تكلم نديم شرفان وفرقته “المياس” بلغة الجسد، فكأنه يكتب الشعر. والشعر لغة الفن الأساسية عند العرب. أكد عدة مرات على انتمائه العربي، مُصراً على “عروبيته”. رفعوا لغة الرقص العربية الى العالمية بأعلى المستويات. قدموا لنا برهاناً أن في الثقافة العربية معيناً لا ينضب من الإبداع. نقيض السلفية وكل الأصوليات الدينية. ماراثون الرقص لديهم يساوي في سموه “الأغاني”، كتاب أبي الفرج الأصفهاني. وهذا بالمناسبة، قرشي أموي متشيّع. ألّف أيضاً كتاب “مقاتل الطالبيين”. في أخر كل قصيدة أو مقطع شعري للغناء، شرح أبو الفرج كيف يكون عزف الأغنية، وبأي وتر يُدق، وبأي أصبع، وبأي مقام.
في ليل العرب الدامس، وبرغم واقع لبنان، وقد أطبق الدين السلفي على صدور الناس، ونزلت بالعرب مصائب وكأنها أخر الزمان، أطل علينا ما يبعث الأمل في قلوبنا. مسألة ثقافية هي في أعلى مستويات السياسة.
ليس نديم شرفان بعيداً عن السياسة. هو في صلبها. إذ يدعو مرة بعد أخرى الى تدمير الطبقة السياسية في لبنان، تطبيقاً لشعار “الشعب يريد إسقاط النظام”. هو شعار الثورة العربية التي انفجرت في عام ٢٠١١ على المستوى العربي، وفي العام ٢٠١٩ على المستوى اللبناني. لم يجد نديم شرفان تناقضاً بين كونه لبنانياً معتداً وكونه عربياً فخوراً بعروبته. يحق له ذلك، وما جاء ذلك الإنجاز وفرقته إلا تأكيداً لذلك.
رفع نديم ورفاقه فن الرقص عربياً وعالمياً من رؤية الى أخرى، حتى ليقال ما بعد وما قبل.. “المياس”. حوّلت “المياس” الرقص من فن ملحق بالغناء والسهر في المنازل والمنتديات الليلية الى حرفة، الى فن قائم بذاته للتعبير بالجسد، كما التعبير بالكتابة. هذا لا يعني أنه لم يكن ما قبله من الفرق الفولكلورية، مثل كركلا، والرحابنة وصباح، وغيرهم. لكن هذه الفرقة أوصلت هذا الفن الى مرحلة نضجه وعالميته، مع التفاتة لما هو عربي موروث. وهو مرحلة جديدة من الخروج الى العالم والانخراط فيه. انكسر حاجز بين ما هو شرقي وما هو عربي. بين دعاة “المواجهة” و”الفصل” و”الانعزال” لما هو عربي عما هو عالمي. جاءت فرقة “الميّاس” إعلاناً على كسر وتدمير كل ذلك، والخروج الى العالمية، لا من حيث الشهرة، شهرة عمل فني شرقي في عالم يحكمه ثقافياً الغرب، بل الاندماج في الثقافة العالمية، مع ارتياح الى ما هو شرقي، بل البناء عليه. نقيض هذا الاندماج في الثقافة العالمية هو الانعزال الثقافي والخوف من الغزو الثقافي، بما هو تعبير عن عنصرية ثقافية ودونية.
مع “الميّاس” يظهر التراث عالمياً متفلّتاً من ذاته، مندمجاً بالعالمية. مستوى من الحرية (ليس فقط التحرر) لم تستطع الأنظمة ضبطه أو احتواءه. تحرر الجسد من كونه أداة للتسلية أو مجرد تلاعب بالمتعة، ليصير أداة لتعبير فني تحار فيه بين ما هو عربي وما هو عالمي
نعم، فرقة “الميّاس” كرّست غزو الثقافة العربية للغرب وليس العكس. هي ليست إبداع لبنانيين حضنهم الغرب. هي إبداع لبنانيين يصرون بصراحة على العيش في الفضاء الثقافي العربي والخروج الى العالم. ربما كأن ذلك كان بداية غزو فضاء يتجاوز مسألة التحرر الوطني التي تُعبّر عن الاستقلال الثقافي في مواجهة الاكتفاء بالاستقلال السياسي، والانغلاق الثقافي، والاستبداد وما جرّ إليه من أصوليات دينية وقومية تكاد تهدر دم من يكتب حرفاً عن هكذا تجارب.
تحرر البلد من الامبريالية ما قاد في بلادنا الى تحرر المجتمع الذي يعتمد أساساً على الحرية، وهي ضرورية في مواجهة سلطة الاستبداد على المجتمع والدين. بتعابير أكثر بساطة، تحرر البلد لا يعني حرية المجتمع كأفراد. والحرية لا تكون إلا فردية، وهي كانت مقموعة في عهد الاستقلال أكثر مما قبل. ما نشاهده الآن هو بداية حرية المجتمع كأفراد. انتزاع المجتمع من ربقة السلطة، سلطة الاستبداد. تحرر المجتمع من نفسه. خروج المجتمع من ذاته الموروثة، وتكوين إرادة جديدة. نصنع المستقبل الثقافي لمجتمعاتنا العربية. من الرحابنة الى كركلا، وغيرهما، ظهرت عبقرية منغرزة في التراث الفولكلوري. مع “الميّاس” يظهر التراث عالمياً متفلّتاً من ذاته، مندمجاً بالعالمية. مستوى من الحرية (ليس فقط التحرر) لم تستطع الأنظمة ضبطه أو احتواءه. تحرر الجسد من كونه أداة للتسلية أو مجرد تلاعب بالمتعة، ليصير أداة لتعبير فني تحار فيه بين ما هو عربي وما هو عالمي.
هذه ثقافة التجاوز في مواجهة ثقافة التقوقع والتبرير والإستبداد. ثقافة الحرية في مواجهة التزمّت. التفلّت في مواجهة الانتظام القمعي. لكن في هذا الرقص أعلى قيمة جمالية، وأرفع قيمة أخلاقية، أشمل قيمة سياسية، مما في انتظام الاستبداد. فيه حرية تواجه الاستبداد. فيه بداية من حيث يجب أن نبدأ من جديد على طريق النهوض والنصر. مقاومة من نوع آخر تقود العالم ولا تجري وراءه. ليست بحاجة للتفاوض. بالثقافة بلغتها العربية، والغناء، وإبداعات الشعر والنحو والتفاسير والمعجميات، انتصرت العروبة على الرغم من الغزو الثقافي الذي أصابها. عندما بدأت الخلافة العباسية بالتفتت، التقلّص، حتى لم يبق منها إلا الرمز لسلطة سياسية لم تعد موجودة، بهذه الثقافة توسعت العروبة وضمت إليها شعوباً لم تكن من قبل عربية الأصل، بل صارت عربية باندماجها في الثقافة الغربية التي صار أقلية فيها هم الآتون من أصل عربي قح. العروبة ثقافة وليست أصلاً قومياً أو إثنياً.
“الميّاس” في القاموس أسد يتبختر. “ميّاسنا” مواطن يتجدد، يقول لأهل السلطة: آت يومكم الى نهاية. صوّت له مئات الآلاف، ولا نعرف العدد الدقيق. نعرف أن من صوّت له في الولايات المتحدة أكثر بكثير من الذين كان يمكن أن يصوتوا في لبنان. ونعرف أن في قلوب اللبنانيين أصوات تفوق كل ما لدى الطبقة السياسية في لبنان. فرقة “الميّاس” قالت كل ما كان كل لبناني يوَّد أن يقوله. ألم يقل الدوس هاكسلي في بداية القرن العشرين بأن الفن يجب أن يقول أو يعبّر عما يجول في خاطر شبان قاصرين عن القول نفسه؟
“الميّاس” قالوا بأجسادهم، وأحياناً بالكلام الصريح كل ما كنا نود قوله وإن بمستوى أعلى من الإفصاح والبلاغة الجسديتين. لا يهمنا من موّل الفرقة، مثلما لا يهمنا من موّل المتنبي والفرزدق وغيرهما. عمل فني بأعلى المستويات، ليس فقط لانضباط فرقة على أنغام الموسيقى، بل لأن الموسيقى ذاتها أذنت بانتهاء مرحلة وابتداء مرحلة جديدة. صعاليك العرب قبل الإسلام، الذين يقول المستشرقون ـ واعوذ بالله من إثم الاستشراق ـ هم الذين مهّدوا للروح الشعبية التي احتوت الإسلام، ومهّدوا الظروف الفكرية والذهنية وشككوا واستخفوا بالقديم من أجل قدوم الجديد. هذا ليس تشكيكاً بالرسالة السماوية. كل رسالة سماوية بحاجة الى روح ثقافية تحضّر لها كي تنتشر.
يبدو أن القلق باعث على الإبداع والعبقرية. وقد قال المتنبي:
على قَلَقٍ كأنّ الرّيحَ تَحْتِي/ أُوَجّهُها جَنُوباً أوْ شَمَالاً
هل هو القلق في غمار المصائب التي حلّت بنا، هو الذي سبّب إبداعات في الفن، كما في رياضة كرة السلة والتنس وغيرهما؟
انتصار “الميّاس” إعلان بأننا بدأنا ولوج طريق الخروج من زماننا. ذلك بالروح الجديدة التي عبرت عنها. روح جديدة لن يكون للمافيا الحاكمة مكان فيها. ومن حسن الحظ أن السلطة الرسمية لم تكن ممثلة في استقبال فرقة “الميّاس” في المطار حين الوصول. هو لبنان الجديد لا لبنانهم. هو عمل يُوحّد ولا يُقسّم.