ما فهمه الإسرائيلي من “رسالة المُسيّرات” تلقفه المحلل العسكري في صحيفة “يديعوت أحرونوت” يوسي يهوشواع بقوله: “ما لم تتنازل إسرائيل للبنان فإن بإمكاننا (أي حزب الله) إرسال مسيّرات غير مفخخة، ولكن بإمكاننا أيضا إرسال مُسيّرات تتفجر على المنصة عندما يبدأ العمل فيها”.
المعنى أن هدف عملية المُسيّرات قد تحقق؛ جزء منه كان الإنذار والتنبيه، أن توقفوا عن أي خطوة باتجاه استخراج النفط والغاز عملياً طالما لم ينتهِ شيء بعد في موضوع ترسيم الحدود. وكما جاء في بيان المقاومة غداة عملية المُسيرات “فالرسالة وصلت”.. إلى العدو، كما إلى وزراء الخارجية العرب الذين كانوا افتتحوا للتوّ اجتماعهم في بيروت. في حين كانت المؤسستان الأمنية والسياسية في تل أبيب تتفقدان رأسيهما بعد المفاجأة التي هزّتهما من الأعماق. أما الكورس اللبناني الذي لا يني يردد ببغائية ممجوجة اتهامه لـ”حزب الله” بأنه يضحّي بالمصلحة اللبنانية تحقيقاً للمصلحة الإيرانية، فقد جاءت الدرونات الثلاث لتؤكّد مرة أخرى أن “حزب الله” يُقدّم مصلحة لبنان العليا على أي مصلحة سواها، اقليمية كانت أم إيرانية تحديداً، كالمفاوضات النووية، أو سواها. كذلك أثبتت العملية مرة إضافية، جدّية المقاومة في الدفاع عن لبنان وعن حقوقه في ثرواته البحرية. وهذا ليس هو الإنجاز الأول. فالمُسيّرات التي أُسقطت فوق حقل كاريش، هي الإيذان الساطع بامتداد حرب المقاومة ضد الاحتلال إلى الميدان الجوي.
إن جهد المقاومة يقوم على أساس أن ليس ما بيننا والعدو سوى الحديد والنار.. و”أعِدّوا لهم ما استطعتم من قوة..”. وحصول لبنان على حقوقه في مياهه الإقليمية لن يتحقق بغير قوّة تتيح إتمام عملية ترسيم الحدود بحيث تكون مُنصفة فيقبل بها طرفاها. وهذا لن يتحقق إلا بإعداد مقوّمات القوة، وهذا ما تقصّد السيد نصرالله مبكراً التنبيه له حين أشار في إحدى خُطبه إلى أنّ “قضية الثروة النفطية والغازية في المياه اللبنانية لا تقل أهمية عن تحرير الشريط الحدودي المحتل”.. ولبنان يمتلك من أوراق القوة ما يجعله يذهب إلى المفاوضات برباطة جأش.
اليوم يجري الحديث عن ترسانة من آلاف المُسيّرات، وجميعها يمكن أن تكون مجهّزة بالكاميرات وبالصواريخ وبالمتفجرات، حسبما تدعو الحاجة، ويمكن أن تكون أيضاً عصية على اكتشافها من الرادارات العدوة، تماما مثل مُسيّرة “حسّان”.. ولا شك أن “تغريبة الدرون” هي فاتحة مستقبل فلسطين
إلا أن معضلة ملف الثروة النائمة في الأعماق، ليست في ما يقوله السيد نصرالله، بل بنأي أهل السلطة بأنفسهم عن القيام بواجباتهم الرسمية والوطنية، من أجل أن يضمنوا نجاتهم من أية عقوبات أميركية، فيُحاولون شراء العفو عن فسادهم مقابل ثروة لبنان النفطية التي تبلغ عشرات مليارات الدولارات، كأنما مصالحهم الذاتية تمرّ قبل المصالح الوطنية، وينتظرون ما يسمى “الارتطام الكبير” الذي بشّروا به ليرتاحوا من ضجيج الناس. لذلك رفضوا تثبيت تعديل المرسوم 6433 وتخلّوا عن حقوق لبنان في حقل “كاريش” التي أثبت الجيش اللبناني صحتها ومصداقيتها من خلال المنهجية العلمية الدقيقة التي اعتمدها ضبّاط متخصصون، والتي نالت تقدير العديد من المراجع في الداخل والخارج.
من هنا يأتي تركيز المقاومة في هذه المرحلة على أسلوب الدرونات سعياً إلى توضيح الحقائق أولاً وبناء استعدادية متكاملة أمام أي عدوان محتمل. وعلى أهمية الأسلحة المتعددة والمتقدمة المتوفرة مع المقاومة، ومنها الطائرات المُسيّرة، فالقيادة تدرك تماماً أن السلاح وحده لا يكفي، لأن ما يجعله فاعلاً ومؤثراً هما الإرادة والاستعداد لاستخدامه. وعملية المُسيّرات الثلاث وما قبلها قدّمت التأكيد الجديد على هذه الإرادة. وللتذكير ايضاً فهذه المسيرات لم تكن نقطة ضائعة بل جملة قصيرة في نصّ طويل. فقد سبقتها مُسيّرات أخرى كثيرة جرى الإعلان عن بعضها فقط دون الأخرى، منذ “مرصاد 1” مروراً بمسيّرة “أيوب” ووصولاً إلى مسيّرة “حسّان”. وهذه الأخيرة حلقت لحوالى ساعة من الزمن في أجواء بحيرة طبريا وحوضها، من دون أن تتمكن تكنولوجية رادارات العدو الإسرائيلي وربيبه الأميركي من التقاطها. والسرّ يكمن في محرّك تلك المسيّرة.. والباقي غير معروف، حيث قيل أنه كان “محرّكاً شبحياً”، في تعبير لم يتمكن قائلوه من تفسيره (أو لم يرغبوا في ذلك). ولقد صوّرت مسيّرة “حسّان” أكثر من عشرة أهداف حسّاسة للعدو من بينها عدة مطارات عسكرية في منطقة طبريا وجوارها.
اليوم يجري الحديث عن ترسانة من آلاف المُسيّرات، وجميعها يمكن أن تكون مجهّزة بالكاميرات وبالصواريخ وبالمتفجرات، حسبما تدعو الحاجة، ويمكن أن تكون أيضاً عصية على اكتشافها من الرادارات العدوة، تماما مثل مُسيّرة “حسّان”.. ولا شك أن “تغريبة الدرون” هي فاتحة مستقبل فلسطين.
ولأنّ الطرف المعنيّ بالصراع اليوم (العدو الإسرائيلي) ليس له مصلحة في نشوب حرب كبرى في ظل مصالحه في النفط والغاز، وما يعرفه عن عناصر قوة المقاومة، ولأن الغرب (الذي يرعاه ولا سيما اميركا) في أمس الحاجة إلى النفط والغاز الشرق-أوسطي للتعويض عمّا حرمه منه الروس.. فإن الحرب على لبنان بعنوان كاريش أو غير كاريش لن تقع، وهذا من فضائل معادلات توازن الرعب التي فرضتها المقاومة.
من الواضح أن دخول المقاومة على الخط بشكل مباشر عبر المُسيّرات الثلاث، أدى إلى تحريك الجمود الذي أحاط بملف الترسيم والاستثمار، في وقت يبدو العالم كله خلاله مشغولاً بمشاكله. فواشنطن غارقة في ملف أوكرانيا ــ روسيا ــ الصين؛ إدارة الرئيس جو بايدن (ضيفنا في هذه الأيام) تتخبّط على أبواب الانتخابات النصفية التي تلوح بشائر خسارتها في الأفق تحت مطارق ارتفاع أسعار الوقود والمواد الغذائية عموماً إلى مستويات قياسية، وصمود روسيا في الميدان الأوكراني؛ وفرنسا غارقة في أحزان رئيسها الذي أدّى “رسوبه” في الانتخابات الأخيرة إلى إحراجه في لبنان.. وما أدراك ما لبنان، عندما تتنصل حكومته من الدرونات وتعوّل على أيلول المبلول بوعود عرقوبية.
لندع جانباً الاستنتاجات المتسرّعة بينما يتواصل صراع الإرادات، ولنقلّد الصاروخ الذكي (wait end see): ننتظر ونرى.