“الأكرنة” بشرق أوروبا: بروباجندا، زينوفوبيا أم كارما؟

عند قراءة مصطلح "أكرنة" (Ukrainization)، قد يُفهم منه للوهلة الأولى، تكرار استخدام دول على حدود روسيا الغربية بذات طريقة استخدام أوكرانيا بغرض وكز الدب الروسي. بينما الحقيقة بعيدة عن ذلك المعنى، وتحمل تعقيدات وتشابكات تستحق التدقيق من كل متابع للشئون الدولية، كمشهد من الصورة الأكبر للمواجهة الأزلية، بين أمريكا/أوروبا من جانب، وروسيا بأطوارها المختلفة عبر التاريخ في الجانب المواجه.

المعنى الأصلي لمصطلح Ukrainization، نبع من سياسات سوفيتية وضعت لتسكين ودمج مجموعات عرقية كانت تعيش على تخوم الاتحاد السوفييتي الغربية – أي أرض أوكرانيا – عبر وسيلتين، هما التهجير والاستيعاب. استمرار هذه السياسات داخلياً في أوكرانيا بعد انفصالها عن الاتحاد السوفييتي، التي مارستها سلطاتها تجاه الأقليات العرقية، هو الذي استفز دول مجاورة تنتمي إليها هذه الأقليات، على رأسها روسيا ذاتها. تم اتهام أوكرانيا بفرض “الأكرنة” على هذه الأقليات التي تنتمي عرقياً إلى دول وشعوب مجاورة.

فأوكرانيا يسكنها مزيج سكاني من الأعراق، كالروس الموزعين في مناطق متفرقة، لكن أغلبهم في شرق البلاد، خاصة في إقليم الدونباس، وفي معظم مساحة جزيرة القرم بصحبة تجمعات من العرق التتري. هذا بالإضافة إلى أعراق أخرى على رأسها الرومانيون، المولدوفيون، البلغار، المجريون وغيرهم.

هذا التنوع في البروفايل العرقي لأي دولة، قد يكون سر قوتها، إذا ما نجحت سياسات الاستيعاب المبنية على المساواة، أو تكون نقطة ضعفها كما في حالة أوكرانيا، إذا ما تفشت بها نعرة إلغاء هوية الغير، وصهرها بالقوة في بوتقة وطنية واحدة. زدْ على هذا المزيج السام، عدم المساواة، وكذلك الاضطهاد، التخوين والاعتداء، خاصة حينما يأتي الأمر للأقلية الروسية (حوالي 17% من السكان)، فتحصل على دولة عرضة للتفكك والفشل عند أول مواجهة مع غريم قادر على توسعة هذه الشروخ، واقتطاع أجزاء من خريطة البلاد. وهذا هو بالضبط ما تفعله روسيا، لأن أوكرانيا اختارت أن تكون تعدديتها الإثنية نقطة ضعف وليس قوة، فأصبحت “الأكرنة” هي كعب أخيل هذه الدولة التي تتسع تشققاتها شيئاً فشيئاً، مهما عاندت هي أو ساندت أمريكا عنادها. التشقق أصبح واقعاً لا ينكره إلا من يريد أن ينظر فقط بمنظار أمريكي غربي صلف.

أوروبا لم تحتج تاريخياً، كما هي لا تحتاج الآن لمساعدة من بروباجندا روسية، لتظهر وجوهها العنصرية القبيحة، ولا مطامعها المتشابكة، حتى في ما بين دولها. وأي شهود على ذلك، أكثر من حربين عالميتين نبعتا من أوروبا يا عزيزي؟

إدانة “الأكرنة” بهذا المفهوم أمر غير قابل للجدل. هي سياسة كريهة وليست مشروعاً قومياً أوكرانياً. وهذه السياسات تمارس في الداخل الأوكراني ليس بأيدي السلطات الرسمية فقط، بل بأيدي وفكر ميليشيات مسلحة، تتبنى ايديولوجيات نازية متعصبة، تدعي البطولة وخطاب الاستشهاد الآن، في مواجهة روسيا، دفاعاً عن أهل عرقها الذين تعرضوا للاضطهاد، التخوين والاعتداء بالفعل.

الأهم في الأمر، هو إدانة “الأكرنة” ليس داخل أوكرانيا فقط، بل يظهر تشابك المفهوم حين نبدأ في رصد ردود فعل دول مجاورة، لجأ إليها الأوكرانيون خوفاً على حياتهم، خاصة منذ فبراير/شباط 2022. هؤلاء اللاجئون لاقوا ذات التوجه الكريه، مع صعود نعرات وتيارات يمينية متطرفة، استفزتها هجرة أعراق أخرى، وإن كانت أوروبية، إلا أن هؤلاء اللاجئين المساكين، يحصدون الآن في عديد الدول، ما زرعته أيدي سلطة بلادهم من نعرات قومية/عرقية، وتطرف فكري يميني/عنصري. فهل أن فوبيا “الأكرنة” التي أصابت الكثيرين في بضع دول بشرق أوروبا، يمكن أن تعد “كارما” سيئة؟

يرفض كل متحيز للمعسكر الغربي هذه التساؤلات المستفزة، ويرجع سبب نشوء هذه النعرات العرقية الكارهة للأجانب – وإن كانوا أوروبيين بيض – إلى البروباجندا وأساليب التأثير الروسية في وسائط الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي. وهو طرح غريب وغير مقنع.

روسيا ليست دولة نموذجية، ولا هي ملائكية، لكنك إن اخترت أن تحصر أسباب ما تتعرض له أوكرانيا، بالباقين فيها أو اللاجئين إلى الجوار الأوروبي، إلى البروباجندا الروسية فقط، فقد اخترت الابتعاد عن الحقيقة، وتجاهل دقائق الأمور. والقادم من السطور ما هو إلا محاولة متواضعة لطرح بعض النماذج التي قد تساعد على تقدير مدى تشابك الأمور، فهي جد معقدة، ولا يكفيها مقال واحد.

لفهم أبعاد مصطلح “أكرنة” دولة ما بمفهومه الأوسع، سنذهب لزيارات خاطفة إلى بضع بلدان أوروبية شرقية. فبينما يسود في المجر قلق سياسي واضح، يعبر عنه لسان رئيس وزرائها فيكتور أوربان أمام مؤيدي حزبه، الاتحاد المدني المجري Fidesz. يكفي لضيق المساحة نقل اقتباس واحد من خطاب ألقاه أوربان، يظهر فيه تأثير المد اليميني/العنصري السياسي في شرق أوروبا، وموقفه من هجرات اللاجئين عامة، و”الأكرنة” بشكل خفي:

“في الحوض الكاراباثي، نحن لسنا مخلوطين عرقياً، نحن ببساطة، مزيج من البشر، نعيش على أراضينا الأوروبية. هذه الناس تمتزج في ما بينها، في نوع من الصلصة الهنجارية-البانونية، مكونين ثقافتهم الأوروبية الخاصة. نحن مستعدون للتمازج مع بعضنا البعض، لكننا لا نريد أن نتحول إلى بشر ذوي عرق مختلط”!

وبرغم العنصرية البادية من كلمات أوربان، والعداء لفكرة قدوم مهاجرين غير أوروبيين واختلاطهم بالأعراق الأوروبية، وترحيبه في المقابل باختلاط واندماج الأعراق الأوروبية “البيضاء المسيحية”، إلا أنك تكاد تسمع شعار “أنا مجري” يزعق في أذنيك مع كل جملة تخرج من فم هذا الرجل. فهو يرحب ظاهريا بتكوين خليط عرقي أوروبي متفاعل ومتعايش، لكنه بالطبع لا يرحب بتسيد فكرة فرض هوية موحدة كما في حالة “الأكرنة”، بل كما وصف هو “تمازج الناس مع بعضهم البعض، في صلصة هنجارية-بانونية”! لاحظ تصدر كلمة هنجارية للمصطلح.

إقرأ على موقع 180  جورج قرم.. شعلةٌ لا يُطفِئها الزمن

هذا الترحاب المجري بالأوروبي (الأبيض المسيحي)، هل منع المجر من التفكير في الاستفادة من تفكك أوكرانيا الجاري في شرق الدنيبر وحزام مطلها البحري الجنوبي، لاسترجاع منطقة ترانسكاراباثيا، التي تنقلت في أوائل القرن العشرين بين أوكرانيا، رومانيا، المجر، ثم اقتطعت من المجر لصالح تشيكوسلوفاكيا، ثم مع حلول عام 1945، تنازلت عنها تشيكوسلوفاكيا لأوكرانيا مرة أخرى، ولا زالت أعين الدولة المجرية عليها على ما يبدو حتى بعد مرور 77 عاماُ من “أكرنتها”. وهذه المنطقة هي التي تسمى الآن أوبلاست “زاكارباتيا” في غرب أوكرانيا.

ثم ماذا لو كان بين اللاجئين الأوكرانيين من ينتمون عرقيا لرومانيا أو مولدوفا أو بولندا، أو من يدينون باليهودية أو الإسلام؟ هل تعتقدون أن تستمر نبرة الترحاب ساعتها؟

أين ذهبت الصلصة الهنجارية فجأة؟ وكيف يرجع البعض هذا التعقد في المواقف، والزينوفوبيا الأوروبية، إلى مجرد بروباجندا روسية، عن أي بروباجندا تتحدثون؟!

عندما ننتقل إلى بولندا، نجد المخاوف أقل واقعية. فالقلق الرئيسي الرابض تحت السطح في بولندا، هو التكهن باحتمالية اتحاد أوكرانيا وبولندا في كيان دولة موحدة، تنصهر بها الهوية البولندية وتصاب بـ”الأكرنة”. نعم، يبدو الأمر كنظرية مؤامرة، لكن هذه الحوارات تدور بالفعل بين أعداد كبيرة من مواطني بولندا، ويتم رصدها من مراكز بحثية عديدة. كما أن التاريخ المتداخل بين بولندا وأوكرانيا إن تجاهلته كله، فلن تحتاج لغير البحث وراء اسم شخص واحد هو ستيبان بانديرا، الرجل الذي يرمز إلى السلوك القومي الأوكراني المتطرف بأسوأ صوره!

أما رومانيا، فهي من جهة تبدي قلقاً من تمرد الأقلية المجرية داخل حدودها، على طريقة تمرد سكان الدونباس الروس على أوكرانيا. ومن جهة أخرى تقلقها ظاهرة زيادة هجرة اللاجئين الأوكرانيين إليها، بما فيهم من هم من أصل هنجاري، الأمر الذي قد يُعزز هذا التوجه الانفصالي للعرق المجري من وجهة نظر الدولة الرومانية العميقة.

وما يزيد مخاوف الرومانيين، برغم عدم تبني تياراتهم السياسية لها، بما في ذلك اليمين المتطرف، عدم بروز توجهات معادية أو رافضة لوجود الأوكرانيين بها أو مرورهم عبر أراضيهم، إلا أنها تعبر عن رفضها أولاً لـ”أكرنة” ذوي الأصول الرومانية بالداخل الأوكراني وتتخوف بالمقابل من تحركات نظام أوربان بالمجر، وتتهمه بوخارست بأنه يقوم بتسليح ميليشيات من أصل مجري في ترانسلفانيا، ليزيد بذلك من مخاوف الدولة الرومانية من حركات التمرد الهنجارية ومحاولة الاستقلال بالإقليم. لذا، تزيد هجرة الأوكرانيين إلى رومانيا من حدة هذه المخاوف.

كان هذا عرضا مقتضباً لبضعة نماذج؛ لمواقف ومخاوف أوروبية شرقية من مفهوم “الأكرنة”، ونحن لم نزر إلا ثلاث دول، ولم نزر إطلاقاً تعقدات أعمق في غرب القارة العجوز.

أما رومانيا، فهي من جهة تبدي قلقاً من تمرد الأقلية المجرية داخل حدودها، على طريقة تمرد سكان الدونباس الروس على أوكرانيا. ومن جهة أخرى تقلقها ظاهرة زيادة هجرة اللاجئين الأوكرانيين إليها، بما فيهم من هم من أصل هنجاري، الأمر الذي قد يُعزز هذا التوجه الانفصالي للعرق المجري من وجهة نظر الدولة الرومانية العميقة

فهل ما يتم رصده مجرد وهم؟ وما يقوله جو بايدن وشركاه هو الحقيقة؟

هل هناك بروباجندا روسية تمارس بالفعل؟ الإجابة بالطبع ستكون نعم.

هل تفضل روسيا تسيد اليمين المتطرف في أرجاء أوروبا، برغم إزعاجه لها في أوكرانيا؟ الإجابة أعقد، لكنها على الأغلب ستبقى نعم.

هل أرادت روسيا للمعادلات أن تتشابك وتتعقد إلى هذا الحد؟ الإجابة نعم ولم لا، فأوروبا تنكشف أمام نفسها على جميع الأصعدة، وحتى حين تبتاع الغاز الأمريكي، أنظر كم تدفع؟

هل المخاوف الأوروبية من “الأكرنة”، هي مجرد بروباجندا روسية؟ الإجابة: بالطبع لا.

فأوروبا لم تحتج تاريخياً، كما هي لا تحتاج الآن لمساعدة من بروباجندا روسية، لتظهر وجوهها العنصرية القبيحة، ولا مطامعها المتشابكة، حتى في ما بين دولها. وأي شهود على ذلك، أكثر من حربين عالميتين نبعتا من أوروبا يا عزيزي؟

لتقل أمريكا ما تشاء، وتحاول الاستفادة وفرض السيطرة، لتخطط وتربك المعادلات أكثر فأكثر، فلتعاقب روسيا وتهددها، ولتحاول تحجيمها قدر ما استطاعت، لكن هذه البروباجندا الروسية التي ينسب إليها كل شيء، كما أنها ليست السبب في تشابك الأمور بأوروبا، هي أيضاً لم تكن السبب الرئيسي، للحالة السياسية/الديموقراطية الرثة التي يجد المواطن الأمريكي نفسه بها الآن، ممسكاً في كل مناسبة انتخابية بورقة اقتراع بها خياران، أحلاهما مر، أو كما يقولون، علينا أن نختار أقل أو أهون الشرين “The lesser of two evils”، بينما على الجانب الآخر من العالم، وجد أهل لوجانسك ودونتسك منذ سنوات، والآن أهل زابوريجيا وخيرسون، ورقة استفتاء بين أيديهم ليختاروا الانتماء لأي الدولتين، روسيا أم أوكرانيا، ويبدو أن اختيارهم يشير إلى أن المذاق المر، هو الانتماء الأوكراني، فانضموا إلى روسيا. حتى إن رأيت روسيا شراً، فربما اختاروا هم أيضاً “The lesser of two evils”، ورفضوا “الأكرنة”!

هذه ليست محض بروباجندا روسية. هذا هو الواقع يتحدث إلينا جميعاً.

Print Friendly, PDF & Email
تامر منصور

مصمم وكاتب مصري

Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  "فاغنر" بعد بريغوجين.. مصير غامض وأسئلة صعبة