“المفاوضات بين إيران والدول العظمى في ڤيينا تكشف توجهاً مثيراً للقلق: تبدو الولايات المتحدة كأنها تعمل انطلاقاً من إحساس بالإلحاح وموقف ضعف في المواجهة مع إيران بشأن برنامجها النووي الموسع وسياستها العدائية في شتى أنحاء المنطقة. هذه الدينامية تضع إسرائيل أمام مفترق طرق استراتيجي متشعب يمكن أن يؤدي إلى سياسة مواجهة مع إدارة بايدن، أو إلى تعميق التعاون الثناني معها من أجل محاولة التوصل إلى تفاهمات تضمن مصالحها الاستراتيجية وأمنها القومي.
عشية محادثات ڤيينا، لمّحت إدارة بايدن إلى أنها مستعدة للتراجع عن المبدأ الذي وجّهها حتى اليوم، وهو امتثال إيران الكامل والعودة إلى الاتفاق النووي كشرط لرفع العقوبات. في ضوء موقف طهران المتشدد بقيادة المرشد الأعلى خامنئي، الذي يصر على جدول أعمال معاكس، أي رفع كل العقوبات كشرط للامتثال، بلورت الإدارة الأميركية اقتراحاً يقضي بالعودة المتبادلة والتدريجية إلى الاتفاق. في إطاره توقف طهران في المرحلة الأولى تركيب أجهزة طرد مركزي جديدة وتخصيب اليورانيوم على درجة 20% في مقابل رفع جزء من العقوبات الأميركية بصورة تسمح لها بالوصول إلى أموال مجمدة تقدَّر بمليار دولار.
النظام الإيراني رفض الاقتراح قبل أن يقدًّم، وكرر في ڤيينا معارضته للعملية، ويهدد بمواصلة توسيع خروقاته للاتفاق النووي إذا لم تُستجب مطالبه. علاوة على ذلك، ترفض طهران أي محادثات مباشرة مع إدارة بايدن، التي تصر على إجراء مفاوضات معها وتنقل إليها رسائل من خلال وسطاء. التصريحات المتكررة للإدارة الأميركية بأن “الكرة في ملعب إيران” لا تبدو قوية، والظاهر أن الكرة تقفز في كل مرة مجدداً إلى الملعب الأميركي.
أيضاً في شتى أنحاء المنطقة تُظهر إدارة بايدن توجّهاً متردداً في مواجهة الخط العدواني لإيران ووكلائها. منذ استلام بايدن منصبه، إيران “صعدت درجة” في سياستها الهجومية كاشفة عن جرأة وثقة كبيرة بالنفس. يتجلى هذا التغيير في استمرار الهجمات من طرف وكلائها، ومن طرف الحرس الثوري ضد مجموعة أهداف وساحات: منشآت استراتيجية في السعودية، قواعد أميركية في العراق، وسفن إسرائيلية في الخليج، وأهداف في المجال السيبراني وغيرها.
في ضوء سعي الإدارة الأميركية لـ”إعادة إيران إلى الصندوق” والتفرغ لمسائل خارجية أكثر احتداماً، وعلى رأسها الصراع التاريخي، في نظرها، على الزعامة في مواجهة الصين، وعلى انتصار النظام الديمقراطي – يجب أن نهيئ أنفسنا لاحتمال أنها ستختار الاستمرار في “تخفيف” المطالب من إيران
لاحظت إدارة بايدن التغيير في السياسة الإيرانية واضطرت إلى تنفيذ هجوم ضد ميليشيات موالية لإيران على الحدود السورية – العراقية رداً على إطلاق صاروخ ضد قاعدة أميركية في الجيب الكردي في العراق. لقد أثبتت الإدارة أن استخدام القوة هو خيار موجود في صندوق أدواتها، لكن العملية التي قامت بها إدارة بايدن بدت أنها عملية تحدث مرة واحدة بعد أن امتنعت عن الرد على هجمات أُخرى ضد مصالح أميركية في المنطقة. كل ذلك على ما يبدو خوفاً من أن تؤدي عمليات الرد العسكري إلى الإضرار بمساعيها الدبلوماسية حيال إيران.
في ضوء سعي الإدارة الأميركية لـ”إعادة إيران إلى الصندوق” والتفرغ لمسائل خارجية أكثر احتداماً، وعلى رأسها الصراع التاريخي، في نظرها، على الزعامة في مواجهة الصين، وعلى انتصار النظام الديمقراطي – يجب أن نهيئ أنفسنا لاحتمال أنها ستختار الاستمرار في “تخفيف” المطالب من إيران. وذلك على خلفية صعوبة العودة إلى تشديد العقوبات للضغط عليها – عملية يمكن أن تبدو كعودة إلى سياسة ترامب التي نبذتها إدارة بايدن واعتبرتها غير ناجعة.
وسواء حدثت انعطافة في المفاوضات قبل الانتخابات الإيرانية في حزيران/ يونيو، أم استمرت المفاوضات بعدها، فإن التوجه الآخذ في الظهور يشكك في قدرة إدارة بايدن على تحقيق تصريحاتها التي قالت فيها إن العودة إلى الاتفاق النووي ستؤدي إلى “اتفاق قوي وطويل” أكثر مع إيران.
هذه التوجهات وما يبدو مصلحةً مشتركة للرئيس بايدن وللمرشد الأعلى خامنئي، كلّ من وجهة نظره، تضع إسرائيل أمام معضلة استراتيجية تفرض عليها الاختيار بين خيارين:
الخيار أ– الوقوف بصراحة ضد الإدارة الأميركية ومحاولة ثنيها عن العودة إلى الاتفاق النووي ورفع العقوبات. لأن انتهاء القيود، التي يفرضها الاتفاق بعد مرور عدد من السنوات، سيمهد الطريق أمام إيران كي تصبح دولة على حافة النووي وتتمتع بشرعية دولية كاملة، وسيتيح لها القيام بالبحث والتطوير اللذين يمنحانها حداً أدنى من الوقت للحصول على مواد مخصبة لصنع قنبلة، ولن يمنح الوكالة الدولية للطاقة النووية صلاحيات الرقابة على البرنامج النووي الإيراني.
علاوة على ذلك، المواجهة مع إدارة بايدن بشأن المسألة الإيرانية من المتوقع أن تنعكس سلباً على مجمل العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة، وأن تقوض الموقف الأميركي الداعم لإسرائيل في مواجهة تهديدات واسعة، مثل التحقيقات في محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، والتطورات في المنظومة الفلسطينية، والمحافظة على تفوق إسرائيل النوعي، وخطة الجيش الإسرائيلي لزيادة قوته في المدى البعيد بمواجهة تهديدات عسكرية متطورة، وتوسيع دائرة التطبيع وغيرها.
الخيار ب– السعي للوصول مع الإدارة الأميركية إلى تفاهمات ثنائية صامتة، تستند إلى تعهدات معلنة وقاطعة بأمن إسرائيل القومي، وإلى اتفاق الدولتين على منع حصول إيران على سلاح نووي بأي طريقة، وتعتمد على قنوات تعاون بين الدولتين في المجالات السياسية والاستخباراتية والعملانية والعسكرية.
تجدر الإشارة أيضاً إلى أن خياراً عسكرياً إسرائيلياً في التوقيت الحالي يبدو غير ناجع، وذلك بسبب ضرورة تنسيقه مع الولايات المتحدة، وفي الأساس في ضوء حقيقة أن العودة إلى الاتفاق النووي ستُبقي البرنامج النووي الإيراني على مسافة معقولة من القفز إلى سلاح نووي
حتى الآن لم تجر إسرائيل مشاورات منهجية بين أجهزتها لبلورة سياستها في هذه المسألة – التي تُعتبر شأناً استراتيجياً من الدرجة الأولى. على الرغم من ذلك، يبدو أنها اختارت المواجهة إذا كانت فعلاً هي مَن يقف وراء العمليات المنسوبة إليها ضد إيران، بينما تجري الدول العظمى مفاوضات معها في ڤيينا. على أي حال رئيس الحكومة يصرح بأن الاتفاق مع إيران لا يُلزم إسرائيل، وهو يلمّح إلى إعداد الخيار العسكري لإحباط البرنامج النووي الإيراني.
خيار إسرائيل الذهاب إلى مواجهة مع إدارة بايدن يمكن أن يتضح كأنه تكرار للأخطاء التي حدثت مع الرئيس باراك أوباما، الذي لم تمنع المواجهة معه توقيع الاتفاق النووي مع إيران في سنة 2015. في ضوء الإجماع الدولي الذي يبرز اليوم بوضوح في محادثات ڤيينا بشأن الحاجة إلى العودة إلى الاتفاق النووي، يمكن لسياسة المواجهة والتلميحات العسكرية أن تضع إسرائيل في عزلة وتحول التهديد النووي الإيراني إلى “مشكلة إسرائيلية” بدلاً من أن يكون تحدياً عالمياً.
من جهة أُخرى، سياسة تسعى لتفاهمات ثنائية مع الإدارة الأميركية يمكن أن تضعف الضغط عليها لانتهاج سياسة صارمة في مواجهة إيران، ويمكن أن تنطوي على فرض قيود معينة على حرية تحرك إسرائيل ضد البرنامج النووي الإيراني. مع ذلك من المحتمل أن تغير الإدارة بصورة جوهرية سياستها وسلوكها في المسألة الإيرانية، نتيجة ضغط إسرائيلي علني. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن خياراً عسكرياً إسرائيلياً في التوقيت الحالي يبدو غير ناجع، وذلك بسبب ضرورة تنسيقه مع الولايات المتحدة، وفي الأساس في ضوء حقيقة أن العودة إلى الاتفاق النووي ستُبقي البرنامج النووي الإيراني على مسافة معقولة من القفز إلى سلاح نووي في السنوات القادمة.
يبدو في الوضع الحالي للأمور أن السعي لحوار صامت وعميق لبلورة تفاهمات ثنائية مع إدارة بايدن يخدم مصلحة إسرائيل بصورة أفضل. مع ذلك، ليس واضحاً ما إذا كانت ظروف الأزمة والشلل السياسي غير المسبوق سيجعلان دولة إسرائيل قادرة على تحريك العملية التشاورية المطلوبة لبلورة سياسة حوار مثمرة مع الولايات المتحدة.
الحوار مع الإدارة الأميركية يجب أن يتركز على المضامين والأهداف التالية: سبل التوصل إلى اتفاق قوي وطويل مع إيران والخطوات التي يجب أن تُتخذ في حال لم يتم التوصل إلى مثل هذا الاتفاق؛ مراقبة البرنامج النووي الإيراني للتأكد من أنها لا تقفز، أو “تتسلل”، إلى سلاح نووي؛ كشف مسبق عن هذه العمليات وتعهدات بإحباطها في الوقت المناسب؛ المحافظة على تهديد عسكري موثوق به إزاء النظام في طهران؛ الفصل بين المسألة النووية وبين الحاجة إلى لجم تمدُّد وتمركز إيران ووكلائها في أنحاء الشرق الأوسط؛ النواحي التي تتعلق ببناء القوة وتعاظمها وغيرها”.
(*) المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية