بعد تحول معظم المستشفيات إلى “شركات” تشترط “الكاش” (بالدولار طبعاً) قبل إستقبال المرضى، ومع تفاقم فوضى بيع الدواء حيث بات سعر بعض ادوية الأمراض المزمنة يعادل راتب عامل وموظف، لم يعد لهؤلاء الناس من ملجأ سوى المراكز الصحية المنتشرة على الاراضي اللبنانية بمبادرات محلية او خارجية تسعى لتخفيف وطأة المعاناة عن كاهل هؤلاء وتعمل على تأمين الحاجات الصحية الاساسية، ولكن العديد من هذه المراكز اغلقت ابوابها امام المستفيدين، وهذا ما حصل مع المركز الصحي في منطقة العرقوب الذي يعكس واقعاً يتكرر في غير منطقة لبنانية خصوصا الريفية والنائية منها.
تضم منطقة العرقوب في جنوب لبنان مجموعة من القرى وهي شبعا، كفرشوبا، الهبارية، كفرحمام وراشيا الفخار، وتقع عند سفوح جبل الشيخ ولديها أهمية استراتيجية فهي تطلّ على الجليل الأعلى من فلسطين المحتلة إضافة إلى قربها من الجولان السوري المحتلّ، كما تشتهر بالمواشي وبزراعاتها التقليدية كالزيتون والعنب والكرز وصحاري القثاء والباذنجان. أغلب أهاليها تهجّروا منها بسبب الاحتلال الاسرائيلي الذي عاشته منذ العام 1978 حتى عام 2000 بالاضافة الى التهميش الرسمي الذي لحق بها بعد ذلك وخصوصا بعد حرب تموز 2006 حيث لم يتم تعويض الخسائر التي منيت بها.
يوجد في هذه المنطقة مشفيان أساسيان هما مستشفى حاصبيا ومستشفى مرجعيون والوصول إلى أي منهما يحتاج الى نصف ساعة من منطقة العرقوب، لذلك يعتمد قاطنوها على مراكز الرعاية الصحية الأولية في معظم البلدات القريبة والتي قام بتأسيسها اصحاب الأيادي البيضاء من جمعيات او أفراد بالتعاون مع وزارة الصحة حيث تقدم خدمات شبه مجانية تشمل العديد من المجالات الصحية والمخبرية فضلا عن تقديم الأدوية المزمنة.
يعتبر مركز الرعاية الصحية الأولية لمنطقة العرقوب – كفرحمام الأكثر استجابة من بين المراكز الأخرى نظرا لموقعه الجغرافي الذي يُسهّل وصول الناس اليه، ولكن هذا المركز واجه تحديات كبيرة وابرزها الأزمة الاقتصادية التي ساهمت بتوقفه عن العمل بسبب ارتفاع اسعار المواد الطبية بشكل جنوني وانقطاع العديد منها واحتكار القسم الأكبر.
تقول مديرة المركز السيدة فاديا ناصر إنّ المركز “تأسس في 21- 7- 2001 برعاية جمعية المقاصد واستمر بتلبية الحاجات الصحية بكل ما تشمله، لما يقارب ثمانية عشر عاماً حتى عجز عن متابعة مهامه بسبب الظروف الاقتصادية التي بدأت تعصف بلبنان وبسبب معايير الجودة التي تفرضها وزارة الصحة والتي تحتاج مبالغ كبيرة لإعادة تأهيله حتى اغلق المركز في صيف سنة 2019”.
بات من الملّح تعميم تجربة المركز الصحي في العرقوب وتجربة “مؤسسة عامل” المدنية على بلدات أخرى علّها تكون العصا التي يستندون عليها للوقوف مجدداً بعد ان تخلى عنهم من كان ينبغي أن يقفوا إلى جانبهم في هذه اللحظة الإجتماعية غير المسبوقة في التاريخ اللبناني، أقله منذ مائة سنة حتى يومنا هذا
بعد الفراغ الذي خلّفه اغلاق المركز واستياء المواطنين من عدم قدرتهم على الوصول الى الخدمات الصحية، اعتصم مقدمو الخدمات من أطباء وموظفين وأهالي البلدات المجاورة مطالبين بإعادة المركز الى العمل. في ذلك الحين، بادر العديد من الشخصيات في المنطقة إلى طرح فكرة المساعدة ولكن العائق المالي حال دون تنفيذ هذه المبادرات، إلى أن تبنى مفتي حاصبيا ومرجعيون القاضي حسن دلّي بالتعاون مع دار الفتوى إستعادة رخصة المركز من وزارة الصحة وفتح ابوابه بدعم من جمعية الشبان المسيحية التي قامت بتأمين الأدوية المزمنة واستمر المركز بالعمل حتى أيار/مايو 2021، ولكن من جديد كانت رخصة المركز مثار اشكال لما تحتاجه من معايير تتطلب أموالا طائلة لتطبيقها وفق معايير الجودة الصحية عالمياً.
بعد هذه الأزمة التي واجهها المركز الصحي، واصل المفتي جهوده للعمل على تأمين الادارة الصحية والدعم المالي فكان قرار الشراكة مع “مؤسسة عامل” التي تفترش مراكزها مختلف المناطق اللبنانية وانطلاقا من ايمان رئيسها الدكتور كامل مهنا بحق الرعاية الصحية لكل مواطن لبناني كانت حماسته البالغة للمساهمة ولو بحد أدنى يوفر حياة كريمة لأبناء منطقة العرقوب.
وبدعم من الشركاء المانحين واتحاد بلديات العرقوب والبلديات المحلية، بدأت “مؤسسة عامل” ورشة اعادة تأهيل المركز، حسب معايير الجودة العالمية في شهر حزيران/يونيو 2022، وتم إنجازها في وقت قياسي إلى أن صار المركز يوفر حالياً أفضل البرامج الصحية والاجتماعية لـ1200 مريض بشكل شهري من اللبنانيين والسوريين، بما في ذلك الاستشارات الطبية التخصصية، إضافة إلى توفير الأدوية الأساسية. كما ينفذ المركز برنامجاً لرعاية أصحاب الأمراض المزمنة من خلال الكشف المجاني وتوزيع الأدوية (السكري، الضغط، الخ)، إضافة إلى مختبر وقسم للأشعة تم تأهيله مؤخراً، هذا إلى جانب أنشطة برنامج مكافحة العنف القائم على النوع الاجتماعي، وقد أضحى هذا المركز جزءاً من شبكة مراكز الصحة الأولية التابعة لوزارة الصحة العامة اللبنانية.
تسدّ مراكز الرعاية الصحية الأولية عجز القطاع الرسمي عن تأمين المستشفيات في كافة المناطق اللبنانية ومع غلاء اسعار المحروقات وتعذّر المواصلات خارج نطاق البلدات لجأ أهالي كل بلدة الى المستوصفات حسب تعبيرهم المحلي، حيث يمكنهم الحصول على تغطية صحية للكثير من الحالات وبشكل شبه مجاني، وهذا ما يظهره ارتفاع اعداد المستفيدين اللبنانيين من هذه المراكز بسبب الأزمة الاقتصادية بعد ان كان أغلب روادها من اللاجئين السوريين في العقد الأخير.
بات من الملّح تعميم تجربة المركز الصحي في العرقوب وتجربة “مؤسسة عامل” المدنية على بلدات أخرى علّها تكون العصا التي يستندون عليها للوقوف مجدداً بعد ان تخلى عنهم من كان ينبغي أن يقفوا إلى جانبهم في هذه الفترة الإجتماعية غير المسبوقة في التاريخ اللبناني، أقله منذ مائة سنة حتى يومنا هذا. تجربة تشكل نموذجاً للتغيير الذي يبدأ من الإنسان وهدفه الإنسان، كما يُردّد دائماً الدكتور كامل مهنا.