الحوار العراقي.. إرادة سياسية ومجلس سياسات

ليس خافياً على أحد أن الوضع العراقي يتسم بتعقيدات سياسية ودستورية باتت معها الأمور لا تسمح بمعالجات تقليدية، بل تستدعي التفكير في إحداث نقلة نوعية في العملية السياسية التي باتت تمشي علی رجل عرجاء، لا سيما في ضوء تطورات الأسابيع الأخيرة.

بغض النظر عن ظروف الأحداث الأخيرة التي وقعت في “المنطقة الخضراء” وأحقية هذا الطرف أو ذاك؛ وهل كانت طبيعية أم لا؛ خطيرة أم لا؛ مقبولة أم لا؛ إلا أنها قدمت الدليل الحي حول حجم المشكلة التي تواجه العراق، البلد العربي الذي انهكته الحروب والأزمات والتوترات منذ أكثر من أربعة عقود حتى الآن.

ولعل “جلسات الحوار” التي رعتها الحكومة العراقية وشارك فيها قادة وزعماء يمثلون أحزاباً سياسية عراقية وازنة، قد افرزت وبيّنت نقطتين مهمتين. الأولی؛ أن جميع الفرقاء، من كورد وعرب؛ سنة وشيعة ومن طوائف ومذاهب أخرى، باتوا يدركون حجم التداعيات التي تواجه العراق والعملية السياسية. الثانية؛ الحاجة الی مخرجات ناجعة من اجل استمرار هذه العملية التي يراهن البعض علی فشلها وضرورة اسقاطها بالكامل، ليسقط معها العراق في آتون الفوضى والمجهول.

إن ما رشح عن “جلسة الحوار” الثانية، يوم الإثنين الماضي، لا يشي بوجود إرادة سياسية جماعية بالبدء بمعالجة حقيقية وجذرية للواقع العراقي الذي يعج بالفساد والفوضى والمحاصصة والمحسوبيات وغياب دولة القانون وسيادة آفاق الجهل في المشهدين السياسي والحكومي.

كنت قد تحدثت في مقالة سابقة عن عدم جدوی اجراء انتخابات نيابية مبكرة لا تغني ولا تسمن من جوع ما لم يتم معالجة المطبات التي وقع فيها الدستور والمُشرّع العراقي، وهذه المهمة تحتاج الی عملية جراحية قيصرية قد تتسبب في أوجاع وآلام لفترة من الزمن لكن من شأنها أن تشفي المريض وتعيد عقارب الساعة إلی وضعها الطبيعي.

ان التوغل في عدم حسم أمر تشكيل حكومة جديدة تأخذ في الإعتبار نتائج الانتخابات الأخيرة لا يصب في مصلحة العراق والعراقيين؛ كما انه لا يصب في مصلحة أيٍ من الفرقاء؛ وكل تأخير إضافي من شأنه أن يُرهق البلد بمشاكل اكبر قد يكون من الصعب معالجتها في ما بعد. والجميع يعترف ان غياب البرلمان وتعطيل جلساته يؤدي إلى تعقيد الأزمة ولا يساعد في إيجاد حلول لها؛ ولذلك من الطبيعي جداً بذل الجهود اللازمة من أجل خلق الظروف المناسبة والكفيلة باستئناف عمل مجلس النواب بالتزامن مع حسم مسألة رئاسة الوزراء لمعالجة الملفات السياسية والقانونية والاجتماعية الملحة التي تهم الوطن والمواطنين. وسواء كان هذا الطرف في البرلمان أم لا، فان العالم لن ينتهي عند هذا البرلمان أو ذاك؛ او عند هذه الحكومة أو تلك؛ فهذا مسار من تراكم التجارب السياسية يُمكن أن يفيد جميع الأطراف.. مستقبلاً.

ان ايجاد “مجلس السياسات” كفيل بابرام تفاهمات بشأن الدستور وآلية تعديله تأخذ في الاعتبار تصورات وأفكار كافة المكونات لإيجاد التعديل المنشود للدستور صوناً للوحدة الوطنية وتعزيزاً للتفاهمات السياسية الكفيلة بمنع الاحتكاك أو التدافع الأمني والسياسي

وهنا لا بد من القول إن تجربة “جلسات الحوار الوطني” هي تجربة مهمة وحضارية حيث يشارك فيها رؤساء السلطات الثلاث إضافة الی كافة زعماء الاحزاب والتيارات السياسية. هذه التجربة يُمكن تطويرها حتماً لتكون نافذة دستورية، وإن كان إطارها، بحد ذاته، خارج إطار الدستور.. ولننظر من حولنا فهذه تجربة الحوار تنعقد في مصر وسبق لها أن إنعقدت في كل من ليبيا ولبنان وسوريا واليمن وربما تلتئم في تونس. نعم، يمكن تحويل هذه التجربة في العراق إلی “مجلس السياسات” او إضفاء أي إسم آخر عليها من أجل ضمان إستمراريتها وسيلة مهمة وضرورية لمعالجة الاختناقات التي تواجه العراق.

إن هناك من الأسباب الموجبة في العراق، ولا سيما واقع الإنسداد السياسي، ما يؤكد الحاجة إلى مثل هذا “المجلس” حتی وان كان غير دستوري لكن المصلحة العامة تقتضي تشكيله من أجل معالجة المشاكل التي تواجه العملية السياسية وما أكثرها. يمكن لهذا “المجلس” مساعدة البرلمان بتشكيل لجنة لدراسة امكانية تعديل الدستور أو اجراء انتخابات مبكرة أو اتخاذ قرارات تخدم المصلحة العامة وتجد طريقها إلى التنفيذ بعد مصادقة البرلمان وباقي السلطات عليها.

هذا “المجلس” ليس بديلا لأي مؤسسة ولا سيما البرلمان وإنما هيئة مفتوحة تضم زعماء كافة الأحزاب والتيارات السياسية ورؤساء السلطات الثلاث التي شاركت في “جلسات الحوار” من أجل حل العقد التي تعترض العملية السياسية.

قد يحاجج البعض بالقول إن مثل هذا الاقتراح تشوبه عورة قانونية ما كونه غير دستوري لكن مقتضيات المصلحة العامة وشعور كافة الأوساط بأهميته كفيلان بصياغة إطار دستوري له كأن يكون لجنة استشارية ترتبط برئاسة الوزراء أو رئاسة الجمهورية أو مجلس النواب ذاته. لا أعتقد أن ذلك مهماً بقدر أهمية جلوس كافة الفرقاء حول طاولة مستديرة من أجل حل الاختناقات السياسية والدستورية.. وعدم السماح بتكرار ما حدث خلال الفترة الماضية.

إقرأ على موقع 180  هلمي معي من لبنان

وعلى سيرة الحوار، أمامنا منهجين؛ فإما التشاور والتنسيق بين أطر مناطقية أو حزبية أو قومية وهذا ما يتم حالياً؛ وإما جلوس الجميع بشكل مباشر حول طاولة الفضاء الوطني لمناقشة القضايا العامة التي تعترض العملية السياسية. ويبدو ان الطريقة الثانية هي التي تستطيع أن تُحقّق عديد الاهداف التي يتطلع إليها جميع المواطنين. تبقی القضية القانونية فيمكن للقانونيين في المجال الدستوري إيجاد إطار لها استناداً لمقتضيات المصلحة العامة.

ان ايجاد مثل هذا “المجلس” كفيل بابرام تفاهمات بشأن الدستور وآلية تعديله تأخذ في الاعتبار تصورات وأفكار كافة المكونات لإيجاد التعديل المنشود للدستور صوناً للوحدة الوطنية وتعزيزاً للتفاهمات السياسية الكفيلة بمنع الاحتكاك أو التدافع الأمني والسياسي.

مُجدداً، لا بد من إرادة سياسية.. فإذا توافرت هانت كل التفاصيل.

([email protected])

Print Friendly, PDF & Email
محمد صالح صدقيان

أكاديمي وباحث في الشؤون السياسية

Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  نبوءات نجيب محفوظ