حطّمت حرب أوكرانيا سكون التاريخ وأجبرت العالم على التحرك نحو التوترات السياسية والجيوسياسية. بل إن بعض البلدان اضطرت إلى إعادة النظر فى عقيدتها الأمنية، فضلا عن دورها فى العلاقات الدولية. على سبيل المثال، فنلندا والسويد من بين البلدان التى انسحبت من الالتزام بسياسة الحياد والاتجاه للانضمام إلى الناتو. إضافة إلى إعلان ألمانيا عن استراتيجية دفاعية جديدة ألا وهى ضخ 100 مليار يورو فى جيشها. وكذلك غضت سويسرا الطرف عن سياسة الحياد داعية إلى مزيد من التعاون مع الناتو.
لن ترضى لندن بأى شىء آخر سوى استمرار الحرب وهزيمة فلاديمير بوتين، وكذلك تسعى فرنسا للتعاون الكامل مع الناتو. ومن جانب الولايات المتحدة وبريطانيا، فقد أرسلتا على الفور أسلحة إلى أوكرانيا إبان الحرب. حتى الكونجرس الأمريكى، على الرغم من الخلافات بين الحزبين الديمقراطى والجمهورى حول السياسة الخارجية، وافق بالإجماع على إرسال عشرات المليارات من المساعدات لأوكرانيا.
للتوضيح، عاد الغرب إلى النزعة العسكرية من جديد متجاوزا حدود الديمقراطية، حيث أرسل معدات عسكرية متقدمة مثل الصواريخ المضادة للدبابات والمضادة للطائرات والطائرات بدون طيار إلى أوكرانيا، ليتمكنوا من تأجيل التغييرات الجيوسياسية التى تسعى روسيا لتحقيقها.
فى خضم الحرب، علقت الشركات الغربية، دون قرار أو تفويض من الأمم المتحدة أو منظمة التجارة العالمية، عملياتها فى روسيا، بالإضافة إلى فرض عقوبات شملت قطاعى الدفاع والتكنولوجيا فى البلاد. فى المقابل، اشتد ضغط موسكو على أوروبا، حيث قطعت جازبروم إمدادات الغاز عن بولندا وبلغاريا وقطعت إمدادات الكهرباء عن فنلندا التى تستورد 10 فى المائة من كهربائها من روسيا. وتوقف أيضا تدفق الغاز من القطب الشمالى إلى ألمانيا وبعض الدول الأوروبية.
***
بصرف النظر عن العواقب السياسية والجيوسياسية الوخيمة للحرب الأوكرانية، ستزداد الأزمة الاقتصادية نتيجة لاستمرار العقوبات الغربية ضد روسيا، وبالتالى ستؤثر مشاكل الإمدادات الغذائية العالمية والتقلبات فى تكاليف الغذاء سلبا على الاستقرار السياسى لبعض البلدان فى آسيا وأفريقيا التى تسعى إلى تحقيق التوازن فى التجارة مع كل من الولايات المتحدة والصين وروسيا.
تسببت التوترات السياسية فى قطاعى النفط والغاز وارتفاع أسعار القمح والذرة فى العديد من المشكلات للبلدان الآسيوية. حيث تعانى كل من تايلاند وفيتنام وسنغافورة من تأثير النقص الحاد لتلك الموارد على خدماتها الحيوية مثل النقل والكهرباء والوقود. ففى فيتنام، تم إغلاق بعض محطات الوقود. لذلك عززت دول رابطة أمم جنوب شرق آسيا (ASEAN) العلاقات مع إيران وفنزويلا على أمل توفير مصادر نفطية بديلة.
***
إن العالم اليوم فى وضع اقتصادى متأزم للغاية. والدليل على ذلك، أن البحر الأسود ــ الذى تعتمد عليه تجارة الحبوب ــ أصبح منطقة حرب. إضافة إلى اعتماد العديد من البلدان الفقيرة على روسيا وأوكرانيا فى ظل عدم إمكانية المنتجين الآخرين تلبية الاحتياجات العالمية بالكامل، مما ساهم فى تبلور الأزمة أكثر.
ما دامت الولايات المتحدة ترى أن استعادة أوكرانيا لسيادتها الإقليمية لن يكون ممكنا إلا بانسحاب روسيا، فإن أوروبا ستكون فى طليعة التهديدات الحالية والمستقبلية، وسيؤدى استمرار تلك الحرب فى نهاية المطاف إلى عدم جدوى الضمانات الدولية فى حماية السيادة الأوروبية، هذا بينما تريد الولايات المتحدة، كقوة عظمى، الحفاظ على الوضع الراهن
لا تستطيع الولايات المتحدة وكندا والبرازيل والأرجنتين ودول أمريكا الجنوبية الأخرى تصدير أكثر مما خططت له. وبالتالى سيؤثر تقنين الغذاء لصالح البلدان الغنية على مشاكل الأمن الغذائى والاستقرار السياسى فى البلدان المكتظة بالسكان مثل مصر وتركيا وبنجلاديش ونيجيريا وإندونيسيا والمغرب التى تستورد الحبوب وخاصة القمح. فهى لا تستطيع إيجاد طرق بديلة للاستيراد، إضافة إلى شعوبها المعرضة لتقلبات الأسعار فى الأسواق الدولية.
فى الوقت الحالى، تشعر الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبى، وكذلك اليابان وكوريا الجنوبية، بالقلق حيال نمو جراءة الصين أكثر فى تايوان إذا نجحت روسيا فى انتهاك سيادة أوكرانيا والتغيير الإقليمى دون دفع حتى ثمن ضئيل جراء تلك الحرب. تشعر اليابان وكوريا الجنوبية بالقلق بشأن السيادة التوسعية والإقليمية للصين، وكما هو متوقع، انضمتا إلى الجانب الأمريكى ضد روسيا. أما فى كتلة آسيان (ASEAN)، ميانمار فقط هى التى تدعم روسيا، بينما اضطرت سنغافورة، التى سعت منذ فترة طويلة إلى تحقيق التوازن بين الصين والولايات المتحدة فى المحيطين الهندى والهادئ، إلى إدانة موسكو.
سوف تقود التطورات السياسية والاقتصادية الأخيرة العالم إما إلى النزعة العسكرية الأحادية القطبية التى تقودها الولايات المتحدة، وإما إلى تقسيم العالم إلى عدة كتل سياسية واقتصادية حتى ينتهى عصر الاحتكار الأمريكى. من المرجح أن يصاحب العالم متعدد الأقطاب زيادة الاعتماد الاقتصادى والدفاعى على الذات، وتشكيل اتحادات إقليمية وعبر إقليمية مختلفة لتغيير النظام المالى والاقتصادى الدولى من خلال الصين وروسيا، وخلق عالم قائم على نظام يتكون من منظمات وقواعد دولية خارج هيمنة الولايات المتحدة.
***
يمكن القول إن محاولة الولايات المتحدة تحقيق التوازن بين القوى الإقليمية ومعارضة روسيا للنظام الدولى الأحادى القطب مهدا الطريق أمام الحرب الأوكرانية. وتجدر الإشارة إلى أن الغزو الروسى لأوكرانيا قد شكك فى صحة جميع الاتفاقيات النووية وعدم انتشار أسلحة الدمار الشامل. لقد أوضح الطرفان فى موسكو وواشنطن أنه يجب قبول الوضع الجيوسياسى الجديد فى أقرب وقت ممكن، حتى لو أدى إلى الحرب العالمية الثالثة.
يجب على أوروبا أن تفهم أن الأزمة الأوكرانية استهدفت بشكل مباشر أمن القارة. ولأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، انتشر النزيف الجغرافى نتيجة استمرار التصادمات التقليدية بين الولايات المتحدة وروسيا من الشرق الأوسط وشرق آسيا إلى أوروبا؛ وسيكون لاستمراره عواقب على مستقبل الاقتصاد والأمن الأوروبيين لا يمكن إصلاحها.
ومما لا شك فيه أنه ما دامت الولايات المتحدة ترى أن استعادة أوكرانيا لسيادتها الإقليمية لن يكون ممكنا إلا بانسحاب روسيا، فإن أوروبا ستكون فى طليعة التهديدات الحالية والمستقبلية، وسيؤدى استمرار تلك الحرب فى نهاية المطاف إلى عدم جدوى الضمانات الدولية فى حماية السيادة الأوروبية، هذا بينما تريد الولايات المتحدة، كقوة عظمى، الحفاظ على الوضع الراهن وتعزيز القواعد التى تتماشى مع تحصين قيادتها.
(*) بالتزامن مع “الشروق“