أميركا اللاتينية تكتسي بالوردي، متى ينتهي عمى الألوان عندنا؟

لولا دا سيلفا، رئيس البرازيل السابق الذي مسح الأحذية في صباه قبل أن يصير رئيساً لتاسع أكبر اقتصاد في العالم، يَتقدَّم مجدداً في استطلاعات الرأي على منافسه الأبرز الرئيس الحالي جابيير بولسونارو، اليميني المتطرف المسحور بشخصية دونالد ترامب والمتماهي مع سياساته اليمينية المتطرفة.

إذا حصل المتوقع في إنتخابات تشرين الأول/أكتوبر المقبل، يعود أبو اليسار البرازيلي إلى الرئاسة، فتكتمل حلقة التغيير نحو اليسار في اميركا اللاتينية، فمن المكسيك الى الارجنتين، الى تشيلي ثم الهندوراس والبيرو وبوليفيا، وأخيراً كولومبيا التي انتهت انتخاباتها الأخيرة بمفاجأة اختيار الكولومبيين غوستافو بيترو العضو السابق بجماعة حرب العصابات “إم 19” رئيساً للدولة، في تحول تاريخي واستثنائي في هذا البلد الذي ظل مصنفاً الحليف الاقرب لواشنطن في قارة سيمون بوليفار، وفضّل أهله على الدوام عتاة اليمين على القادة اليساريين المتهمين بالتساهل مع الجريمة وتجار الكوكايين أو بالتحالف مع جماعة حرب العصابات.

هذه الموجة اليسارية تعيد إلى الأذهان تلك التي أتت بهوغو تشافيز في فنزويلا، تحت الظل الوارف لفيديل كاسترو، في سياق ما أطلق عليها حينها “اشتراكية القرن الجديد”. آنذاك توالى زعماء اليسار على حكم بلدان أميركا اللاتينية المعتبرة حديقة خلفية للولايات المتحدة: تشافيز رئيساً في فنزويلا عام 1998، لولا دا سيلفا في البرازيل عام 2002، ونستور كيرشنر في الأرجنتين عام 2003، إيفو موراليس في بوليفيا عام 2005، ثم تصدر رفاييل كوريا المشهد في الاكوادور عام 2006، كذلك فعلت ميشيل باشيلي مرتين في تشيلي، وعاد دانيال أورتيغا إلى حكم نيكاراغوا في 2007، وفي العام التالي انتخبت الاورغواي بائع الورد الفقير خوسيه موخيكا رئيساً لها، وفي 2010 اختيرت ديلما روسيف نائبة لولا دا سيلفا خليفة له، وفي فنزويلا خلف نيكولاس مادورو قائده الراحل هوغو شافيز عام 2013.

الموجة الوردية الجديدة فيها الكثير من مزايا السابقة وتتمتع بتأييد شرائح واسعة من اللاتينيين، لكن الاختلاف ليس بسيطاً، فهذا اليسار غير ذاك اليسار. يسار اليوم يحمل في طياته بعض شعارات الأمس لكنه اكثر عصرية، ويتغير بحسب البلدان وظروفها، وان كان في بعض مظاهره لا يمكن تمييزه عن مدرسة النيوليبرالية وطروحات منظمات المجتمع المدني الطاغية في المشهد العالمي

الموجة الوردية

هذه الغزوة اليسارية أُطلق عليها “الموجة الوردية” لانها وليدة صناديق الاقتراع وليس الثورات المسلحة كما حصل في القرن السابق في كوبا ونيكارغوا، كما أنها حملت الى سدة السلطة قادة اختبروا حروب “الغوريلا”، أو جاؤوا من أحزاب كانت تؤمن بالكفاح المسلح طريقاً إلى السلطة. لكنّ هذه الموجة لم تدم طويلاً، وسرعان ما اصطدم هؤلاء، بقلة الخبرة السياسية والفوارق العميقة ما بين لغة الثورة ولغة الدولة، فآلت تجارب معظمهم الى فشل استغلته الأحزاب النيوليبرالية والتيارات الشعبوية لتطلق “الجزر اليميني” في مواجهة “المد اليساري”. ومنذ عام 2015، بدأ الانكسار. في الأرجنتين، تفجرت الازمات بوجه الرئيسة كريستينا كيرشنر التي تولت السلطة خلفا لزوجها الراحل، وفي البرازيل، احيل لولا دا سيلفا وديلما روسيف الى المحاكمة بتهمة فساد مفبركة، واطيح إيفو موراليس في بوليفيا بانقلاب. وعاد اليمين إلى السلطة مع شخصيات مثل بولسونارو في البرازيل، وإيفان دوكي في كولومبيا، وماوريسيو ماكري في الأرجنتين، وسيباستيان بينيرا في تشيلي. وفي الاكوادور جيء بالرئيس اليميني جويلرمو لاسو، بعد لينين مورينو، واليساري رفاييل كوريا. كان ذلك كله تعبيراً عن تراجع زخم اليسار ورغبة الشعوب اللاتينية في تغيير حُكّامها.

تصدر اليمين واجهة الحكم في معظم بلدان قارة سيمون بوليفار، لكن ممثلي الإرث اليساري والتحرري الذي تشربته شعوب اميركا اللاتينية طوال تاريخها في مواجهة الاستعمارين القديم والجديد، لم يستكينوا ولم يستسلموا. تكررت محاولات الاستنهاض، وبلغت الذروة مع ظهور “مجموعة بويبلا” نسبة إلى المدينة المكسيكية التي شهدت عام 2019 اجتماع ممثلي ما يسمّى المحور التقدّمي في القارة، الذي ضمّ رؤساء دول سابقين وزعماء أحزاب يسارية وتقدّمية بهدف واحد، ألا وهو وضع استراتيجية إعادة تشكيل اليسار التقدّمي في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، وإيجاد “محور تقدّمي” يأخذ في الاعتبار الحاجة لتقديم عروض مبنيةً على نموذج للتضامن والعدالة الاجتماعية، وتعميق الديموقراطيات، ومواجهة كل أنواع الاضطهاد السياسي، مع الاحترام الكامل لحق الشعوب في تقرير مصيرها.

إنتصارات بالجملة

ونتيجة تحولات اجتماعية وعميقة في المجتمعات اللاتينية، سرعان ما اثمر هذا الجهد تغييراً، تجلى بداية بانتخاب المكسيكي مانويل لوبيز أوبرادور أول رئيس اشتراكي في التاريخ الحديث لهذه البلاد بغالبية ساحقة، خلفاً للرئيس اليميني انريكي بينيا نييتو. وفشلت الولايات المتحدة في اطاحة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو برغم الحصار الاقتصادي والسياسي القاسي.

وتوالت انتصارات اليسار في الأرجنتين عام 2019، حيث فاز فيها مرشح اليسار البيروني ألبرتو فرنانديز على خصمه الليبرالي ماكري في الجولة الأولى. وفي بوليفيا عام 2020، حيث عاد موراليس من منفاه بعد انتخاب حليفه لويس آرسي، واعلان عودة “الحركة نحو الاشتراكية» إلى السلطة. وفي البيرو، فاز المرشح اليساري بيدرو كاستييو بالرئاسة عام 2021 بعد هزيمة منافسته اليمينية كيكو فوجيموري، ابنة الرئيس الأسبق البرتو فوجيموري المعتقل لمدة 25 عاماً بتهمة الفساد، وتعهده فور فوزه بتأميم قطاعات النفط والتعدين والغاز التي تستثمرها شركات أميركية. وفى هندوراس، فازت زيومارا كاسترو العام الماضي لتصبح أول امرأة تتولى الرئاسة فى البلاد، وتنهى 12 عاما من حكم الحزب الوطنى الذى يرتبط إسمه بالجريمة المنظمة وتهريب الكوكايين. واحتفلت تشيلي هذا العام بفوز مرشح أقصى اليسار غابريال بوريك، البالغ من العمر 35 عاما فقط، بالرئاسة، ليحقق بذلك الائتلاف اليسارى الذي ينتمي إليه الحزب الشيوعي انتصارا ساحقا في مواجهة انتخابية غير مسبوقة منذ عودة الديمقراطية عام 1990 بين مرشحين لديهما مشاريع اجتماعية متعارضة تماما.

الموجة الوردية الجديدة فيها الكثير من مزايا السابقة وتتمتع بتأييد شرائح واسعة من اللاتينيين، لكن الاختلاف ليس بسيطاً، فهذا اليسار غير ذاك اليسار. يسار اليوم يحمل في طياته بعض شعارات الأمس لكنه اكثر عصرية، ويتغير بحسب البلدان وظروفها، وان كان في بعض مظاهره لا يمكن تمييزه عن مدرسة النيوليبرالية وطروحات منظمات المجتمع المدني الطاغية في المشهد العالمي. أما يسار الأمس فقد كان راديكالياً وثورياً ويُحرّكه رفض الإمبريالية والاستعمار والهيمنة الاميركية والسطو الغربي على الموارد الطبيعية. يسار اليوم ذات نفس براغماتي واقعي. يضع نصب عينيه إعادة هيكلة اجتماعية عميقة، وتحضر في لغته قضايا التمييز الجندري والمثلية الجنسية إلخ.. ولا تغيب عن جدول أعماله قضايا مثل محاولة ردم الهوة العميقة بين الطبقات الإجتماعية وتفشي عدم المساواة والجريمة المنظمة وسوء الادارة التي رافقت انتشار وباء كورونا، والتغيرات المناخية الكبيرة التي أثرت على نمط عيش السكان لا سيما في حوض الامازون. ويضاف إلى ذلك أن تطرف القوى اليمينية، كما حصل في الأرجنتين وكولومبيا وتشيلي وبيرو، أضفى على الأحزاب اليسارية هالة من الاعتدال ساعدت في استقطاب قوى الوسط وتطمين المراكز الاقتصادية والمالية، وكلها عوامل جعلت شعوب هذه المنطقة أكثر ميلاً تجاه المرشّحين الداعين إلى تعزيز العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة في بلدانهم وحماية البيئة.

إقرأ على موقع 180  إلتزامات أميركا أضعف من قدراتها.. ماذا في حالة الحربين؟

التغيير الناعم

والملاحظ أن معظم القوى اليسارية الحاكمة اليوم في أميركا اللاتينية، وخلافاً لتلك التي حكمت خلال الموجة السابقة، تعتمد أسلوباً دفاعياً يهدف إلى إحداث تغييرات معتدلة من موقع السلطة وليس من خلال التعبئة الاجتماعية التي كانت أسلوب الأنظمة اليسارية السابقة أو البوليفارية التي ما زالت إلى اليوم في الحكم. وبعض الدول مثل المكسيك وبيرو رفعت راية اليسار لكن اقتصادها ظل يحتكم إلى القواعد الليبرالية. كما ان العديد من اليساريين الذين ركبوا الموجة هم من الوسطيين البراغماتيين المستائين من الخطاب القديم المناهض للإمبريالية والذي يحرق الجسور مع الولايات المتحدة. وعليه كانت أول زيارتين للرئيس المكسيكي اليساري إلى الخارج إلى الولايات المتحدة. ويمثل رئيس التشيلي، غابرييل بوريك، نموذجاً جديدأ بين قادة اليسار في أمريكا اللاتينية. فهو لا يشبه تشافيز ولا كاسترو بل هو صانع توافُق وليس قاذف لهب. ويستخدم بوريك وسائل التواصل الاجتماعي للتواصل مع مؤيديه. وبرغم تطلعه إلى دور للدولة للحد من الفوارق الطبقية، فإنه جلب إلى رئاسة تشيلي مخاوف جيله الشاب. وبالنسبة إليه فإن “القضايا الوجودية” هي “تغير المناخ، وعدم المساواة بين الجنسين، والاعتراف بمجتمعات السكان الأصليين”، كما ندد بغزو أوكرانيا وانتقد انتهاكات حقوق الإنسان في كوبا ونيكاراغوا وفنزويلا.

ويتشابه بوريك في الكثير من المواقف مع نظيره البيروفي بيدرو كاستيلو الذي كان من المعجبين بشافيز، لكنه الآن يوبخ خليفته، مادورو، خاصة لاعتماده على الوقود الأحفوري، ويتهم دانيال أورتيغا الثائر الذي يحكم نيكارغوا، بتحويل حلم التحرير إلى “ديكتاتورية الموز”.

المحافظون الأميركيون وصُنّاع القرار قلقون من احتمال اقتراب اليسار من الصين والابتعاد عن واشنطن، بينما قوبل هذا الصعود بالترحيب من قِبل بعض الليبراليين، الذين يرون أن هذا الجيل من اليسار مختلف عن نظام حكم آل كاسترو في كوبا وشافيز في فنزويلا

وفي اي حال فان التجربة الجديدة تفتح الباب امام اليسار لاستعادة موقعه وتأكيد صدقية شعاراته، إذا عرف كيف يرفع تحدّياتٍ كثيرة تواجه شعوبه، علماً أن البعض من رموز الموجة لم يغادروا نزعة التسلط والإستئثار كالرئيس المكسيكي الذي عزز تدخله في شؤون الجيش.

وهكذا يمكن للتحول الجديد نحو اليسار في أمريكا اللاتينية أن يؤثر في التوازنات الدولية لا سيما بين الولايات المتحدة والصين، كما يمكن أن يؤدي إلى مزيد من تدخل الدولة في الاقتصاد، وفرض ضرائب مرتفعة أيضاً على الاستثمار في هذه المنطقة الغنية بالموارد الزراعية وبالمعادن، حيث أن أميركا الجنوبية تُعتبر مورِّداً عالمياً رئيسياً للسلع والمواد الخام من النحاس إلى الذُّرة.

واستُقبل صعود اليسار بشكل متناقض في الغرب، فالمحافظون الأميركيون وصُنّاع القرار قلقون من احتمال اقتراب اليسار من الصين والابتعاد عن واشنطن، بينما قوبل هذا الصعود بالترحيب من قِبل بعض الليبراليين، الذين يرون أن هذا الجيل من اليسار مختلف عن نظام حكم آل كاسترو في كوبا وشافيز في فنزويلا. اذ ليس هناك ادلة حتى الان على تحول أيديولوجي عميق الجذور أو دائم في القارة الجنوبية، وان ما حدث مع شاغلي القصور الرئاسية من الحكام اليمينيين كان يمكن ان يحصل ايضا مع شاغليها ان كانوا من اليسار نظرا الى فداحة الكوارث الناجمة عن الوباء والازمات الاقتصادية اللاحقة.

اليسار العربي.. في الكوما!

في الخلاصة، إستطاع اليسار اللاتيني التغلب على العقبات والنكسات، وتمكن من تجديد نفسه ومواكبة العصر وصوغ لغة مختلفة تستهوي الشباب والراغبين في التغيير، وفيما بات يكتسي اللون الوردي قارة كبرى باكملها، يحز في النفس ان نرى يساراً عربياً، مصاباً بعمى الألوان، يضرب خبط عشواء ويهيم ما بين اللون الزيتي للعسكر والجيوش، أو اللون الأخضر للحركات الإسلامية، أو اللون الذهبي الأسود لامراء المشيخات والممالك، معجباً بالاول، او ملحقاً بالثاني اعجاباً او تقية، او يسوق للثالث طمعاً بفتات. يسار محنط يسير خلف الناس وليس امامهم ومفتون بالديكتاتوريات، واحزابه صارت مجرد هياكل جوفاء. لا تستيقظ الا بصفعة وما تلبث أن تعود إلى الموت السريري. يسار فقد قدرته على التواصل مع شعبه ولم يعد يتقن سوى البكاء واللطم. اجاباته عن الأسئلة كانت دوماً مرتبكة ومحيرة لذا سبقته الناس في تحديد الهدف واعطاء الجواب الحاسم عن السؤال نفسه.

ألم يحن الوقت لاجراء مراجعة يسارية عربية شاملة وصولاً إلى استرجاع مهمة هذا اليسار الأصلية بالانحياز الى قضايا الناس الضعفاء والبحث عن حلول واقعية عصرية لمشكلاتنا البنيوية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، عوض التلهي بالبحث عن جنس الملائكة في حروب الآخرين ومصائبهم!

Print Friendly, PDF & Email
أمين قمورية

صحافي وكاتب لبناني

Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  أبواب "الصندوق" مقفلة بوجه لبنان.. والحكومة إلى موت سريري