تحفل مذكرات السياسيين وكتابات الباحثين العراقيين بالحديث عن العقبات التي واجهتها الدولة العراقية في طورها التأسيسي الأول عام 1921، ومن تلك العقبات التي ما فتئت تطل برأسها من حين إلى آخر، استقلال البصرة أو تحويلها إلى إقليم أسوة بكردستان في الشمال، وفي العادة ترتفع الأصوات المنادية بإنفصال البصرة أو أقلمتها مع كل صيف، إذ يتظاهرالمحتجون الناقمون على سوء الخدمات الحكومية المتمثلة بإنقطاع الماء والكهرباء في وقت تتجاوز فيه درجات الحرارة الخمسين درجة، فلا يبقى أمام المحتجين سوى رفع الصوت بإنسحاب الطرف من المركز، وفي قناعة هؤلاء أن المركز يُبدّد الثروة المتمركزة في الطرف، والأخير لا يلوي على شيء.
ما يحدث في البصرة مع كل صيف، والصيف على الأبواب، له جذوره الضاربة في قرن عراقي كامل حين نظر وجهاء وتجار من البصرة إلى أوضاعهم في ظل دولة الوحدة، وخلصوا إلى أن أوضاعهم ومواقعهم التجارية والسياسية ستشهد تخلفاً وتراجعاً عما هي عليه، فآثروا الإنسحاب من الدولة الوليدة، وعلى ما يُجمع قارئو وناقدو تلك الفترة، أن بريطانيا لم تكن بعيدة عن هذا الإتجاه، بل هي صانعته على ما قيل سابقاً ويُقال راهناً.
ساطع الحصري: “البصرة كثيرة الإتصال بالهند، وكان أحد مشاريع السياسة البريطانية يرمي إلى ربط البصرة بأمبراطورية الهند وإدارتها إدارة مباشرة، واستطاعت هذه السياسة أن تحمل طائفة من الوجوه والأعيان للتوقيع على عريضة تطلب عدم ربطها ببغداد، وهؤلاء الوجوه كانوا مستعدين إلى تكرار هذا الطلب إذا أراد ذلك البريطانيون”
في مذكراته التي حقّقها نجدة فتحي صفوة، يقول جعفر العسكري (1885ـ 1936) الذي ترأس الحكومة العراقية مرتين في العهد الملكي “إن أفكار موظفي حكومة الهند ـ الإنكليزية ـ وآمالهم القوية بربط العراق بالهند وجعله مستعمرة هندية كانت غير خافية عليّ”.
وأما مصير البصرة فقد كان ورد في قائمة المطالب البريطانية من الشريف الحسين بن علي بين عامي 1916 و1918 وفقا للمؤرخ الأردني سليمان موسى ( 1919 ـ 2008 ) في كتابه “الحركة العربية /المرحلة الأولى للنهضة العربية الحديثة” الصادر عام 1970 عن دار “النهار” اللبنانية ومضمونها ان تعترف بريطانيا بحكومة عربية واحدة تشمل الجزيرة العربية والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين بإستثناء مدينتي البصرة وعدن”.
وتلك المطالب البريطانية يتناولها بالتفصيل الدمشقي احمد قدري، كبير مستشاري الملك فيصل الأول ومؤسس وزارة الصحة العراقية في كتابه “مذكراتي عن الثورة العربية” (1956) ويتناولها المفكر القومي ساطع الحصري في كتابه “مذكراتي في العراق” قائلاً “البصرة كثيرة الإتصال بالهند، وكان أحد مشاريع السياسة البريطانية يرمي إلى ربط البصرة بأمبراطورية الهند وإدارتها إدارة مباشرة، واستطاعت هذه السياسة أن تحمل طائفة من الوجوه والأعيان للتوقيع على عريضة تطلب عدم ربطها ببغداد، وهؤلاء الوجوه كانوا مستعدين إلى تكرار هذا الطلب إذا أراد ذلك البريطانيون”.
وفي كتاب “العراق في رسائل المس بيل” الذي عرّبه العراقي جعفر الخياط، والرسائل عائدة للباحثة والمستشارة الإنكليزية جيرترود بيل (1868 ـ1926) والتي كان لها سطوة غير محدودة بين العراقيين، أن الملك فيصل بن الحسين “يصل إلى البصرة هذا اليوم (23 حزيران/يونيو 1921) وقد حضر إلينا يوم الإثنين وفد قوي من البصرة يحمل عريضة يطلبون فيها أن تُعامل منطقة البصرة في حُكمها معاملة خاصة، فقد كانوا على استعداد لقبول ملك مشترك ولكنهم طلبوا أن يكون للبصرة مجلس تشريعي خاص وجيش على حدة مع شرطة خاصة وأن تجمع المنطقة ضرائبها الخاصة فتتصرف فيها على أن تدفع مبلغاً مناسباً للإدارة المركزية”.
المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني (1903ـ1997) يتحدث عن أعيان ووجهاء مدينة البصرة ذوي “النزعة البصراوية” في الجزء الأول من موسوعته “تاريخ الوزارات العراقية” الصادرة عن مجلة “العرفان” اللبنانية عام 1953 فيكتب تحت عنوان “بعث فكرة الإنفصال” فيقول “بعد أن سمع الداني والقاصي بتوجه الأمير فيصل إلى العراق لإعتلاء العرش، تقدم لفيف من وجوه البصرة بينهم أحمد باشا الصانع وعبد اللطيف باشا المنديل بطلب إلى المندوب السامي البريطاني في العراق، برسي كوكس، بتاريخ 13 حزيران/يونيو 1921 بمنح البصرة استقلالها السياسي بعد فصلها عن العراق وإلحاقها بالهند”، ويُدرج محمد المهدي البصير نص العريضة التي تقدم بها بعض وجهاء البصرة وأعيانها لمنحها حق الإنفصال في كتابه “تاريخ القضية العراقية” الصادر عام 1924 عن مطبعة “الفلاح” في بغداد.
من هم وجهاء البصرة الذين نادوا بالإستقلال أو الإنفصال أو الحكم الذاتي أو الإلتحاق بالهند؟
في واقع الأمر تبرز ثلاثة أسماء: طالب باشا النقيب وأحمد باشا الصانع وعبد الحليم باشا المنديل، وفي سيرتهم التالي:
“في أوراق أمين البلاط الملكي العراقي (النائب لاحقا) باقر السيد محمد الحسني (1894ـ 1958) التي أعدها وأخرجها كتاباً ابنه نزار أن ارنولد ويلسون الحاكم الإنكليزي للعراق استدعى “طالب النقيب من البصرة للإستفادة منه في مقاومة الثورة ـ ثورة العشرين ـ بعد أن أوعده بالمنصب الأعلى في البلاد”.
وعلى ما يروي أمين الريحاني في الجزء الثاني من “ملوك العرب” انه بعدما شاع ميل العراقيين إلى فيصل بن الشريف حسين شرع طالب باشا النقيب “يطوف البلاد ليتم إصلاحاً في قانون الإنتخاب كانت المادة الأولى فيه أن لا تنتخبوا شريفاً أجنبياً عليكم، هوذا السيد طالب وهو مثل أنجال الشريف من الأشراف، فهو يتكفل لكم بمن سيملأ كرسي العرش”.
وللترويج لهذا المشروع اتاحت السلطات الإنكليزية الحاكمة في العراق صدور صحيفتين محليتين؛ الأولى هي “العراق” وكانت تميل للعائلة الهاشمية، والثانية هي “الشرق” التي أنشأها حسين أفنان في الثلاثين من آب/أغسطس 1920، وكان أفنان “في زمن الحرب آمر المعتقل للأسرى من الضباط العراقيين والعرب في سمر بور ثم أسند إليه منصب كبير في ديوان الحاكم البريطاني ـ والشرق ـ في مشربها تدعم السياسة الإنكليزية بقوة، وأحسبها الجريدة الوحيدة في قطرنا التي جرأت فكتبت تُحسِن مذهب الإنتداب في سياسة الشعوب ونشرت مضابط تؤيد الوصاية البريطانية على العراق، حتى إذا ما بدا موضوع تأسيس دولة العراق الجديدة قامت الشرق بدعاية وزعامة طالب باشا النقيب وترشيجه لعرش العراق “، كما جاء في كتاب “الصحافة في العراق” لرافائيل بطي (1951).
وحول صحيفة “الشرق” وطالب النقيب، كتبت السيدة بيل “في نية حسين أفنان أن يصدر جريدة تعمل لصالح الحزب المعتدل الذي يقوم بتشكيله السيد طالب، وحسين صديق عظيم من أصدقائي، وفي الثلاثين من آب/أغسطس 1920 حضر السيد طالب عندي بينما كنتُ أتناول الفطور، وقد استهل حديثه بقوله إنه يعتبرني أختاً له ثم سألني إذا كان من الواجب عليه أن يوافق على تمويلنا له، أي هل يؤدي ذلك إلى التقليل من قيمته في نظرنا أم ماذا”؟
في “أحداث عاصرتها” لعبد الرزاق الحسني أن فيصل بن الحسين حينما جاء إلى العراق ونزل في مدينة البصرة “توجه إلى دار أحمد باشا الصانع حيث أقيمت فيها مأدبة غداء فاخرة، وكان أحمد الصانع وعبد اللطيف المنديل قد رفعا عريضة إلى المندوب السامي البريطاني يطلبان فيها منح البصرة نوعا من الإستقلال الذاتي كما أسهما في عريضة وقعها 5400 من أهل البصرة يطلبون فيها فصل البصرة عن العراق”
ويقول باقر الحسني “في 11 آذار/مارس1921 انعقد في القاهرة مؤتمر للتداول في شؤون المستعمرات البريطانية ومن ضمن ذلك البحث في مستقبل العراق ونظام حكمه، فتشعبت الآراء بين النظامين الجمهوري والملكي ومن يتسيد رأس الحكم، فتقدمت فئة من السياسيين في البصرة امثال أحمد باشا الصانع وعبد اللطيف المنديل بطلب يحمل 5000 توقيع يطلبون فصل البصرة عن العراق وتبقى تحت الحكم البريطاني” وهذا ما دفع صحيفة “النهضة” العراقية لأن تشن حملات عنيفة على حاملي هذه الرايات “ومن مأثور مواقفها مهاجمتها الحركة الإنفصالية التي أثارها بعض المسيرين من الأجنبي في البصرة ناعتة فعلتهم بالخيانة العظمى” مثلما كتب رافائيل بطي في “الصحافة في العراق”.
ويعطي عالم الإجتماع العراقي الشهير علي الوردي مساحة واسعة للحديث عن طالب النقيب في الجزء السادس من “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث”، فينقل عما يورده جون فيلبي خلال إقامته في العراق وعلاقته بالنقيب، وكذلك عن السيدة بيل في رسائلها المعروفة، وفي حقيقة الأمر لا يخفي فيلبي طرق إسدائه النصح والمشورة لطالب النقيب المعروف عنه تهوره الشديد، وفي كتاب “أيام فيلبي في العراق” الذي نقله جعفر الخياط إلى العربية ونشرته دار “الكشاف” البيروتية عام 1950 ما يفيض عن علاقة الرجلين وكيفية اهتداء النقيب بنصائح فيلبي وأفكاره.
عن عبد اللطيف المنديل واحمد باشا الصانع يكتب مير بصري نبذات تعريفية بهما في “أعلام السياسة في العراق” فيقول إن المنديل “من سراة البصرة وهو إبن ابراهيم بن فوزان من عشيرة الدواسر النجدية وعُين في عهد الإحتلال البريطاني أول عضو عراقي في المجلس الإستشاري لإدارة ميناء البصرة عام 1919، عُيّن وزيراً للتجارة ـ مرتين ـ فاستقال للعناية بمصالحه الخاصة، ثم عُيّن وزيراً للأوقاف فاستقال، ناب عن البصرة في مجلس النواب فاستقال، ثم عُيّن عضواً في مجلس الأعيان واستقال ليتفرغ لشؤون الخاصة، قالت عنه المس بيل إنه تاجر كبير، وذكره أمين الريحاني وقال إنه يخلص العمل لوطنه الثاني العراق”.
وأما احمد الصانع فتعريفه بحسب مير بصري “من سراة البصرة وأعيانها ولد في الكويت سنة 1860 وأقام في البصرة منذ صدر شبابه يمارس التجارة، وجاء في التقارير السرية البريطانية أن أحمد الصانع قال لحاكم البصرة السياسي أنا لا اريد سوى الحكم البريطاني البحت وأرجو ألا تتركوا البلاد بل احكموها بأنفسكم بيد قوية ولكن عادلة”.
وفي تعريف السيدة بيل “جاءني صبيحة هذا اليوم ـ 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1920 ـ أحمد باشا الصانع وكان قد وصل تواً من البصرة ليشغل مقعده في مجلس الوزراء، فقد قبله بعد إحجام طويل، لأنه يكره بغداد وأشغالها، ولم يكن أتى إليها طوال حياته، ويشجب حماقة أهلها وجهلهم ويُطري حكمة أهالي بلده ـ البصرة ـ وتعقلهم، ويحبذ أن يُترك العراق يغلي إذا كنا نتمسك بالبصرة وحدها لنا”، ويقصد أحمد الصانع بقوله إن طموحه ينحصر بالبصرة ومصيرها، وأهاليها لم يشاركوا في “ثورة العشرين”، وعن هذه الإشكالية يكتب الصحافي والمؤرخ السوري أمين سعيد (1891 ـ1967) في الجزء الثاني من “الثورة العربية الكبرى” قائلا “وقفت البصرة على الحياد في معظم الأدوار التي مرت بها حركة الجهاد الوطني”.
وفي “أحداث عاصرتها” لعبد الرزاق الحسني أن فيصل بن الحسين حينما جاء إلى العراق ونزل في مدينة البصرة “توجه إلى دار أحمد باشا الصانع حيث أقيمت فيها مأدبة غداء فاخرة، وكان أحمد الصانع وعبد اللطيف المنديل قد رفعا عريضة إلى المندوب السامي البريطاني يطلبان فيها منح البصرة نوعا من الإستقلال الذاتي كما أسهما في عريضة وقعها 5400 من أهل البصرة يطلبون فيها فصل البصرة عن العراق”.
لماذا البصرة؟
ربما تكمن الإجابة في غناها وثروتها وعلاقة تجارها مع الهند، على الأقل هذا ما ألمحت إليه السيدة بيل وما يمكن قراءته في وقائع أعيانها وعلاقتهم بالهند في كتاب العلامة فصيح بن السيد صبغة الله بن الحيدري البغدادي “أحوال البصرة” الذي كتبه عام 1870 وأعادت “منشورات البصري” البغدادية طباعته عام 1961، وفيه:
“بيت عبد الرزاق وهو بيت مجد وعز وتجارة وبقي منهم الكامل النجيب محمد بن عبد اللطيف في الهند، التجار الموجودون في عصرنا في البصرة، محمد المشار ويتردد على الهند للتجارة زاده الله عزاً ومالاً، ومنهم سالم البدر له من الثروة التامة والمراسلات إلى الهند، وإبراهيم المنديل وهو من التجار يراسل إلى الهند وعبد العزيز الصالح ويراسل إلى الهند، وعبد الله العودة وله مراسلة إلى الهند وعبد اللطيف العون وهو من التجار الأخيار ذو الثروة وله مراسلة إلى الهند، والمانع النجدي وله مراسلة إلى الهند ومحمد الفارسي النجدي ذو النجابة وتجارته مع الهند، وسليمان الخصيبي وهو من التجار المراسلين إلى الهند، وبيت الحاج عبد الواحد ولهم المراسلة إلى الهند، ومن التجار الأخيار محمد بن الحاج نعمة له المراسلة إلى الهند، وعبد الرحمن الرفاعي وله مراسلة إلى الهند”.
ومما كتبه يوسف عز الدين عن علاقة البصرة والهند في سياق تحقيقه لكتاب “النصرة في أخبار البصرة” لأحمد نور الأنصاري (1875) الصادر عن جامعة بغداد عام 1976:
“لما كان الصحافي الهندي ديوان بريندرانات في بغداد تحدثت معه عن صلة البصرة بالهند وأن جماعة من البصريين تسكن بومباي فقال: إن للبصرة أثراً في الأدب الشعبي الهندي ولا سيما البنجاب، فقد كانت بمثابة التجار والبحارة للمغامرين لأنها مدخل العالم بالنسبة للهند، وقد كانت الهند تتحدث بأقاصيص سندباد البحري وتذكر دائماً البصرة مع إغفال بغداد، لأن البصرة كانت أملاً في الثروة والغنى، وإليها يسافر الزوج والحبيب، وكانت مدعاة حزن الزوجة وبكاء الحبيبة وقد اشتهرت اغنية بنجابية معناها:
عد من البصرة يا من/ ترك الأهل طويلا
أسأل الله من البصرة/ تأتينا عجولا.
قبل الختام، كل الأماني ألا تشهد البصرة صيفاً ساخناً لا في حرارته ولا في شعاراته، وإذا كان لا بد من مسك ختام فلا بأس أن يكون المسك أغنية داخل حسن القديمة والذائعة الصيت:
“أحيا وأموت ع البصرة / خليت بقليبي حسرة
حلوة البصرة/ عيوني البصرة”.