في كلّ كلمةٍ وكلّ حرفٍ وكلّ فاصلةٍ كتبها الشاعرُ الكبير محمود درويش عن غسان كنفاني، كان يعني فلسطين، هي بوصلتهما في الإبداع والكفاح والحياة. فغسّان كنفاني الذي لم يتجاوز عمره الـ36 عامًا لحظة اغتياله، مبدعٌ متعدّدُ المواهب، فهو روائيٌّ وإعلاميٌّ وفنانٌ ومفكّرٌ وقائدٌ سياسيّ، ترك بصمةً متميّزةً في الثقافة الفلسطينيّة، وأصبح إرثه اليوم يغطّي مساحات واسعة منها، فقد طاف في فضاءات بعيدة وحرث في أرض شاسعة، فأنتج فيه 18 كتابًا وعشرات الأبحاث والدراسات ومئات المقالات والتصريحات، حيث كان المتحدّث الرسمي باسم الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين وعضو مكتبها السياسي، وزاد عمره الإبداعي عن نصف عمره البيولوجي.
ومن يراجع ما كتبه كنفاني في مجلة الهدف الذي ترأس تحريرها منذ تأسيسها في العام 1969، ومجلّة الحريّة التي عمل فيها محرّرًا للشؤون الثقافيّة منذ عام 1960، إضافةً إلى جريدةِ المحرّرِ اللبنانيّةِ التي أصدر فيها “ملحق فلسطين” وجريدة الأنوار وغيرها، يُخيّلُ له أنّ غسّان لم يكن له أي شغلٍ آخر غير الكتابة، فمتى كان يقرأ وهو الشريد الذي ولد في عكّا (شمال فلسطين) في التاسع من نيسان/أبريل 1936 وعاش في يافا الضوء والبحر والجمال حتّى أيار/مايو 1948، وأُجبر على اللجوء مع عائلته إلى لبنان ثمّ سوريا، حيث عاش وعمل في دمشق، ثمّ في الكويت. لكن سنوات نضجه وتألّقه كانت في بيروت 1960 – 1972، حيث اختزن في ذاكرته ووجدانه النكبة وما تركته في جيله من آلام نفسية، وظلّ يبحث عن سبل مواجهتها حتى التقى بـ جورج حبش العام 1953، فانتمى إلى حركة القوميين العرب.
وكان قد درس في مدرسة الفرير بيافا، وأخذ قسطًا من اللغة الفرنسية، وقد كان لشقيقته (فايزة) تأثيرًا كبيرًا عليه، حيث رعته واعتنت به وأخذ تفوّقه في مادتي اللغة العربية والرسم تظهران في المدرسة الثانوية.
عمل بعدها في مدارس اللّاجئين وبالذات في مدرسة الإليانس بدمشق، وكانت الأوراق والأقلام والتحديات متلازمات له، حتى بدا وكأنه أقرب إلى مكتبة متنوّعة تزدحم بالكتب وتضجّ بالأبحاث والدراسات والمجلّات والصحف، بل كان لوحده مؤسسة ثقافية ناهضة وفريق تنوير معرفي جاد ومشروع فكري رصين. ولو قدّر له أن يعيش لفترة أطول لكان أتحفنا بالمزيد، خصوصًا وقد امتلك أدواته الإبداعية ونضجت تجربته وازدادت عمقًا.
وفي كلّ ما كتبه كان لصيقًا بالناس وهمومهم ومتاعبهم، وهو ما عبّر عنه في رواية “عائد إلى حيفا” وهي وصف لرحلة الحيفاويين إلى عكّا، وفي رواية “أرض البرتقال الحزين” صوّر حكاية هجرة عائلته من عكّا إلى الغازية، وفي “رجال في الشمس” عكس حياته وحياة الفلسطينيين بالكويت وهي تعبير عن رحلة ضياع بحثًا عن لقمة العيش، ثم استكمل ذلك برواية “ما تبقّى لكم” التي بشّر فيها برفض الإستكانة والعمل على نقيضها أي اختيار “العمل الفدائي”، وهكذا كانت قصّة “أم سعد” مستوحاة من حياة الفلسطينيين ومعاناتهم.
اللقاء اليتيم
حين طلب منّي الرفيق وسام الفقعاوي المشاركة في الملف الذي يصدر عن غسان كنفاني بمناسبة مرور 50 عامًا على اغتياله، استعدت مع نفسي ذلك اللقاء اليتيم الذي جرى بيني وبينه قبل 52 عامًا، وبالتحديد في آب/أغسطس عام 1970، والحفاوة الكبيرة التي استقبلني بها في مكتبه بمجلة الهدف بكورنيش المزرعة (بيروت)، وقد ترك ذلك اللقاء أثرًا كبيرًا في نفسي وفي تعميق علاقتي بمجلّة الهدف “العتيدة” التي نشرت فيها عشرات الأبحاث والدراسات ومئات المقالات خلال الفترة المنصرمة ودون توقّف، حتى بتغيير رؤساء التحرير، فمن غسان إلى الصديق بسام أبو شريف إلى الراحل صابر محي الدين، إلى.. وسام الفقعاوي.
والأصل في ذلك علاقة صداقة ربطتني بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين منذ انطلاقتها، وقد بدأت في بغداد، عبر “أبو وائل” مدير مكتبها واسحق يونس (إيهاب – أبو حسام) عضو لجنتها المركزية لاحقًا، وفيما بعد عبر الصديق تيسير قبّعة وعشرات من قياداتها: صلاح صلاح وشريف الحسيني وصادق الشافعي وعبد الرحيم الملوح وليلى خالد وأبو أحمد فؤاد وأبو ماهر اليماني وأسعد عبد الرحمن وماهر الطاهر وصولًا إلى أبو علي مصطفى و”الحكيم” جورج حبش وآخرين.
وعلى الرغم من أن اللقاء هو الأول والأخير، لكنه ترك انطباعًا جميلًا وشفيفًا لديّ وكأنني بتعرّفي على غسان بدأت أتعرّف على فلسطين، حيث اختلفت زوايا نظري إليها وأقصد بذلك ليس فلسطين بصورتها الرمزية المطبوعة في الوجدان وشحنتها العاطفية المندمجة بالحق وصوتها المتخيّل الذي ظلّ يشغلني حين كنت أسمع قصصًا من والدي ووالدتي عن زيارتهما للقدس بعد كلّ حجّ أو عمرة، لا سيّما عن رام الله التي أحبّها والدي كثيرًا، ليس هذا فحسب، بل أنني بقدر ما شعرت بالغبطة لزيارة شقيقتيّ سلمى وسميرة وشقيقي حيدر إلى القدس قبل احتلال قسمها الشرقي بعد عدوان حزيران/يونيو 1967، بقدر ما ترك لديّ حسرة، لماذا لم أذهب معهم حينذاك؟
لقد قرّب غسان فلسطين الواقعية والحقيقية وتفاصيل خريطتها السياسية وتضاريسها ومدنها وبحرها وبرتقالها الحزين وبرقوق نيسان إلى عقلي، صحيح أن قلب الإنسان “مركز الحقيقة”، وكان ابن عربي يردّد ذلك، ففي القلوب وحدها يكمن الإيمان، وكان تولستوي يقول: “أقيموا مملكة الله في قلوبكم”، فماذا إذا اتّحد العقل مع القلب فستكتمل الصورة وتتفاعل ألوانها وتشرق.
ومثلما عرّفني غسان بفلسطين عرّفني بعدوّها الصهيوني بسردياته وخياله وأدبه ومؤسساته العسكرية والأمنية وطبيعة قواه السياسية بما فيها اليسارية، وهكذا حملنّي مسؤولية كبيرة، حيث بدأت أخصّص جزءًا من وقتي وجهدي لفلسطين أكثر من السابق، وهو ما فعلته على نحو ممنهج ومنظّم منذ ما يزيد عن نصف قرن من الزمن.
مدخلي إلى عوالم كنفاني
كان مدخلي إلى عوالم غسان كنفاني قبل أن ألتقيه هو رواية “رجال في الشمس”، والتي قرأتها بعد العدوان “الإسرائيلي” في 5 حزيران/يونيو 1967، وبقدر ما انجذبت إليها بدأت أبحث عن رواياته الأخرى وكتبه ودراساته ومقالاته التي نشرها في السياسة والثقافة، وقرأت بعضها في مجلّة الحريّة، ثم في مجلّة الهدف.
كنت قد اطلعت على بعض الدراسات التي كتبها غسان عن “الأدب الصهيوني”، وقبلها لم تكن لدي معرفة عن هذا الحقل المهم الذي دونه لا يمكن فهم السياسة “الإسرائيلية”، أو أنه يبقى فهمًا ناقصًا ومبتورًا، إذْ ستكون الرواية الأدبية للتاريخ أكثر عمقًا وشمولاً، وحسب الروائي الروسي مكسيم غوركي: فالتاريخ لا يكتبه المؤرخون فحسب، بل يكتبه الفنانون (الأدباء)، لذلك فإن الاطلاع على الأدب الصهيوني يجعل المرء أقرب إلى فهم طبيعة السياسة وما خلفها، أي المعلن والمخبوء أو الظاهر والمستتر منها، وكان هذا جزء من قراءاته النقدية لطبيعة الأدب الصهيوني.
وجدت نفسي منجذبًا إلى غسان كنفاني بمواهبه الفريدة وسحر شخصيته وشجاعته وأسلوبه وحبكته الدرامية، والتي كانت جميعها تدور حول فلسطين. وبدأت أستعيد ما قرأته في مجلّة الحريّة، خصوصًا السجالات التي فتحتها المجلّة في النصف الثاني من الستينيات، وبقدر ما كانت روايته محليّة فقد كانت عالمية بامتياز، وكلّ ما هو إنساني هو كوني، والعالمية حسب غابريل غارسيا ماركيز الروائي الكولومبي الحائز على جائزة نوبل عام 1982 عن رواية “مائة عام من العزلة”، هي أن تكون محليًا أكثر ما يمكن.
كان حرصي على اللقاء بكنفاني هو للتعرّف عليه شخصيًا والتعبير عن إعجابي بما قرأته له واللقاء المباشر دائمًا غير القراءة، فغسان هو من ذلك النوع من البشر الذي ما أن تقترب منه ويمدّ لك يده حتى تشعر بالثقة به ويتغلغل ذلك فيك بعفويّة ودون تكلّف حتى لتشعر أنك تعرفه منذ زمن. وكلّما تعرّفت عليه كلّما ازدت حبًّا له، وهو ما كان بسّام أبو شريف يقوله دائمًا وصلاح صلاح وأسعد عبد الرحمن وعبد الله حوراني وماجد أبو شرار
وعن طريق غسان تعرّفنا على أدب المقاومة وشعراء الأرض المحتلّة حين قرأنا لمحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زيّاد وآخرين، ولذلك كنت شديد التوق للّقاء به، والتعرّف عليه، بل أن أحد أسباب تمديد وجودي في بيروت حينها (العام 1970)، هو للتعرّف على غسان كنفاني واللّقاء به وعلى بعض وجوه حركة المقاومة وشخصياتها التي ارتبطت بها بعلاقات حميمة ما زلت أحتفظ بها مع الأحياء أطال الله من عمرهم، وذكرى عطرة مع الراحلين أيضًا أعتزّ بها.
بيروت الستينيات
كنت وصلت إلى بيروت عن طريق الكويت، ومنها إلى دمشق فبيروت، بانتظار التوجّه إلى أوروبا للدراسة وبعض المهمات التي كلّفت بها في ظروف العمل السرّي الذي كان يعيشه الحزب الشيوعي في العراق. وعلى الرغم من أنّني كنت وجهًا علنيًا ومفاوضًا في أكثر من مجال، إلّا أن الملاحقة أخذت تتجاوز بعض الاعتبارات الأدبية والأخلاقية، خصوصًا باعتقال زميلي الوجه الاجتماعي لؤي أبو التمّن عضو الوفد المفاوض معي، وهكذا كان القرار بأن أتوجّه إلى الخارج.
كانت بيروت يومها وكما أعرفها من قبل، تعتبر من أهم المحطّات التي يلتقي فيها المثقّفون العرب، خصوصًا حين تضيق بهم ذرعًا حكوماتهم، وهي مدينة حيويّة مفتوحة متفاعلة مع الآخر، وكانت تعجّ بالحركة وتزدحم بالجمال ويختلط فيها ما هو لبناني بما هو عروبي وإنساني، وفيها فصائل المقاومة الفلسطينية وصحفها وإعلامها ومدارسها التثقيفية، وهو ما قمت لاحقًا بالتدريس فيها للكوادر المتقدّمة في إطار تعاوني مع م. ت. ف. وقيادات المقاومة في أكثر من موقع، ولا سيّما في الشام لاحقًا، ومن بيروت بدأ تحرّكي الأول، فبعد اللقاء بالحزب الشيوعي اللبناني، التقيت مجموعات بعثيّة سورية يسارية، بما فيها مجموعة صلاح جديد وجريدة الراية باقتراح من الحزب الشيوعي اللبناني، حيث أجرت معي حوارً مطوّلًا على حلقتين عن الوضع السياسي في العراق والانتهاكات التي تعرّضت لها بعض أطراف الحركة الوطنية من الشيوعيين والقوميين والناصريين، وكان مانشيتها العريض بعنوان “هارب من العراق يروي قصصًا عن قصر النهاية الرهيب”. وقد أخذت العددين معي، وسلّمتهما إلى مهدي الحافظ في براغ بعد وصولي إليها، واطّلع عليها آرا خاجادور الذي استقرّ في براغ (ممثلًا للحزب في مجلة قضايا السلم والاشتراكية) بسبب تدهور العلاقات مع الحزب الحاكم.
وكنت قد اتصلت بالحزب الشيوعي اللبناني وبالرفيق نديم عبد الصمد، الذي حملت تلفونه معي والذي زوّدني به الرفيق ماجد عبد الرضا، فأخبرني أنه في الجبل وسيعود في مطلع الأسبوع المقبل، وقد طلب مني التنسيق مع الرفيقين خليل الدبس وخليل نعوس لحين اللقاء، وزرت صحيفة الأخبار الأسبوعية (خلف سينما ريفولي في ساحة الشهداء)، وكان الحزب الشيوعي اللبناني يصدر إضافة إليها، صحيفة يومية باسم “النداء” (4 صفحات). وكان الدبس يعتبر من القيادات الشابة، أما نعوس فهو من قيادة منظمة بيروت، وعمل في جمعيّة الصداقة اللبنانية – البلغارية، واغتيل في 20 شباط/فبراير 1986، كما اغتيل بعده بأربعة أيام المفكّر والصحافي الشيوعي القيادي سهيل الطويلة، وكان رئيسًا لتحرير جريدة النداء وعضوًا في المكتب السياسي، واغتيل بعدهما الشيخ حسين مروّة (17 شباط/فبراير 1987)، وأعقبه مهدي عامل (حسن حمدان) بنحو ثلاثة أشهر (18 أيار/مايو 1987)، وقام الرفيقان “الخليلان” كما أسميتهما بمرافقتي وتأمين اتصالاتي.
“مذكرات صهيوني”
طلبت من الخليلين (الدبس ونعوس)، وهي التسمية التي أطرب لها نديم عبد الصمد، تأمين اللّقاء مع غسّان كنفاني رئيس تحرير مجلة الهدف، وهو ما حصل فعلًا حين اصطحبني خليل نعوس إلى مقر المجلّة. وبعد حديث دام نحو ساعتين خصّص قسمًا منه للاستماع إليَّ، في حين كنت أنا أريد الاستماع إليه، وسألته عن آخر نتاجاته، وبادر بإهدائي روايته “أم سعد”، وهي من الكتب التي أعتزّ بها، وبقي معي في براغ خلال مدّة دراستي، وحين عدت إلى بغداد حملته في حقيبتي اليدوية، ولم أضعه في حقائبي مع حاجياتي وكتبي التي شحنتها إلى بغداد، وقد تمّت مصادرتها لاحقاً مع مكتبتي وثلاث مخطوطات من جانب الأجهزة الأمنية العراقية، إضافة إلى مخطوطة بعنوان “مذكّرات صهيوني”.
وللحكاية جانب آخر، فالسردية تخصّ عضو المنظمة الصهيونية ماكابي هاكير (إيغون ريدليخ) الذي يفضح علاقة الصهيونية بالنازية من خلال يومياته، علمًا بأنه أحد القياديين في معسكر تريزين، حيث تم نقله لاحقًا إلى معسكر أوشفيتز وأعدم عام 1944 على الرغم من تعاونه مع النازية.
وقد تم العثور على مذكّرات إيغون ريدلخ بعد مرور 23 عامًا على إعدامه (أي في العام 1967) في سقف أحد البيوت الحجرية في شارع غودوالدوف في مدينة تريزين، الذي سبق لي أن زرت المعسكر فيه أوّل مرّة عام 1972، وكانت هذه المذكّرات التي أعددتها للنشر بقلم ييرجي بوهاتكا، وهو اسم مستعار كما اتضح لي لكاتب تشيكي عمل في جهاز المخابرات في شعبة مكافحة الصهيونية، وقد استعدت ما كتبته مجلة تريبونا “المنبر” وأعدت ترجمته وإعداده للنشر، وقد تمّ نشره على خمس حلقات في مجلّة الهدف العام 1985، وقامت دار الصمود العربي بإصداره بكرّاس العام 1986، وأهديته إلى غسان كنفاني في طبعته الأخيرة التي ستصدر قريبًا.
ابتسامة غسان
أتذكّر ذلك اللقاء الأثير مع غسّان كنفاني الذي استقبلني بابتسامة عريضة في مقرّ المجلة في كورنيش المزرعة على ما أتذكر وهو رجل يمنحك الثقة منذ أوّل وهلة ويشعرك بالصداقة فتطمئن نفسك إليه، وكنت قد سألته عن تيسير قبّعة وكم بقي من محكوميته وما هي أوضاعه؟ فطمأنني أنّه بخير وتوشك مدّة المحكومية على الانتهاء، ولذلك يتطلّب الأمر استمرار الحملة لإطلاق سراحه، خوفاً من أن السلطات الإسرائيلية قد تحتفظ به أو تحاول المداورة بتوجيه تهم جديدة له، وقد أخبرته كيف تمّ تنظيم الحملة العالمية لإنقاذ حياته بعد اعتقاله في الأرض المحتلّة، حيث كنا منذ أواخر العام 1967 قد نظّمنا حملة في العراق لإطلاق سراحه والحفاظ على حياته، وذلك بعد ورود خبر اعتقاله عبر ممثّلنا مهدي الحافظ سكرتير اتحاد الطلاب العالمي حينها، وهكذا تمّ تعميم تلك المبادرة بجمع التواقيع لإنقاذ حياة تيسير على المستوى العالمي.
طلب غسان من المصوّر تصويري لأرشيف المجلة، وخلال حديثي معه كان أحد الصحفيين يدوّن بعض ما أقوله. لا أتذكّر إن كان قد نشر شيء بعد مقابلتي أو لم ينشر لأنني سافرت بعدها إلى اسطنبول ومنها إلى صوفيا فبراغ، لكنه على ما أذكر جيداً، كان يتمنّى أن تنصبّ جهود الوطنيين واليساريين لمواجهة العدوان الصهيوني والمخططات الإمبريالية.
ذكر الأخ صلاح صلاح، أطال الله من عمره ومتّعه بالصحّة وهو الصديق العزيز الذي تستمر صداقتنا لعقود من الزمان، أنه سمع أول مرة عنّي من غسّان كنفاني، وقبل أن يلتقيني، إضافة إلى قيادات من الجبهة الشعبية وجاء ذلك في مداخلته التي ألقاها في تكريمي العام 2006 وبحضور جهاد الزين ومصطفى الحسيني وعمران القيسي والصديقة سميرة صلاح (زوجة صلاح) ومحمد رشيد، حيث قال له غسان كما دونّه في كلمته المكتوبة: لقد ترك ذلك الشاب العراقي اليساري أثرًا طيبًا في نفسي، وكم أود التواصل معه لانتمائه العروبي الصافي؟ وكنت أحسب أنه فلسطيني لولا معرفتي بعراقيته، التي قال لي حينها أنها الوجه الثاني لفلسطين، بل لبلاد الشام.
واستذكرت ذكرى غسان كنفاني مع شقيقه نعمان كنفاني في كوبنهاغن عام 1991 والذي جمعتنا فيه الصديقة هند النعيمي، وبعد محاضرة كنت قد ألقيتها هناك إثر حرب قوات التحالف على العراق وتداعياتها.
شعور بالثقة
كان حرصي على اللقاء بكنفاني هو للتعرّف عليه شخصيًا والتعبير عن إعجابي بما قرأته له واللقاء المباشر دائمًا غير القراءة، فغسان هو من ذلك النوع من البشر الذي ما أن تقترب منه ويمدّ لك يده حتى تشعر بالثقة به ويتغلغل ذلك فيك بعفويّة ودون تكلّف حتى لتشعر أنك تعرفه منذ زمن. وكلّما تعرّفت عليه كلّما ازدت حبًّا له، وهو ما كان بسّام أبو شريف يقوله دائمًا وصلاح صلاح وأسعد عبد الرحمن وعبد الله حوراني وماجد أبو شرار: إنه يدخل القلب بسرعة خاطفة.
كمْ حزنتُ لفقدان ذاك المبدعِ اللاّمع وهو في ريعان شبابه وأوجِ عطائه، حيث كان قد استكمل أدواتِه الفنية ونضجت تجرِبتُه، حتّى ترصّد له جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد) وقامت يدُ الغدر بتفجير سيارته في منطقة الحازمية صباح يوم 8 تموز/يوليو عام 1972 مع ابنة أخته لميس حسين (17 سنة) ليتشظّى جسده الطاهر في الهواء وكأنه حتى في موته يريد أن ينثر المحبّة في تراب لبنان الذي احتضنه. رحل غسان وهو في عزّ عطائه وتألّقه، وكانت تلك واحدةً من الصّدماتِ التي صُعقتُ بها، وعرفت حينها أن الصهيونية تستهدف اغتيال العقلِ الفلسطيني والمثقفِ الفلسطيني والإبداعِ الفلسطيني، فهو الأشد خطرًا عليها، لأنه الأكثر تأثيرًا ومضاءً وعمقاً.
حين حصل اغتيال غسان كنفاني كنت حينها في رحلة عمل إلى بوخارست وبودابست وفيينا، وقد اتصلت عبر الهاتف بالرفيق مهدي الحافظ، وإذا به يبلغني بما حصل لغسان، حيث لم أكن قد سمعت بذلك، وقد أعقبَ كنفاني في مهمّة رئاسة تحرير مجلة الهدف الصديق بسّام أبو شريف، الذي كنتُ قد تعرّفتُ إليه في مؤتمر اتحاد الطلاب العالمي الذي انعقد في مدينة براتسلافا (سلوفاكيا) كانون الثاني/يناير 1971، ثم التقيتهُ كثيراً مع زوجته الصديقة أمل خوري، وإذا بطردٍ ملغومٍ يُرسل إليه لينفجرَ بوجهه بتاريخ 25 تموز/يوليو 1972، فيأخذ إحدى عينيه وأربعة من أصابعه، ويفقد جزءًا من سمعه، وبقيت بعض شظاياه “تطرّز” صدره وما يزال يحملها إلى الآن. جدير بالذكر أن مؤتمر براتسلافا صادف انعقاده بعد أيام قليلة من إطلاق سراح تيسير قبّعة، فأرسلنا برقية إلى جورج حبش باسم نوري عبد الرزاق الذي حلّ ضيفًا على المؤتمر للالتحاق به وذلك بالاتفاق مع مهدي الحافظ أيضًا.
وكانت براغ محطة أساسية لعلاج بسّام أبو شريف حين كان يزورها باستمرار، إضافة إلى تردّده إليها بصفته نائباً لرئيس اتّحاد الصحفيين العالمي الذي كان مقرّه براغ، علمًا بأن حادث التفجير وقع بعد أسبوعين من اغتيال غسان كنفاني.
ليس مفارقةً أن يتحدّث غسان عن الموت في جميع قصصه، حيث رافقه الموت وكأنه ينتظره، وهو ما ذكّرني بحوار دار بين جيفارا وجمال عبد الناصر، وحين سأل عبد الناصر جيفارا: لماذا أراك تتحدّث عن الموت فأنا أكبر منك ﺑ 10 سنوات، وأنت ما زلت شابًا؟
ولكن بعد هذا الحوار بنحو عامين ونيّف، قضى جيفارا في بوليفيا في 9 تشرين الأول/أكتوبر عام 1967، وكاد أن يقضي في الكونغو بين العامين 1965 و1966، وحين اغتيل جيفارا كان أكبر من غسان كنفاني بثلاثة أعوام فقط، إنهما في عمر متقارب، ترك كلّ منهما تأثيرًا كبيرًا، وكان أمامهما، لو عاشا عمرًا طبيعيًا، أن ينجزا الكثير.
كان جيفارا يدرك أن الإمبريالية العالمية تقف له بالمرصاد في الطريق الذي اختاره تحدّيًا لها، فقد وضع حياته على راحته منتقلًا من أمريكا اللاتينية إلى آسيا وأفريقيا مبشّرًا بالثورة العالمية، مثلما كان يدركه غسان كنفاني من أن الصهيونية إنما تستهدف العقل الفلسطيني، وكما قال بأن: قضيّة الموت ليست على الإطلاق قضيّة الميّت، إنها قضيّة الباقين، فالإنسان في نهاية الأمر قضيّة.
وكان كريمًا في عاطفته وفي سخائه، وقد برمج نفسه وكلّ حواسه باتجاه فلسطين: كان غسان جميلًا في كلّ شيء مظهرًا ومحتوىً، في صداقته وحبّه وتعامله مع الناس؟