم المنزلي.

أعدت مشهد الختام لمرات عديدة، أصابتني حشرجة في حلقي، ولم أتمالك دموعي التي لطالما تساقطت في كل مرة أشاهد فيها هذا الفيلم. وكأن صدق محمد خان ينعكس على صدق أداء الممثلين، فينعكس على مشاعرنا كما انعكس على مشاعر ماجدة في لقطات غنى لها فيها عبد الحليم حافظ اغنية أهواك، وبالتالي على مشاعر منى التي بكت أثناء المشاهدة.. فهل نحتاج  الى أن نسأل النساء، لماذا ترسخ هذا الفيلم في أذهانهن؟

رجل يلبس لباسه الأنيق المعتاد كي يطلق النار على والد زوجته الذي جاء لأخذها ومن ثم على نفسه، أما منى؟ فقد اكتمل انهيارها، برغم موت الرجل المهم.

صوت طبول الحرب، الذي يتناقض مع رقة وعذوبة موسيقى وكلمات أغنية “أهواك وأتمنى لو انساك”.. ينهي محمد خان الفيلم بقتل أحلام ميرفت أمين الرومانسية، فقد مات عبد الحليم حافظ، وسقط وهم العظمة، لكن بعد أن سقطت الأحلام القومية، لمصلحة “الرئيس المؤمن” الذي ما يزال حتى اليوم عنوان إشتباك قيمي بين مصريين يدينون له بالكثير من إزدهار مصر وبين آخرين يحملونه مسؤولية ضمور الدور المصري بكل تداعياته الداخلية والخارجية.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  لأستراليا دور يتجدد
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  كوكايين مصارف لبنان.. والطوفان الآتي!