إلى جانب التحدى اللوجيستى المتعلق بنقل وتشغيل وصيانة تلك المنظومات التسليحية الغربية بالغة التعقيد، برزت معضلة افتقاد الدول المانحة آليات دقيقة ومستدامة لتتبع ورصد ومراقبة مساراتها. بما يكفل التأكد من عدم استخدامها لاحقا فى نزاعات مسلحة، أو وقوعها فى براثن جهات مناوئة للغرب، كروسيا أو التنظيمات الإرهابية والحركات المتطرفة. فلقد تم تضمين شرط الالتزام بمبادئ حقوق الإنسان فى عقود التسليم، وإلزام كييف بعدم نقلها إلى أطراف ثالثة، دون إذن مسبق من واشنطن. كما تم تحديد الوحدات الأوكرانية التى يمكنها تلقى الأسلحة، بعد التحرى الدقيق عنها. وأوصى الأمريكيون بتعيين محقق خاص، للتأكد من خضوع عمليات نقل الأسلحة لإجراءات تتبع صارمة. غير أن تلك التدابير، ظلت مفتقرة إلى التفعيل الناجز عبر آليات تنفيذية واضحة وصارمة.
لم يتورع مسئولون روس عن اتهام الغرب بتحويل أوكرانيا إلى مكب لإتلاف أسلحة الناتو، المتقادمة، والتى لن تؤثر، جوهريا، فى سير المعارك، حسب زعمهم. بالتزامن، أفادت مصادر استخباراتية وإعلامية روسية، بتورط جهات عسكرية واستخباراتية أوكرانية مع مهربين، وعناصرإجرامية، فى عمليات مشبوهة للاتجار بالأسلحة الغربية المقدمة لكييف، فى السوق السوداء، عبر آلية «الإنترنت المظلم». حيث تعرض المتاجر السرية جميع أنواع الأسلحة، بدءا من الخفيفة، مرورا بالمُسيرات ومضادات الدبابات، وصولا إلى أنظمة الدفاع الجوى. وحذر وزير الدفاع الروسى، من أن الأسلحة التى تقدمها الدول الغربية لأوكرانيا، ينتهى بها المطاف فى دول الشرق الأوسط، والسوق السوداء الأوروبية.
وفى مطلع يوليو/تموز الماضى، رصد مكتب الأمن الاقتصادى الأوكرانى، حالات بيع مساعدات إنسانية ومعدات عسكرية قادمة من دول غربية، وقام بتحرير عشر دعاوى قضائية جنائية بهذا الخصوص. وخلال العامين 2015 و2016، وثقت مصادر بالبنتاجون حوادث إعادة تصدير أوكرانيين للأسلحة الغربية. وقد عزى مراقبون الأمر إلى عجز الجيش الأوكرانى عن استخدام غالبية المنظومات التسليحية الغربية بفاعلية، جراء عدم كفاية إعداد وتأهيل العسكريين، وتعاظم المشكلات المتعلقة باللوجستيات، وتسارع وتيرة تراجع حجم وقدرات الجيش الأوكرانى. إضافة إلى إخفاقه فى دمج تلك المنظومات المتطورة، ضمن تكتيكات واستراتيجيات عملياته القتالية، فى الوقت المناسب.
بموازاة استيلاء القوات الروسية على أسلحة غربية أثناء المواجهات الميدانية داخل أوكرانيا، أماطت مصادر فرنسية وأوكرانية، اللثام عن انتقال مدافع من طراز «هاوتزر قيصر»، الفرنسية ذاتية الدفع، إلى ورش الإنتاج الخاصة بشركة صناعة الدبابات الروسية «أورالفاجونزافود»، بعدما باعها عسكريون أوكرانيون للجيش الروسى.
وفقا لصحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية، شهدت سوق الأسلحة غير المشروعة فى أوكرانيا، تضخما مخيفا، منذ عام 2014، مدعوما بفائض من الأسلحة غير المسجلة، والمتحررة من قيود عديدة على استخدامها
وفى يونيو/حزيران الماضى، كشف موقع عسكرى بلغارى، عن بيع جهات أوكرانية، نظاما صاروخيا موجها مضادا للدبابات من طراز «جافلين»، للروس، مقابل 30 ألف دولار. وتؤكد المصادر ذاتها، عكوف المهندسين العسكريين والفنيين الروس فى «أورالفاجونزافود»، على تفكيك تلك المنظومات التسليحية، من أجل دراسة، ونسخ أنظمة التوجيه وتنسيق الحرائق الخاصة بها، ضمن سياق عملية الهندسة العكسية. وقبل أيام، أكد مسئول عسكرى روسى تمكن بلاده من ابتكار آلية سرية لاختراق نظام «هيمارس» الصاروخى الأمريكى، سيتم نشرها قريبا فى الاتجاهات المختلفة لمسرح العمليات، بغية تحييد ذلك النظام.
لا تفتأ مصادر غربية تندد، منذ تفكك الاتحاد السوفييتى، بتورط عسكريين أوكرانيين فاسدين، فى الاتجار غير المشروع بالأسلحة المهربة. حتى غدت أوكرانيا واحدة من أكثر دول العالم انخراطا بتلك الأنشطة المشبوهة. وبعدما أقال المدعية العامة، ومدير الأمن الأوكرانيين، الشهر المنصرم، شدد الرئيس زيلنسكى على ضرورة الإطاحة بمسئولين كثر، ضالعين فى الفساد والعمالة لحساب روسيا، منذ عقود. ولقد خلف الجيش السوفييتى وراءه كميات هائلة من الأسلحة فى أوكرانيا، دون أن يحتفظ بسجلاتها، أو يراقب مستودعاتها.
ووفقا لمنظمة «مسح ودراسة الأسلحة الصغيرة» بجنيف، فإن جزءا من مخزون الأسلحة الخفيفة للجيش الأوكرانى، الذى بلغ نحو 7.1 مليون قطعة عام 1992، وصل جل بؤر التوتر الملتهبة حول العالم. وعقب استحواذ روسيا على شبه جزيرة القرم عام 2014، نهب المقاتلون الأسلحة ومرافق تخزين الذخيرة التابعة لوزارات الأمن والداخلية والدفاع فى أوكرانيا. وحسب التقرير الذى أصدرته المنظمة عام 2017، تمكن المقاتلون غير النظاميين من العثور على مجموعات كاملة من الأسلحة الصغيرة والخفيفة، بين عامى 2013 و2015، وباعوها بالسوق السوداء الأوكرانية، التى تديرها شبكات إجرامية شبيهة بالمافيا فى منطقة دونباس. ووفقا لصحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية، شهدت سوق الأسلحة غير المشروعة فى أوكرانيا، تضخما مخيفا، منذ عام 2014، مدعوما بفائض من الأسلحة غير المسجلة، والمتحررة من قيود عديدة على استخدامها.
بدوره، حذر، يورجن شتوك، المدير العام للإنتربول، من أن انتقال الأسلحة، بشكل غير مسبوق، خلال الحرب الأوكرانية، قد يفضى إلى انتشار الأسلحة غير الشرعية، عبر القارات، فى مرحلة ما بعد النزاعات المسلحة. ولفت إلى تفنن التنظيمات الإرهابية وتشكيلات الجريمة المنظمة فى استغلال هكذا فوضى، لتهريب الأسلحة حول العالم، مبتغية جنى الأرباح الطائلة، ومباشرة أنشطتها المشبوهة فى كل مكان. ولم يستبعد، شتوك، أن يصبح الاتحاد الأوروبى وجهة محتملة لهذه الأسلحة، التى قد تصادف هناك سوقا رائجة بأسعار مغرية، سيما فى البلدان الاسكندنافية. لذا، ناشد، الرجل، الدول الأعضاء فى «الإنتربول»، استخدام قاعدة المعلومات المشتركة حول مختلف أنواع الأسلحة، التى يمكن أن تنتشر عبر الاقتصاد الخفى، توطئة للتعاون سويا فى تعقبها والسيطرة عليها.
بينما أعلنت واشنطن عزمها إمداد كييف بالمزيد من أنظمة الصواريخ المتطورة من طراز «هيمارس»، جدد الرئيس بايدن مطالبته إياها بمناهضة الفساد المستشرى، والذى يضعف قدرتها على صد العدوان الروسى
من جانبها، تؤكد كييف أن تلك الاتهامات الروسية، ليست سوى افتراءات كاذبة ودعاية مغرضة، تستهدف تشويه سمعة القيادة الأوكرانية. فقد رصد «مركز مكافحة المعلومات المضللة» بمجلس الأمن والدفاع القومى الأوكرانى، ترويج مثل هذه الادعاءات على تطبيق «تليجرام» التابع لروسيا، بعد عجز موسكو عن إعاقة وصول مزيد من إمدادات الأسلحة الغربية لكييف، عبر قصف خطوط السكك الحديدية الأوكرانية. وقد كشف «مختبر دراسة المعلومات المضللة»، التابع للمجلس الأطلسى فى واشنطن، عن تقرير، وصف بالمُختلق، يزعم أن أوكرانيا تبيع أسلحة غربية إلى دول أفريقية، وأن تطبيق «تليجرام»، الموالى للكرملين، يروج لقصص خيالية حول متاجرة أوكرانيا فى الأسلحة، التى يزودها بها الحلفاء الغربيون.
وبرغم نفى «المجلس الأوكرانى للأمن القومى والدفاع»، مزاعم وصول الأسلحة الغربية إلى السوق السوداء الأوروبية، اقترح مدير مكتب زيلينسكى، على البرلمان، تولى إنشاء لجنة خاصة مؤقتة لتتبع مسارات تلك الأسلحة، ومتابعة القضايا المتعلقة بالرقابة على استخدامها. وبعدما استنكر تلك الادعاءات، وجه الرئيس زيلينسكى، بإنشاء لجنة برلمانية لتنظيم استخدام تلك الأسلحة. وبينما أعلنت واشنطن عزمها إمداد كييف بالمزيد من أنظمة الصواريخ المتطورة من طراز «هيمارس»، جدد الرئيس بايدن مطالبته إياها بمناهضة الفساد المستشرى، والذى يضعف قدرتها على صد العدوان الروسى. كما دعت نائبة بالكونجرس الأمريكى من أصل أوكرانى، المشرعين الأمريكيين إلى إنشاء آلية للسيطرة على المساعدات العسكرية لأوكرانيا. وذكرت صحيفة «فاينانشال تايمز» أن حلف الناتو والاتحاد الأوروبى، يعتزمان تشديد الرقابة على نقل الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا لمنع وصولها إلى السوق السوداء.
كان من المفارقات، ألا تسلم روسيا، هى الأخرى، من الاتهامات الغربية بالإسهام فى انتقال الأسلحة عالميا، إثر غزوها لأوكرانيا. فعلاوة على مجموعات «فاغنر» الروسية، استعانت موسكو فى حربها تلك، بمرتزقة من ليبيا، وسوريا، والشيشان. حيث أكد وزير الدفاع، سيرجى شويجو، فى مارس/آذار الماضى، استعداد 16 ألف متطوع من الشرق الأوسط، للقتال إلى جانب القوات المدعومة من روسيا فى شرق أوكرانيا. واقترح، شويجو، تزويد الانفصاليين الموالين لموسكو فى إقليم دونباس، بصواريخ «جافلين»، و«ستينجر» الأمريكية، التى اغتنمها الروس من الجيش الأوكرانى. إذ بمقدور تلك الصواريخ المحمولة على الكتف، استهداف الدبابات والمركبات المدرعة، وإسقاط الطائرات الحربية والتجارية والمروحيات.
وبينما تدور رحى الحرب الأوكرانية، مع تواصل الخروقات الروسية والانتهاكات الأوكرانية، تتضاءل إمكانية عودة الأسلحة الأجنبية إلى مواطنها الأصلية، بعدما تضع الحرب أوزارها. فيما تتعاظم، فى المقابل، احتمالات استخدامها، لسنوات، وربما لعقود مقبلة، من لدن أطراف عديدة، ولأغراض متنوعة، فى ميادين شتى.