أمريكا تُعوّض خسارة إيران الشاه بكسب مصر السادات

كان آخر الأحداث الهامة والمؤثرة على السياسة الدولية عام ١٩٧٩ بعد أن تناولنا الغزو السوفيتى لأفغانستان، والثورة الإسلامية فى إيران، هو توقيع مصر وإسرائيل فى آذار/مارس من عام ١٩٧٩ اتفاقية السلام والتى كانت الأولى بين الدولة العبرية وأى دولة عربية منذ حرب ١٩٤٨.

لم تكن اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية وليدة المصادفة أو الضغوط الأمريكية، لكنها جاءت بعد قناعة تامة من الرئيس الأسبق أنور السادات، أن استعادة الأرض المصرية المحتلة فى حرب ١٩٧٣ بالكامل غير ممكنة بدون توقيع سلام مع إسرائيل وبدعم من الولايات المتحدة!
كانت مصر حتى تولية السادات الرئاسة فى ١٩٧٠، دولة تتبنى النهج الاشتراكى سياسيا واقتصاديا. فمن الناحية السياسية، كانت الدولة المصرية تدار بواسطة تنظيم واحد غير مسموح لغيره بالعمل، ومن الناحية الاقتصادية، كانت مصر تدار بواسطة الدولة من خلال تأميم الموارد وامتلاكها وإدارتها، وصولا إلى توزيع الموارد على السكان. كانت معادلة الدولة الاشتراكية حاضرة فى مصر من خلال عقد اجتماعى تعهدت فيه الدولة بالتوظيف وتوفير الأمن والرعاية الصحية والاجتماعية فى مقابل احتكارها لإدارة العملية السياسية، وبالتالى لم يكن من المستغرب أن يكون الاتحاد السوفيتى لا الولايات المتحدة هو حليفنا الأول فى تلك الفترة، برغم رفع مبدأ عدم الحياد رسميا!
كان التسليح والتدريب والمشروعات الكبرى تتم بمساعدة من الاتحاد السوفيتى الذى كان حريصا على الإبقاء على مصر فى صفه لمواجهة توسع الولايات المتحدة فى كسب الدول العربية فى شبه الجزيرة! لكن بعد وفاة الرئيس جمال عبدالناصر فى ١٩٧٠، وتولى الرئيس السادات، وبرغم أن حكم الأخير لم يدم سوى ١١ عاما، إلا أنه كان قادرا على تغيير السياسة الداخلية والخارجية بشكل حاد!
ولأن السادات أدرك أن هناك معضلة كبيرة أمامه تتمثل فى أنه لن يتمكن من خوض حرب شاملة ضد إسرائيل بسبب المساعدة العسكرية المتوقعة من الولايات المتحدة للدولة العبرية، ومن ثم فإنه سيكون فى حرب غير متكافئة مع الولايات المتحدة، ومن ناحية أخرى فإنه لن يتمكن من إقناع إسرائيل بإعادة شبه جزيرة سيناء التى احتلتها فى ١٩٦٧ بدون تغيير المعطيات على الأرض!
ولحل هذه المعضلة، كانت حرب أكتوبر والتى كان يعلم السادات مسبقا أن هدفها هو تغيير المعطيات على الأرض بشكل يسمح له بإجبار إسرائيل على التفاوض، وهو ما حدث بعد ذلك بـ ٤ سنوات عندما قام الرئيس السادات بزيارته التاريخية الجدلية إلى القدس فى ١٩٧٧. وبين حرب أكتوبر وزيارة القدس، كان السادات يحول دفة السياسة الخارجية المصرية من الاتحاد السوفيتى إلى الولايات المتحدة، مع اتخاذ ما تطلبه ذلك من إصلاحات سياسية واقتصادية!

اعتبرت الولايات المتحدة أن اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية هى مكسب استراتيجى لها، وخصوصا وأنها قد خسرت حليفا إقليميا مهما وهو إيران، فعوضته بكسب مصر إلى صفها، ومنذ ذلك الحين وبرغم الكثير من التغيرات فى المعادلة الإقليمية الشرق أوسطية، إلا أن مصر تظل لها أهمية كبرى عند صانع القرار الأمريكى بغض النظر إن كان ديموقراطيا أو جمهوريا!

***

اقتصاديا قام السادات باعتماد سياسة الانفتاح الاقتصادى والتى كانت إشارة على تحول الدولة التدريجى من النهج الاشتراكى إلى النهج الرأسمالى وهى السياسة التى تم تنفيذها بشكل مشوه؛ لا حصّل سياسات السوق المفتوحة ولا أبقى على الاشتراكية وهو ما كان له تبعات اقتصادية واجتماعية مؤلمة على الشعب المصرى ما زالت آثارها باقية حتى اللحظة، وسياسيا فقد قام السادات ببعض الإصلاحات السياسية الشكلية حيث تحول من نظام الحكم الواحد إلى نظام التعددية المقيدة وذلك باعتماده سياسة المنابر!
بعد أن كسب ثقة الأمريكان، قرر الرئيس السادات استعراض قدراته على اتخاذ قرارات «جريئة»، فقام بزيارته الشهيرة إلى القدس والتى تبعها الكثير من المفاوضات الشاقة والصعبة وخصوصا فى كامب ديفيد بالولايات المتحدة الأمريكية مع رئيس الوزراء الإسرائيلى مناحيم بيجين والتى انتهت بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد فى سبتمبر/أيلول ١٩٧٨، ثم توقيع اتفاقية السلام الدائم مع إسرائيل فى مارس/آذار ١٩٧٩!
وفقا لاتفاقية السلام، فقد اعترفت مصر بإسرائيل، ووافقت إسرائيل على الانسحاب من شبه جزيرة سيناء، مقابل موافقة مصر على عدم تسليح الجزيرة (وهو الأمر الذى تغير لاحقا بالاتفاق مع إسرائيل بعد ثورة يناير/كانون الثاني ٢٠١١)، كما وافقت مصر على تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وهو التطبيع الذى لم يدخل حيث التنفيذ الشعبى إلا في ما ندر، مما جعل كثيرين يطلقون على السلام المصرى مع إسرائيل وصف «السلام البارد»!
حصل السادات على ما أراد، ولكنه فى مقابل ذلك دفع ثمنا كبيرا تمثل فى فقدان مصر لمقعدها فى جامعة الدول العربية، وانتقال المنظمة بأسرها خارج مصر، كما تمثل الثمن فى بعض التنازلات التى قدمها لتيارات الإسلام السياسى فى تلك الفترة، ثم كانت حياته فى النهاية هى الثمن!

***

لم يكن السلام المصرى ــ الإسرائيلى مجرد حدث إقليمى، ولكنه كان مؤثرا على العلاقات الدولية لأنه كان أحد أهم الأوراق التى كسبتها الولايات المتحدة والتحالف الغربى مع مطلع الثمانينيات، وهو ما غيَّر نسبيا من توازنات القوى الدولية. أصبحت مصر شريكا استراتيجيا للولايات المتحدة الأمريكية منذ ذلك الحين، كما أصبحت ثانى أكبر متلقٍ للمساعدات الأمريكية بعد إسرائيل، وبرغم المقاطعة العربية، إلا أن معظم الدول العربية عدلت لاحقا عن المقاطعة، بل ودخلت العديد من الدول العربية فى اتفاقيات سلام مع إسرائيل مع مطلع التسعينيات وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي!
اعتبرت الولايات المتحدة أن اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية هى مكسب استراتيجى لها ــ وقد كان كذلك بالفعل ــ وخصوصا وأنها قد خسرت حليفا إقليميا مهما وهو إيران، فعوضته بكسب مصر إلى صفها، ومنذ ذلك الحين وحتى اللحظة، وبرغم الكثير من التغيرات فى المعادلة الإقليمية الشرق أوسطية، إلا أن مصر تظل لها أهمية كبرى عند صانع القرار الأمريكى بغض النظر إن كان ديموقراطيا أو جمهوريا!
كل هذه الأحداث كانت تشكَّل المسرح السياسى للفصل الأخير فى الحرب الباردة، وخصوصا أن العلاقات توترت بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى بشكل غير مسبوق منذ الستينيات، وتسبب ذلك فى قرار الكونجرس الأمريكى عدم اعتماد توقيع الرئيس الأمريكى على الاتفاقية الثانية للحد من الأسلحة الاستراتيجية عقابا للاتحاد السوفيتى على غزوه لأفغانستان، لكن عقد الثمانينيات الذى بدأ متوترا للغاية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى تغير بشكل درامى بعد وصول ميخائيل جورباتشوف إلى سدة الحكم فى الاتحاد السوفيتى، فكان العالم فى مرحلة عد تنازلى لانتهاء الحرب الباردة.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  "ميكور ريشون": حذر إستراتيجي إسرائيلي في التعامل مع اردوغان
أحمد عبدربه

مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة وأستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  "الشيخ والخيمة"، أميركا ومصر.. حوارات كيسنجر وهيكل (2/1)