لم يأت تكليف حسان دياب في لبنان نتاج توافق دولي أو إقليمي وتحديدا أميركي ـ إيراني. هو إيراني بالمعنى السياسي للكلمة، كونه جاء بإرادة فريق سياسي من “لون واحد”. فريق تولى تسميته وهو الذي سيعطيه ثقته في الأسبوع المقبل، أو بالأحرى الشرعية البرلمانية، كما ينص الدستور اللبناني. الدليل أنه بإستثناء ترحيب الإيرانيين، فإن الأميركيين والأوروبيين والخليجيين يتعاطون مع حكومة دياب، بوصفها “حكومة حزب الله”. قالها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بالفم الملآن. وهذه الحكومة، من وجهة نظرهم، لن تحصل على قرش واحد من الخارج، ولو كان كل الوزراء الـ 20 فيها يحملون الجنسية الأميركية ويزنرون جباههم بالأعلام الأميركية.
في المقابل، حظي تكليف محمد علاوي بترحيب لافت للنظر من عاصمتين أساسيتين هما واشنطن وطهران، ولو أن الشارع العراقي الذي يشهد حراكا منذ أقل من نصف سنة، عبّر عن إعتراضه على تكليف علاوي، في صورة شبيهة لتلك التي شهدها الشارع اللبناني وما يزال بعد تكليف حسان دياب.
وإذا كانت حكومة حسان دياب قد وُلدت في ظل أوضاع اقتصادية ومالية “استثنائية” في لبنان، بحيث ينتظر أن تخضع لأول إمتحان لها في الأسابيع المقبلة، ربطا بإستحقاقات مالية داهمة لا تحتمل التأجيل، فإن الساحة العراقية تبقى أكثر خصوبة، لا سيما بالسياسة، ذلك أنها تشهد على أرضها وفي مسرحها السياسي الإشتباك الأميركي الإيراني الأعنف منذ سنوات طويلة، وهو إشتباك يرجح أن يستمر حتى موعد الإنتخابات الرئاسية الأميركية وربما بعدها بفترة قصيرة.
وبينما كان كافياً تبني حزب الله والعماد ميشال عون وحركة أمل ترشيح حسان دياب، فإن ترشيح علاوي كان نتاج صفقة، من بين أبرز أطرافها تحالف “سائرون” المدعوم من مقتدى الصدر، وتحالف “الفتح” بزعامة هادي العامري (الحشد الشعبي).
وليس مشهد القبعات الزرقاء والحمراء في العراق في الساعات الأخيرة، إلا خير مؤشر لجولة جديدة ومختلفة من التجاذبات الحادة على أرض الواقع، والتي باتت تُشخّص بشكلٍ جليٍّ مرحلة ما بعد “انعطافة” التيار الصدري، وإنضوائه في سياق التسويات التي أتت بمحمد توفيق علاوي رئيسا للحكومة جديدة خلفا لعادل عبد المهدي الذي جاء سابقاً نتاج توافق أميركي ـ إيراني، ولو أن ظروف سقوطه كانت مختلفة عن ظروف تسميته.
العنصر المستجد عراقيا هو الإنقلاب في مواقف مقتدى الصدر في ظرف اسبوع واحد، عقب إعلانه الانسحاب من المظاهرات بعدما كان يشكل نوعا من حاضنة سياسية للحراك الشعبي منذ خمسة أشهر حتى الآن
يذكر أن علاّوي (65 سنة)، عمل مستشاراً للشؤون الإنسانية في منظمة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة. طرحه الرئيس العراقي برهم صالح كمرشح مستقل، على الرغم من كونه عضواً سابقاً في حزب الدعوة الإسلامية، وتربطه علاقة مصاهرة مع السيد مقتدى الصدر، كما أنه كان قد شارك في حكومتين برئاسة نوري المالكي (إستقال من منصبه بسبب خلافه مع الأخير في العام 2012). هذه التوليفة جعلت اسمه “الجدلي” مرفوضاً من قبل الشارع المنتفض، الذي لم يجد في تسمية علاوي إلا محاولة للإلتفاف على مطالبه المشروعة، وفي طليعتها إجراء إنتخابات نيابية مبكرة، وهو المطلب الذي تتبناه المرجعية الشيعية في العراق أيضاً.
غير أن العنصر المستجد عراقيا هو الإنقلاب في مواقف مقتدى الصدر في ظرف اسبوع واحد، عقب إعلانه الانسحاب من المظاهرات بعدما كان يشكل نوعا من حاضنة سياسية للحراك الشعبي منذ خمسة أشهر حتى الآن، وهو مهد لذلك، بدعوته إلى مليونية الرفض للوجود الامريكي، ثم دخوله في اللعبة السياسية الجديدة، وما طالب به اتباعه بعد ذلك (أصحاب القبعات الزرقاء) من مساندة للقوى الأمنية في فتح الطرق، الأمر الذي أفرز جدلاً في الساحة العراقية، علماً أن السيد الصدر معروف بتقلباته السياسية وثمة من يقول عنه في بغداد إنه “وليد جنبلاط اللبناني”.
ويقول أتباع التيار الصدري أنهم يشكلون أكثر من 70 في المئة من المتظاهرين المشاركين في الحراك، وبالتالي، فإن خروجهم من الساحات سيرتد سلباً على الحراك، وهذا ما يرفضه المحتجون الذين يعتبرون أن حجم التيار الصدري على الأرض لا يصل إلى الثلث من مجمل المتظاهرين، لكنهم يرون أن قيمة الصدريين هي في إنتظامهم (بلوك سياسي حقيقي)، ما يجعلهم يبدون أكثر تأثيراً في ساحة الحراك، في حين ان الشباب المنتفض لم ينظّم نفسه إلى الآن، لا قيادة ولا برنامجاً، وينطبق عليهم ما ينطبق على الحراك اللبناني.
هكذا فُرز الحراك بين قبعات زرقاء يتميز بها الصدريون، وأخرى حمراء اختارها بعض المتظاهرين كرد فعلٍ وللإمعانٍ في التمايز ليس إلا.
في الظاهر، يتكرر السيناريو اللبناني في الساحة العراقية مع بعض الفروقات. علاوي، أصر في خطابه الموجه للحراك بالدرجة الأولى، على انه لن يسمح للكتل بأن تفرض مرشحيها، وأنه سيختار المستقلين، وسيعمل على إقرار قانون انتخابي جديد، تجرى على أساسه انتخابات جديدة مبكرة، ليبدو الأمر مطابقاً لمطالب المرجعية.
في لبنان، تعمد حسان دياب أكثر من مرة أن يخاطب الحراك مباشرة وأبلغ داعميه أنه لن يسمح لهم بإختيار ممثليهم إلا بعد أن يعطي موافقته، ليصبح أول رئيس وزراء يستخدم حق “الفيتو” الذي وسع هامشه وضيق هوامش الآخرين.
وفي انتظار أن يعلن الرئيس المكلف محمد توفيق علاوي أسماء كابينته الوزارية (خلال مهلة شهر كحد أقصى)، لا شك في أن المشهد العراقي كثير التعقيد، وهو يفوق بكثير تعقيدات الساحة الداخلية اللبنانية لاعتبارات متعلقة بكثرة الانقسامات خصوصا في البيت الشيعي العراقي.
هل سينجح علاوي في تشكيل “حكومة مستقلين”؟ الأمر رهن بالتطورات التي ستحملها الأيام المقبلة، ولعل البداية من موقف المرجعية، ولننتظر كيف سيتصرف قائد فيلق القدس الجديد في الحرس الثوري الإيراني إسماعيل قاآني مع أول إختبار سياسي على أرض بلاد الرافدين، وهو وريث قاسم سليماني الذي ترك بصماته على مجمل المشهد الإيراني في مرحلة ما بعد الغزو الأميركي للعراق.