لو أردنا التدقيق في أسباب هذا التركيز الشعبي والإعلامي على هذه المجموعة نجدها متعددة. منها ما يتعلق بالحملات التي أطلقتها ماكينات الأحزاب التقليدية لتجريد خصومها غير الحزبيين من مشروعيتهم وضرب مصداقيتهم بالإضافة إلى شح الموارد لدى أغلب “التغييريين” ما منعهم من التنعم ببنية تحتية إعلامية (مستشارون إعلاميون، شبكة علاقات..). إلا أن المُسبّب الأول لتلك الحملات يتمثل بالوعود الخرافية التي أطلقها بعض “التغييريين” قبل الإنتخابات النيابية وخلالها وبعدها، مما رفع توقعات الرأي العام إلى حد غير واقعي.
بهذا المعنى، بدأت رحلة حفر قبور ـ بالمعنى السياسي ـ “التغييريين” فعلياً خلال الحملات الانتخابية حيث شهدنا سوء تقدير- من قبل أغلب المرشحين والمرشحات- لما يريده الناس، وهو ما تجلى باستخدام مفاهيم فضفاضة ومبهمة كالسيادة والوطنية ونظافة الكف وغيرها بينما الشعب يرزح تحت وطأة أزمة معيشية غير مسبوقة.
لقد أغفل “التغييريون” أن الشعب، في الأزمات، يتطلع بشكل أساسي إلى قيادة سياسية “قادرة” على إتخاذ القرارات وتنفيذها وليس بالضرورة إلى مرشحين ومرشحات يحملون خطاباً طناناً رناناً.
مما لا شك فيه أن انتخاب مجموعة صغيرة (13) من خارج الأحزاب التقليدية شكّل خرقاً مهماً، إلا أن نتائج الأحزاب التقليدية في الإنتخابات، برغم القناعة الشعبية بأنها فاسدة بامتياز، تؤشر بوضوح إلى أن مرشحي التغيير لم يتم قبولهم شعبياً كنواب قادرين على بلورة حلول عملية للأزمة المركبة التي يمر بها لبنان. ويبدو أن الحال لم يتغير بعد الإنتخابات إذ أن أداء النواب “التغييريين” جاء مُخيباً للآمال، أقله لغاية يومنا هذا.
لا بد من الإقرار بداية أن أمنية بعض المنظرين بأن ينتظم كل “التغييريين” في كتلة نيابية واحدة، لم يكن ولن يكون ممكناً إذ أن النواب الثلاثة عشر يتحدرون من خلفيات أيديولوجية وفكرية مختلفة لا يمكن أن تتلاقى في مشروع سياسي متكامل. كما بالغ الرأي العام بما يمكن أن تُنجزه مجموعة تشكل عُشر مجلس النواب فقط ولا تتمتع بنفس الموارد في مواجهة منظومة الأحزاب التقليدية وتحالفاتها الكثيرة في الأجهزة الحكومية كما في القطاع الخاص.
كيف ينوي عُشر المجلس النيابي تغيير أي قانون من دون إرساء تحالفات مرحلية “بالقطعة” مع الكتل الأخرى؟ وكيف يتوقعون أن تتجاوب تلك الكتل مع مبادرتهم الرئاسية بينما يتم شتم قادة هذه الكتل وتخوينهم صبحاً ومساءً؟ أحزاب لبنان ليسوا بنعاج إلا أن التكتيك السياسي وإرادة الوصول إلى نتائج ملموسة تفرض قبولاً لفكرة التحالفات مع الكتل الأخرى
وبرغم كل الأسباب التخفيفية وفداحة العوامل السياقية المعطلة لعمل مجموعة الـ 13 والمحددات والمؤثرات الخارجية، إلا أن أكثر ما قوّض أداء هؤلاء النواب هو خطابهم وأفعالهم وقراراتهم وقُصر نظرهم وغرور أغلبيتهم الساحقة.
مشكلة “التغييريين” الأولى عدم شجاعتهم وعدم قدرتهم على تشخيص الواقع والمعوقات وصياغة أطر تعاون تجمع جزءاً منهم بهدف انجاز مواضيع محددة. فبدل أن يتم تحديد مساحة مشتركة ملموسة وعملية حسب الملف المنوي العمل عليه، رأينا ارتجالاً وعفويةً ساذجةً أدت إلى تفويت فرص عديدة لإضعاف منافسيهم من الأحزاب التقليدية. لم تقتصر هفوات الـ 13 على ما سلف، حيث أظهر الإستحقاق الرئاسي مستوى جهل مخيف بأساسيات العمل التشريعي والسياسي.
وبرغم أهمية أن يتوافق الأعضاء الـ 13 على “مبادرة رئاسية” موحدة تقترن بآلية عمل، إلا أن محتوى المبادرة تشوبه أخطاء وسوء تقدير بالحد الأدنى. قامت هذه المبادرة على معايير اعتبرها النواب “التغييريون” أساسية للقبول بمرشح أو مرشحة. يبدأ نص المبادرة بمقدمة “شعر ونثر” عن العذاب والقهر و”المشهدية الأبوكاليبتية” وغيرها من الشعارات الفضفاضة، لينتقل بعدها إلى مجموعة معايير لا معنى سياسياً لأغلبيتها ولا يمكن تعريفها أو قياسها بأي شكل منطقي. مثلاً كيف ينوي النواب تقييم مدى “إيمان المرشح الرئاسي بالدولة” أو “التزامه بكتاب الدستور” أو “تحصنه بالعقل والحكمة”؟ وكيف يمكن لأي مرشح أو مرشحة للرئاسة الالتزام بـ”فرض إقرار خطة للتعافي الإقتصادي والمالي” في بلد يستأثر فيه مجلس الوزراء بالسلطة الإجرائية وتقتصر صلاحيات الرئيس على القليل؟ وما هي آلية “استعادة السلطة القضائية” المُطالَب بها رئيس البلاد المستقبلي؟
وهنا يأتي أيضاً التناقض بين المبادرة وبين ما صدر وما يصدر من أعضاء المجموعة في ما يتعلق بكيفية التعاطي مع الأحزاب التقليدية، حيث أطلق عدد كبير من النواب “التغييريين” تباعاً مواقف متشددة تقضي بعدم التعاطي أو التعاون مع أي حزب من الأحزاب التقليدية. بل أكثر من ذلك تمت شيطنة كل شخصية أو مرشح ومرشحة كان لهم بوقت معين صلة ولو عابرة مع أحد الأحزاب التقليدية، مما يعكس عقلية تخوين واقصاء لا تختلف عن عقلية “الدواعش” سوى استخدام هؤلاء العامل الديني في دولة الخلافة مقابل “داعشية علمانية” يتبناها البعض في لبنان.
بالإضافة إلى الإقصاء، تنم هذه المقاربة عن عدم إلمام بآليات صياغة وتعديل وتبني السياسات العامة، برغم أن عدداً كبيراً من مجموعة الـ 13 لهم خبرة في مراكز قيادية في أعمالهم الخاصة أو في تجربتهم النقابية أو ضمن المجتمع المدني. والسؤال المطروح هو كيف ينوي عُشر المجلس النيابي تغيير أي قانون من دون إرساء تحالفات مرحلية “بالقطعة” مع الكتل الأخرى؟ وكيف يتوقعون أن تتجاوب تلك الكتل مع مبادرتهم الرئاسية (أو غيرها من المبادرات) بينما يتم شتم قادة هذه الكتل وتخوينهم صبحاً ومساءً؟ أحزاب لبنان ليسوا بنعاج إلا أن التكتيك السياسي وإرادة الوصول إلى نتائج ملموسة تفرض قبولاً لفكرة التحالفات مع الكتل الأخرى.
في الأشهر الأولى من تجربتها النيابية، أخفق أعضاء المجموعة “التغييرية” في التحول من ماضيهم كناشطات ونشطاء إلى حاضرهم كمشرعين ومشرعات هدفهم الرقابة والتشريع والمحاسبة. لذا اقتصر جل نشاطهم، مع بعض الاستثناءات، على البيانات الإعتراضية والتواصل الشعبوي بالتزامن مع غياب رؤى وخطط وآليات تتلاءم مع طبيعة النظام السياسي في لبنان ونسيجه الإجتماعي وموازين القوى الداخلية والإقليمية والدولية.
أخيراً وليس آخراً، ظهر عند البعض من الـ 13 رفض قاطع لأن تتم مساءلتهم عن بعض القرارات والإخفاقات مما يعزز التصور العام أنهم لا يختلفون عن سواهم بالجوانب الجوهرية كالنزاهة الفكرية والمساءلة والفعالية وغيرها من القيم التي شطبتها الأحزاب التقليدية.
إن الإستمرار بهذا النهج سوف يؤدي ليس فقط إلى فشل تلك المجموعة بل سوف يقوّض التجربة برمتها ويكون للأمر تداعيات لسنوات كما يُرتّب على النواب التغييريين ومناصريهم مسؤولية تاريخية بألا يصبح جحيم أهل الحكم أرحم من جنة “التغييريين”.