أيّ سرٍّ وراء هذا الهدوء اللبناني؟
Bullet casings are seen on a street , during clashes with gunmen of hardline Sunni Muslim cleric Sheikh Ahmed al-Assir, in Sidon, southern Lebanon, June 24, 2013. Lebanese soldiers fought Sunni Muslim gunmen in the southern city of Sidon on Monday in one of the deadliest outbreaks of violence fuelled by sectarian divisions over the civil war in neighbouring Syria. REUTERS/Mohamed Azakir (LEBANON - Tags: POLITICS CIVIL UNREST MILITARY)

يتساءل كثيرون عن السرّ الكامن وراء "ثبات" حالة الستاتيكو اللبنانية (يسمونها السلم الأهلي، وعكسها الحرب الأهلية)، برغم تفاقم الضغوط الحياتية بشكل غير مسبوق منذ زمن ابراهيم باشا، وبرغم توافر عوامل أكثر من كافية لتفجير الوضع، ولا سيما مع تزاحم الإستحقاقات سواء ما يتصل منها بتشكيل حكومة ينبغي قيامها لإدارة فراغ رئاسي مُتوقع، أو انتخاب رئيس جديد لجمهورية لم يبقَ منها غير النعيب، لكأنّ مدة صلاحيتها قد انتهت.

الجميع بات على يقين من أن “تقطير” رئيس لبناني من كل هذا العنب الفاسد لن يتحقق بهذه “الكَرَكَة” التالفة، حتى أن هذه الفرضية خرجت تماماً من مربّع الأمنيات لتستقر في خانة الغيب المنطوي على توقعات سوداوية مريرة. هذا في حين أن ما يندرج تحت مسمّى “الدولة”، يكاد لا يفعل شيئاً خارج إضاعة الوقت والفُرص، سوى انتظار “الارتطام الكبير”.

“طوابير الذلّ” تملأ فضاءات البنوك والأفران ومحطات الوقود والدوائر الرسمية (القليلة جداً التي تعمل)، وسلسلة التمرينات اليومية الإلزامية للمواطن على كراهية الآخر، كل آخر في نطاق وجوده، نازحاً كان أم لاجئاً أم عاملاً أسيوياً أم هارباً أفريقياً أم حتى لبنانياً.. أم كائناً ما كان وقد جاء ينافسه على أيّ شيء وفي أيّ مكان وفي أي مهنة.

“خبراء الميديا” المحليون الذين يعرفون البواطن الخفية ولا تفوتهم معلومة ولا سرّ، يواصلون كالسعادين رقصات أكَلَة لحوم البشر في سهرات النار، إنما بالطريقة العصرية. على الشاشات وأمام طاولات الـ”توك شو”. والمتمكنون في الشأن العام لا يتكاسلون لحظة عن صبّ الزيت على النار، في ما يشبه الجرعات التذكيرية للإبقاء على شعلة انفجار الأوضاع حيّة ومُستنفرة غبّ الطلب. وبينما التنافس على أشدّه بين الارتفاع الجنوني لمعدلات الفقر ونسبة اللبنانيين الساقطين في شِباكه والمياومة الحامية لجرائم القتل والتشليح، ثم، وهذا جديد مُستورد، ابتكارات ذبح البشر وقطع رؤوسهم، يتواصل التدهور تصاعدياً، مع تراجع ميداني ملحوظ للحضور الأمني والعسكري وسط حالة الاهتراء العامة للمعنويات والرواتب، في حين يحافظ “السلم الأهلي”، ويا للعجب (!)، على تماسكه، فلا يضيره بعض العصيّ والسكاكين التي تنفّس يومياً عن “سندروم”  الغضب التنافسي بين ضحايا الأزمة.

اضطراب الأوضاع بنظري يتطلّب أولاً جمهوراً أثقلت عليه الحياة حتى لم يعد لديه ما يخسره، على أن يكون جمهوراً “مؤهلاً”، بمعنى أن يكون مسلحاً أولاً وعلى مقدار ما من التكافل والتنظيم ثانياً، ويعمل بتصرّف زعامة في مراتب السلطة العُليا تُشبعه وتحميه ثالثاً، وفي حوزته وأقرانه ما يكفي من الأعتدة والأسلحة والذخائر رابعاً. وهذا كلّه أضعف الإيمان

هذه الحالة الغريبة العجيبة لبلد يعيش خارج المنطق، أطلقت بعض فلتات المرحلة، فانقضوا علينا بالاستنتاج الأرخميدي المقلوب ومؤداه أن الثبات العجيب للهدوء في البلد وسط كل مقوّمات العاصفة، إنما يعود إلى معجزة “الأمن الممسوك”، وهو التعبير الذي لا يخجلون من تكراره ليردّوا الفضل فيه إلى أنفسهم وسهرهم (سهراتهم..)، فيُغرقون الفضاء الإعلامي بهذا المستوى الهابط من “الرندحة” الرسمية التي لم يعد “يقبضها” أحد.

لكن بعض “المفكرجيّة” من المتبطلين المياومين في تلاوة حكايا السلطان، يذهبون مذهباً آخر، فيشيعون أن نعمة هذا الهدوء المتواصل إنما تعود إلى الخارج (الذي يقبضون منه ويعتاشون على التسويق له)، فيشرحون لنا، نحن الذين لا نعرف، أن هذا الخارج الديمقراطي الرؤوف يواصل رعاية بلدنا، بدليل أن الأمر الخارجي بالتفجير لم يصدر، ما يجعلنا نستمر في العيش بسلام.. والمعنى أن هذا هو سر وسبب عدم انفجار الأوضاع في البلد.

إلا أنني وكأي لبناني ضربته ريح الـ”مش عارف حالك مع مين عم تحكي”، أرى الحقيقة في واقع آخر مختلف، وأصرّ أنني على حق وكل الآخرين على خطأ. من هنا أشرح عدم انهيار الوضع في البلد بطريقة أخرى مختلفة. فاضطراب الأوضاع بنظري يتطلّب أولاً جمهوراً أثقلت عليه الحياة حتى لم يعد لديه ما يخسره، على أن يكون جمهوراً “مؤهلاً”، بمعنى أن يكون مسلحاً أولاً وعلى مقدار ما من التكافل والتنظيم ثانياً، ويعمل بتصرّف زعامة في مراتب السلطة العُليا تُشبعه وتحميه ثالثاً، وفي حوزته وأقرانه ما يكفي من الأعتدة والأسلحة والذخائر رابعاً. وهذا كلّه أضعف الإيمان. أما الجمهور العادي، أي الناس الآخرون من أمثالنا، فنادراً ما يكونوا مسلّحين، وإن كانوا، فذخائرهم تكون محدودة وللمناسبات فقط وغير كفؤة لتغيير الأوضاع في البلد. هذا فضلاً عن افتقاد الحماية والتنظيم والقيادات الميدانية من ذوي الخبرات بالدم وخلافه.

الصنف المطلوب من الجمهور الذي أقصد يقتصر على ناس الأحزاب وحدهم، كما أعلم وتعلمون، فهم الوحيدون المسلحون والمحظيون والمحميون. هؤلاء الشبّان (والكهول) الذين (منذ الانتهاء المزعوم للحرب) يُديرون شؤون الشارع ورأيه العام، ويُؤمّنون السيطرة على الأحياء والأمكنة والمنافع والوظائف.

وهؤلاء، بحمد الله، ليسوا مثلنا ولا يُعانون مما نُعانيه من ثقل الأوضاع ومشقّات اللقمة، ولا ينقصهم شيء من وقود للسيارة وتيار كهربائي وماء وكلأ، بفضل قياداتهم والزعماء الأفذاذ الذين يرعونهم. وبالتالي فلا دافع يضطرهم أن يتبرّموا أو يُعانوا أو يتحركوا أو يثوروا، إذ لماذا يتحركون ويثورون وهم مكفيون، ولا دافع عندهم ولا سبب.

واضح أن هكذا واقع ليس في مصلحة الآخرين.. غير المتحزّبين. لكن الحقّ على هؤلاء  أنفسهم، والذنب ذنبهم. فهم أساساً امتنعوا عن الإنضواء في أيّ من الأحزاب، وهذا خطأ، ولم يناضلوا، وهذه خطيئة، وبالتالي فهم لم ينتصروا ولا يحق لهم شيء من الغنائم. ثم أنه لم يعد من المسموح لهم الآن أن ينتسبوا أو أن يطلبوا النضال. فمن ضرب ضرب ومن كسِب كسِب.

إقرأ على موقع 180  العالم يتغير، أوزان الكبار تتغير.. الذكريات تتحدث

هذا برأيي هو ما يحمي “السلم الأهلي”، لا الأمن الممسوك ولا القناعة الوطنية ولا السماوات العُليا. فالقادر على تخريب الأوضاع ليس متضرراً (بل هو مستفيدٌ) منها، والمتضرر عاجز  وليس قادراً على الفعل. فلا تبيعونا بالله عليكم لا من أمنكم الممسوك ولا من فضائل الخارج.

“فقد قبرنا الشيخ زِنكو سوا”.

Print Friendly, PDF & Email
محمود محمد بري

كاتب لبناني

Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  رحيل أحمد بن صالح.. رجل بورقيبة القوي