“إنفجار بيروت”.. التلاعب بذاكرة الناس لأي هدف؟

منذ الحرب الأهلية وصولا الى الذكرى الثانية لإنفجار مرفأ بيروت، يخوض اللبنانيون معركة الذاكرة والهوية بوجه من يتحكمون بالبلد، ولم يسأموا بعد من التلاعب في الذاكرة الجماعية لهذا الشعب.

تعدّدت الروايات وأمسكت كل مجموعة بالحقيقة من طرف واحد مدّعية امتلاكها. أصبحت شيطنة الآخر أداة يستخدها الجميع ضد بعضهم البعض. غدت الذاكرة ذات طابع فردي أو فئوي فقط والحقيقة أسيرة وراء قضبان الطوائف والمذاهب والهويات القاتلة التي ذابت فيها الهوية اللبنانية وتحللت.

استحضار الحرب اللبنانية والسرديات التي روّج لها البعض كل بحسب مصلحته لتشتيت وتشويه ذاكرة اللبنانيين، ليس إلا التفاتة لا بد منها أثناء معالجة مسألة الذاكرة اللبنانية الجماعية وانفجار مرفأ بيروت. أما السؤال المطروح فيتمثل في معرفة ما إذا كانت عملية التلاعب في نظرات ومواقف الناس التي تمارسها قوى السلطة من أجل إخراج انفجار المرفأ من وعي وذاكرة اللبنانيين، ستنجح أم ستفشل؟

على مدار السنين، أدرك السياسيون أنّ الذاكرة الجماعية تلعب دورًا مهمًا لا يمكن تجاهله. لذلك سعوا دائمًا إلى التلاعب بالذاكرة والتاريخ لتحقيق أهدافهم، فالشعب الذي لا يعرف ماضيَهُ لا يقدر على فهم واقعه، وبالتالي يعجز عن السيطرة عليه، ما يعني أن آخرين سيُسيطرون على هذا الواقع بدلاً منه، بحسب مقالة “صناعة ذاكرة الشعوب” للدكتور أحمد سامر العش.

هنري برغسون، الفيلسوف الفرنسي رأى أن الوعي هو “الذاكرة عينها، الذاكرة التي تحتفظ في أعماقها بمعطيات الماضي الذي يتراكم ليصبح جزءاً من الحاضر”.

التاريخ اللبناني شهد سيناريوهات عدة لـ “وضع العصي بالدواليب”، عند أي محاولة لتكوين وعي جماعي اجتماعي وسياسي مشترك حيال أحداث كثيرة، بحسب الأستاذ الجامعي روي جريجيري

أما بيير نورا، المؤرخ الفرنسي، فقد سلّط الضوء في سلسلة كتب له تحت عنوان “أماكن الذاكرة” (Les Lieux de mémoire)، الصادرة بين العامين 1982 و1994، على مفهوم الذاكرة الجماعية المتجسّد بالاماكن التي يمكن أن تختزن الحقيقة بما تشكله من بعد حسي لها. وتشمل أماكن الذاكرة، حسب نورا، أمكنة جغرافية وبنايات وتماثيل وأعمال فنية وشخصيات تاريخية وأيام تذكرية ونصوصا فلسفية وعلمية وأنشطة رمزية وغيرها، وعلى سبيل المثال لا الحصر، برج إيفيل يعتبر من أماكن الذاكرة في فرنسا. فماذا عن أهراءات مرفأ بيروت التي تتساقط إثر حريق مستمر منذ أسابيع؟

غالباً ما يكون الهدم مقدمة للبناء، بل ربما يكون خير البناء ما سبقه الهدم التام. هذه المقولة متداولة جداً في المجتمعات والدول التي تشهد أزمات. التاريخ شاهد على كثير من تجارب إعادة الإعمار بعد الحروب أو بعد أي شكل من أشكال العنف والهجمات. الا أن ذلك بعيد كل البعد عن نوايا السلطات اللبنانية التي تسلحت بالحجج الفنية بعدما اتخذت الحكومة في نيسان/أبريل الماضي قراراً بهدم أهراءات المرفأ حرصاً على “السلامة العامة”.

وبرغم أن الكثير من أهل الاختصاص قد يؤيدون هذه الخطوة لأسباب تقنية بحتة، الا أنه قد يكون خيرا ظاهرا يراد منه باطل في نفوس بعض المسؤولين المتحمّسين لإعادة الإعمار قبل انتهاء التحقيق ومحاكمة المجرمين وتحقيق العدالة.

تشتيت الذاكرة لا يقتصر على هدم “الشاهد الصامت” كما وصفه أهالي الشهداء. ففي الشق الإنساني، وبعد مرور سنتين لم يتمَّ التعاملُ مع أهالي الضحايا كما يستحقّون، فالاعتراف، وإجلاء الحقيقة أمام أعينهم، ودعمهم نفسياً واجتماعياً، ووضع العدالة بمتناول يدهم، هي مهماتٌ أساسية غابت عن جدول أعمال المتحكمين بمراكز القرار كأن شيئاً لم يكن.

وعلى أهمية وترابط البعدين الانساني والثقافي، يبقى الجانب السياسي لمحاولات ضرب الذاكرة الجماعية هو الأداة الأكثر استعمالا. فكثيرًا ما يستخدم السياسيون نفوذهم لتعبئة الذاكرة وتشتيتها بما يمكنّهم من التحكم بالشعوب وحاضرهم ومستقبلهم.

التاريخ اللبناني شهد سيناريوهات عدة لـ “وضع العصي بالدواليب”، عند أي محاولة لتكوين وعي جماعي اجتماعي وسياسي مشترك حيال أحداث كثيرة، بحسب الأستاذ الجامعي روي جريجيري.

وإذ يعتبر جريجيري أن “مقاربة الذاكرة الجماعية لدى اللبنانيين حول هذا اليوم الأسود، أمرٌ من المبكر طرحه نظرا لعدم مرور فترة زمنية طويلة وبالتالي لا يمكن توقع شكل الذاكرة التي ستتكون حياله”، إلا أنه يشدد على أن “مبنى الأهراءات دليل مادّي مباشر يمكن أن يساهم في تحفيز ذاكرة جماعية (خصوصًا أنه جزء تاريخي من صورة العاصمة)، ولكنه قد لا يكفي وحده في سياق ما في المستقبل في إنتاج ذاكرة جماعية وقد لا يكون ضروريًا في سياق آخر”.

لا بد من الإشارة أيضاً إلى أنه “على سبيل المثال، هناك العديد من الأبنية المحفوظة من زمن الحرب الأهلية (في ساحة الشهداء أو غيرها) ولكن لا مشاريع ذاكرة حولها بسبب السياسات العامة التي كانت متّبعة حيال تلك الفترة”، على حد قول جريجيري.

“لو كان للصورة في الحرب الأهلية اللبنانية الأهمية الكبرى التي تملكها في حاضرنا لكان تشتيت الذاكرة حينها مهمة صعبة جدًا”، بحسب المصور اللبناني المخضرم نبيل اسماعيل

في المقابل، ثمة ملاحظة لا بد من طرحها، ومفادها بأن “غياب الدليل المادي المباشر (مبنى الأهراءات) لا يعني بالضرورة طمسًا تلقائيًا للذاكرة، فالأمر متعلّق أكثر بكيفية تطور الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية من خلال عملية البناء الاجتماعي والسياسي لهذه الذاكرة والتي ستحصل (أو لا تحصل) حول هذا الحدث أو ذاك”، يقول جريجيري. ويوضح أن “حوافز تشكيل الذاكرة الجماعية قد تتوّفر رغم عدم تطبيق مبدأ المحاسبة أو تحقيق العدالة”، ويشرح أن “طمس الأدلة وعرقلة التحقيق قد يكون بحد ذاته محفّزًا لخلق وعي جماعي معيّن، خصوصا أن آثار الحدث الإجتماعية والصحية والنفسية طالت شرائح كثيرة من المجتمع”.

إقرأ على موقع 180  لبنان دولة الخرافة والوطن شركة مساهمة!

من جانب آخر، لا يمكن المقارنة بين الحرب الأهلية (1975 ـ 1990) وانفجار 4 آب/أغسطس 2020 من دون الوقوف عند عنصر الصورة ودورها الكبير في إعادة إحياء الذاكرة. “فلو كان للصورة في الحرب الأهلية اللبنانية الأهمية الكبرى التي تملكها في حاضرنا لكان تشتيت الذاكرة حينها مهمة صعبة جدًا”، بحسب المصور اللبناني المخضرم نبيل اسماعيل.

هذا الطرح يقود إلى الاستنتاج بأن توثيق الحدث “لم يعد يقتصر على عدد من المصوّرين بل أصبح كل إنسان يملك القدرة على توثيق الحدث وحفظه عبر عدسة هاتفه الذكي، ويشير إسماعيل الى أننا “نعيش عصر الصورة”.

هكذا، فإن التفاصيل التي تعجز ذاكرة الانسان عن حفظها مع مرور السنين، لا تغيب عن الصورة التي تخزّن داخلها ليس فقط الحدث بعينه بل كل المشاعر والأحاسيس التي عايشها الإنسان حينها.

من هنا أهمية الصورة “القادرة” بحسب اسماعيل، على “تشكيل” الرأي العام من جديد في وقت كانت ذاكرة اللبنانين بسيطة لا تختزن في داخلها أي مشهدية”.

قد يبدو للبعض أن طرح موضوع الذاكرة الجماعية في الذكرى السنوية الثانية لجريمة العصر، أمر ثانوي أمام ما يجري حالياً في لبنان من انهيار تام للنظام السياسي والاقتصادي والمالي، لكن فقدان الذاكرة يعني فقدان الهوية. وذلك سيؤدي حتما الى عدم قدرة الشعب على التحكم بحاضره ومستقبله.

يبقى التذكير أن الفيلسوف اليوناني أرسطو ميّز بين الذكرى والتذكّر، حيث رأى أنه يجب البحث عن الذكرى واستحضارها وإعادة تنظيمها وهذا ما يأخذنا للبحث عن وثيقة او شاهد، فذكرى الشيء ليست معطى بديهيًا على الدوام. هنا السؤال يطرح نفسه: هل ارتقى اللبنانيون الى مرحلة يكونون فيها حراس الذاكرة ومناضلين في سبيل العدالة لضحايا انفجار مرفأ بيروت؟ أم ستنجح قوى السلطة مجدداً في تشويه ذاكرتهم الجماعية؟

هذه بيروت. عاصمة الوطن وملتقى كل دروبه ومناطقه وطوائفه. حرام أن تُدمر وكأن ما حصل قبل سنتين هو حادث سير. يقتضي الإنصاف أن ينال كل مُتضرر حقه وأن ينال كل مرتكب عقابه وأن نحفظ في ذاكرتنا فكرة العدالة التي لا بد وأن تنتصر للناس ولا سيما أهل الضحايا.

(*) الرسم المرفق: فكرة الفنان رامي كمال البقاعي

Print Friendly, PDF & Email
هند سعادة

صحافية لبنانية

Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  هل ربحت أمريكا بانقلابها على الإتفاق النووي؟