اليسار العربي الواطىء.. ونقيضه المُطارَد!

تُمارس قطاعات واسعة من اليسار السياسة كفلول مهزومة غير قادرة على إعادة التجميع والانطلاق في واقع تُمسك بخناقه الامبريالية وجيوشها الأيديولوجية، التنويعات المختلفة على خط اليمين الليبرالي والأصولي، فيما يلعب اليسار لعبة السنيد ـ الدور الثانوي ـ لهذا الخطاب الأيديولوجي أو ذاك.

إننا نتحدث هنا عن قطاعات يسارية التحقت بالكامل – التحاقاً تتوهم ممارسته من مواقع اليسار – بقوى أقل ما يقال عنها أنها تمارس السياسة لمصلحة قوى طبقية غير شعبية. يلعب اليسار دور المحلل. يقدم قاموسه لخدمة بروباجندا قوى هي في تناقض ثانوي – إن جازت التسمية – مع قطاعات استعمارية هي بدورها في صراع مع قوى أخرى تسعى – وإن بشكل غير عدواني – لتأمين نصيب في كعكة العالم.

إن اليسار العربي لم ينهزم بانهيار الاتحاد السوفييتي. تبدو الهزيمة أقدم من ذلك. حين صارت ممارسته السياسية على المستوى التكتيكي والاستراتيجي مربوطة بسقف البرجوازيات العربية الواطئ. صار اليسار يتحدد في الحقل السياسي بما تستطيع تلك البرجوازية إنجازه على طريق التحرر من استعمار لم يحدد ملامحها فقط بنشأتها في أحضانه، بل حتى بشكل صراعها المخصي معه؛ هذا الصراع الذي كان في أغلب الأحوال يتخذ شكل صراع بين الأب والابن العاق الذي يقيس صراخه في وجه أبيه بميزان حساس كي لا ينقطع حبل النسب.

ألحق اليسار نفسه بالبرجوازية وبرامجها؛ برامجها المحدودة بالطبع؛ فظلت برامج قطاعات هامة من الشيوعيين العرب تتحدث عن ثورة وطنية برجوازية ديمقراطية؛ مفهوم ضبابي شاع أنه يعني إقامة جمهورية برلمانية، أو تحرير قوى السوق المحلي وطرد الاستعمار. إنه البرنامج الضبابي للوفد المصري الذي ظلت حدتو – كورييل وأصدقاؤه – تسعى للالتحاق به بأمل دفعه وتثويره إلى خوض صراع مسلح ضد الإنجليز.

ثورة وطنية برجوازية ديمقراطية بقيادة برجوازية المستعمرات التي نشأت في حِجر المستعمر وأصبح ما يربطها به أكبر مما يربطها بجماهير شعبها، أي أصبح عداءها للحركة الشعبية هو المحرك الرئيسي لسلوكها السياسي. لقد كان وصول حزب الوفد إلى الحكم على دبابات الإنجليز، وتواطؤ إسماعيل صدقي مع المستر ارنست بيفن أكثر أمناً من إطلاق الكفاح الشعبي ضد الإنجليز. كان فتح كوبري عباس على الطلاب يوم 21 فبراير/شباط 1946 أكثر سهولة من فتح النار على الاستعمار الإنجليزي ولي النعمة.

اليوم نرى أن بوتين صار لينين روسيا الجديد، وأن شي جين بينج هو امتداد ما لماو تسي تونج. هذا اليسار الذي يحنُّ إلى أي ملمح من ملامح دولة القوة، اليسار الذي استبدل التحليل الطبقي بالنظر في الصراعات بين الكتل، بصرف النظر عن جذورها الطبقية. إن هؤلاء الذين خانوا الماركسية، والذين لم يعترفوا بها قط، يجتمعون اليوم على رؤية العالم في سكونه لا في حركته

في عهد الاستعمار، كما في عهد ثورات التحرر الوطني، كان الشعار هو التسليم بقيادة البرجوازية للكفاح الوطني، ومن شعار “الجبهة المتحدة”، إلى أكذوبة التطور اللارأسمالي، أنتج منظرو الاتحاد السوفييتي ترسانة مكتملة من الشعارات تخدم انكفاء اليسار تحت أقدام قوى طبقية معادية للديمقراطية، قادت تصفية القضية الوطنية وفشلت في صون الاستقلال الذي تحقق بدماء الجماهير. هذا الانكفاء الذي سوف نتحدث عن أسبابه في ما بعد، صار ممارسة راسخة، من الجبهة الوطنية التقدمية في سوريا والعراق، إلى الاتحاد الاشتراكي كمنظمة وحيدة لقوى الشعب العامل في مصر، إلى كافة أشكال الانبطاح التصفوي التي مورست على الورق وفي ذهنية اليسار، أما على الأرض، فقد كان اليسار مطارداً أينما كان وجوده مؤرقاً.

لم يمارس اليسار أي نقد ذاتي بعد كل ما تعرض له من مذابح، وبعد ما أفضت إليه تلك الممارسة اللامبدئية للسياسة؛ الممارسة اللاماركسية لقضايا الوحدة والصراع والفشل البنيوي في تحديد المهام التاريخية بدقة نتيجة الفشل في تحديد طبيعة الصراع في البلدان المعنية والقوى المعنية بخوض هذا الصراع. نقول إن التحاق اليسار بالقوى التي تبدو أقرب إلى الشيطان منها إلى الجماهير التي يتوجه إليها خطاب اليسار صار سمة تاريخية.

إن هذه القطاعات المهزومة من اليسار، أسقطت الماركسية لمصلحة منهجية تمارس السياسة بمثل الروح التي مارسها بها جمال عبد الناصر في 16 عاماً من حكمه، البراجماتية، اللامنهج، التخبيص الأيديولوجي الذي قاد إلى كارثة في نهاية المطاف.

اليوم نرى أن فلاديمير بوتين صار فلاديمير إيليتش لينين روسيا الجديد، وأن شي جين بينج هو امتداد ما لماو تسي تونج. هذا اليسار الذي يحنُّ إلى أي ملمح من ملامح دولة القوة، اليسار الذي استبدل التحليل الطبقي بالنظر في الصراعات بين الكتل، بصرف النظر عن جذورها الطبقية. إن هؤلاء الذين خانوا الماركسية، والذين لم يعترفوا بها قط، يجتمعون اليوم على رؤية العالم في سكونه لا في حركته. إنهم هؤلاء الذين تُمسك بهم اللحظة التي سوف تتفسخ لتفصح عن الوحش الكامن بداخلها. إن هؤلاء الذين رأوا في صرح الناصرية أبداً لا ينتهي، مزقت الهزيمة بنيان كذبتهم. إنهم يطالبوننا اليوم بالسير كالجثث في مواكب التهليل.

ما هي إذن المقولات النظرية التي انتهكوها في دعاياتهم ليمين يصارع يميناً، في سباق على الموارد والنفوذ؟

التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي؛ وحدة الخندق ضد العدو المشترك! هذا الاستخدام الديماجوجي للشعارات يفرغها من محتواها الثوري، لمصلحة السياسة الوقتية، فتحديد التناقض الرئيسي والثانوي يستلزم تحديد مستوى عمل التناقض، تحديد جوهره، أهو تناقض بين أنماط إنتاج وبالتالي بين طبقات ومصالح طبقية، أم أنه تناقض على المستوى الثقافي المحض؟ أم أن التناقض يكمن خارج هذين المستويين؟

إقرأ على موقع 180  المقاومة الفلسطينية تتجرأ.. وأميركا "تؤدب" العالم على أرض غزة (4/4)

ما نراه هو تحديد للتناقض بناءً على موقف، هو رهن التغير، وممارسته مرهونة بمتغيرات عديدة. إن هذا لا يُعدُّ إلا استمراراً للامبدئية السياسة.

هل تعني “وحدة الخندق”، وحدة اللغة؟ ألا يخبرنا التاريخ أننا لا نتعلم من التاريخ طالما أننا نمارس السياسة بالقطعة؟ طالما أنه ليس لدينا منهجاً راسخاً لتحليل الظواهر؟

إن شعار “وحدة الخندق” الذي لطالما رفعه اليسار، لطالما خانته القوى المفترض بتواجدها في الخندق نفسه، ففي إطار “وحدة الخندق”، تم ذبح “جمول” (جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الإحتلال الإسرائيلي)، وخنق تسليح القوى الوطنية اللبنانية من قبل “الحليف” السوري الذي استدار ضد حلفائه المفترضين مرة في “حرب السنتين” (1975 ـ 1976) التي تكلّلت بمذبحة تل الزعتر وتحجيم سلاح القوى الوطنية والثورة الفلسطينية لمصلحة ما يُسمى “اليمين الانعزالي”؛ والثانية، بترفيع القوى الحليفة للنظام السوري والدفع بها في “حرب المخيمات” ضد منظمة التحرير الفلسطينية. إن “وحدة الخندق” تبدو اليوم شعاراً سلساً لأن اليسار بلا أنياب، وفلوله تمارس الدعارة في أقبية الأنظمة.

هنا نعود لمفهوم الوحدة والصراع. إننا لا ننظر للأمر من زاوية المشتركات فقط، بل والأهم، لكي يعود لليسار موقعه، فإن التناقضات يجب أن تتموضع في قلب مقاربة اليسار لأي ظاهرة، لأنه من خلال تحديد تناقضاتنا الرئيسية مع القوى المختلفة، يتحدد موقفنا، وموقعنا الذي به تحدد الجماهير مواقفها.

لم يعد ممكناً أن يلتحق اليسار؛ أن يتذيل؛ أن يُقدّم تفويضاً على بياض لأي كان. في كل الظروف لا يمكن إسقاط هذا المبدأ. لقد حصل عبد الناصر على تفويض اليسار، وحصل الملالي في إيران ولبنان على تفويض قطاعات من اليسار، برغم التناقض الجذري بين طبيعة المشروعين، المشروع الوطني ذي القاعدة الشعبية الواسعة التي امتدت عبر الطوائف؛ والمشروع الطائفي الذي فشل في إيجاد موطئ قدم خارج القواعد الشيعية. إننا بصدد مشروعين حازا على تفويض يساري واسع، نعرف كيف انتهى المشروع الأول، ولا يمكننا أن نتجاهل كيف سينتهي المشروع الثاني، لأن غض النظر عن التناقض لا يعني غيابه؛ التناقض يفعل فعله بصرف النظر عن إدراكنا له من عدمه.

ماذا عن “السقف الواطئ”؟

السقف الواطئ هو نظرية الحد الأدنى المتاح في ظل الظرف المحلي والإقليمي والدولي، لا يمكننا شن الهجوم من أجل السلطة الاشتراكية في بلد فلاحي – دحضهم ماو. لا يمكننا شن الحرب الشعبية على الاستعمار في ظل ميزان القوي الدولي – دحضهم نموذج فيتنام. إن تلك النماذج إنما تفضح الميل للمهادنة، التصالح الطبقي والتصفية. وهي نماذج تعيد تجديد نفسها بأشكال مختلفة لتبرير الانبطاح.

يجب أن نطرح الديمقراطية بإلحاح؛ الديمقراطية من حيث هي قضية لمن السيادة الطبقية. نعم، يجب أن تصبح الديمقراطية كالخبز على طاولة الجماهير وجزء من ثرثرتهم اليومية في المقاهي

ماذا عن الديمقراطية؟

يبدو الحديث عن الديمقراطية في عالم اليوم مشبوهاً، قميص عثمان الذي تريد به الامبريالية ضرب التجارب المعادية لها؛ حصان طروادة الذي تنفذ به الامبريالية عبر البُنى الحصينة للأنظمة فتهدمها من الداخل، فالجماهير الجائعة التي تغض النظر عن الجوع، تتحرك بعنف كالثور في مواجهة رداء الديمقراطية الأحمر في حلبة إسبانية.

من الواضح أن أصحاب هذا الطرح قد وضعوا أنفسهم في خدمة الامبريالية بلا مواربة، لأنهم ببساطة وبشكل مباشر يعززون المفهوم البرجوازي للديمقراطية؛ المفهوم الذي لا يمكن دحضه برفض الديمقراطية إطلاقاً، بل بتقديم البديل الديمقراطي الشعبي، فالجماهير لا تدرك عن الديمقراطية شيئاً سوى الصوت في الصندوق كوجه مزيف لجوهر ديكتاتوري برجوازي يدرك جيداً أن الديمقراطية والديكتاتورية هما مفاهيم طبقية تماماً. لذا فإن تجريس كل ديمقراطية، باعتبارها عزفاً على ذات الموال الديمقراطي البرجوازي هو خيانة لحق الجماهير في ديمقراطية شعبية هي أيضاً ديكتاتوريتها على أعدائها، إن نظرة أحادية البعد للديمقراطية، هي ما تريده البرجوازية، فإما ديمقراطية الصندوق وإما لا ديمقراطية.

إن معاداة الديمقراطية ودعاتها، دون النظر في الجوهر الطبقي للدعاية الديمقراطية هو كل ما تريده الأنظمة التي احتكرت الحديث باسم الوطن والأمة والطبقة، وهو أيضاً ما تريده الامبريالية لأنها تدرك خوار كل الأنظمة الطرفية المبنية على مصادرة الحق الجماهيري الديمقراطي، ولأن مصادرة هذا الحق الديمقراطي الجماهيري هو الدعامة الأساسية والضامن الوحيد لأمن الاحتكارات الامبريالية علي مستوى المركز والأطراف وإن اختلفت أشكال ممارسة هذه الاحتكارات لهيمنتها.

يجب أن نطرح الديمقراطية بإلحاح؛ الديمقراطية من حيث هي قضية لمن السيادة الطبقية. نعم، يجب أن تصبح الديمقراطية كالخبز على طاولة الجماهير وجزء من ثرثرتهم اليومية في المقاهي. يجب أن يدرك الوعي الشعبي الأبعاد الحقيقية للطرح الديمقراطي الامبريالي ونموذجه الشعبي النقيض.

Print Friendly, PDF & Email
راجي مهدي

كاتب مصري

Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  أردوغان يحارب ماكرون في عقر داره الأوروبي