مهمة لودريان اللبنانية.. هل تسقط وبعدها الطوفان؟

تشهد الفاصلة الزمنية التي تسبق العودة المرتقبة للموفد الفرنسي جان إيف ـ لودريان إلى بيروت، حملة ضاغطة من أطراف سياسية لبنانية لا تخفي اعتراضها على مهمة الموفد الرئاسي الفرنسي، مما يُهدّد بسقوطها أو تجويفها قبل اكتمال عقدها، وتُعيد هذه الضغوطات إلى الأذهان مشهدية سقوط المبادرات الفرنسية في العامين 1975 و1976، الأمر الذي أدى إلى غرق لبنان بالطوفان المشؤوم.

بعد هبوط نقمة الشيطان على اللبنانيين في العام 1975، أطلق الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان تصريحاً تحذيرياً مدوياً من العاصمة التونسية (“النهار” ـ 8 ـ 11 ـ 1976) قال فيه “إن الأحداث الأخيرة قد تكون تجربة قاضية للبنان”، وما يُحاكي هذا التحذير سيُعيد إطلاقه جان إيف ـ لودريان بعد أقل من خمسين عاماً بقليل حين كان وزيراً للخارجية الفرنسية فقال (27 ـ 8 ـ 2020) في تصريح أول “إن لبنان يواجه خطر الزوال” وفي تصريح آخر (14 ـ 12 ـ 2020) اعتبر لبنان مثل باخرة “تايتانيك” يغرق ولكن “من دون موسيقى”.

لم يعطِ اللبنانيون بالاً لتحذيرات الرئيس ديستان قبل خمسة عقود فغرقوا في أتون شرورهم طوال خمس عشرة سنة، وعلى ما يظهر أن التاريخ قد يُعيد نفسه بصورة مأساوية أو بصورة هزلية كما يقول الماركسيون، فحين يجري العمل على إعاقة المبادرة الفرنسية اليتيمة التي يمكن أن تشكل مدخلاً للحل اللبناني التائه، وتقترب الإتهامات الموجهة إلى الموفد الرئاسي الفرنسي بأنه نسخة متجددة من يهوذا الإسخريوطي الذي خان السيد المسيح، فالسؤال الذي يعقب هذا الصدّ وذاك اللجم: هل لبنان مقبل على طوفان ثانٍ لم يعرفه النبي نوح ولا أحد من ذريته ولا من أسباطه الذين نجوا من الطوفان الأول؟

في الذاكرة اللبنانية أن الرئيس ديستان أضاف في تحذيره الشهير إعلاناً عن استعداد فرنسا لإرسال مبعوث رئاسي يسعى لتوفير سبُل الحوار بين الأطراف اللبنانية، وفي 13 تشرين الثاني/نوفمبر 1975 أعلن الرئيس سليمان فرنجية بحسب صحيفة “النهار” أن مجلس الوزراء “أبدى موافقته على المبادرة الفرنسية نظراً إلى الصداقة العريقة التي تجمع بين الدولتين وإلى السياسة العامة التي تنتهجها فرنسا إزاء لبنان”. ومنذ ما قبل الموافقة اللبنانية على تلك المبادرة، كان إسم رئيس الوزراء الفرنسي السابق موريس كوف دو مورفيل يتردد في الأروقة السياسية باعتباره الشخصية المرموقة التي ستقود المبادرة الفرنسية المستحيلة.

قبل وصول كوف دو مورفيل إلى بيروت حدّد في مؤتمر صحافي عناوين عامة لمهمته (“النهار” ـ 15 ـ 11 ـ 1975) من ضمنها “الوصول إلى تفاهم بين المسيحيين والمسلمين عن طريق التأكيد على أن هذا التفاهم هو لمصلحة الفريقين، ذلك أن أي لبناني لا يتمنى أن يتفتت بلده سواء على الصعيد السياسي أو المالي”. وفي معلومات “النهار” أن كوف دو مورفيل “ينوي ألا يبقى في لبنان إلى ما لا نهاية، فهو قد يجد نفسه بعد 8 إلى 10 أيام، في وضع يمكنه من استخلاص نتائج يعرضها على المعنيين، وفي هذه الحال قد يعود إلى باريس على أن يعود مجدداً إلى لبنان إذا دعت الحاجة إلى ذلك”.

في اليوم المقرر لوصول كوف دو مورفيل كتب رفيق خوري (19 ـ 11ـ 1975) في صحيفة “الأنوار” عن “أوراق الموفد الفرنسي” فقال:

“ماذا في حقيبة الوسيط الفرنسي؟ باريس متحفظة جداً في الجواب بل حذرة بسبب التحفظ اللبناني الذي سبق الإتفاق على المبادرة الفرنسية، فهي تكتفي بالقول ـ إن موفدها ـ يأتي إلى بيروت بقلب مفتوح وعقل مفتوح، لكن ذلك ليس كل شيء، وكثيرون يفترضون أن حقيبة الموفد الفرنسي تحوي ثلاث أوراق جاهزة على الأقل، ورقة تاريخية، وورقة نظرية، وورقة سياسية”.

ماذا في هذه الأوراق؟ يتابع رفيق خوري:

“على الصعيد التاريخي، فرنسا تعرف جيداً ماذا تركت في لبنان، فلو قام الجنرال غورو من قبره وجاء إلى بيروت لإكتشف أن الأمور ما زالت كما تركها، ولو عاد المفوض السامي الذي عيّنه ديغول قبل الإستقلال لوجد نفسه أمام الشخصيات نفسها التي كانت على المسرح السياسي في ذلك الوقت، أي أننا نتقاتل في عام 1975 لحل مشكلات عام 1943، وعلى الصعيد النظري فإن كوف دو مورفيل يحمل نسخة من محاضرة خلاصتها أن لبنان بلد التعدد والتوازن في مراكز القوى، والورقة السياسية هي الورقة الغامضة والقلقة، فليس واضحاً تماماً ما إذا كانت أميركا متحمسة للمباردة الفرنسية أو معارضة لها أو مكتفية بالقول لجيسكار ديستان: جرِّب حظك”.

في اليوم التالي (20 ـ 11 ـ 1975) على وصول الموفد الفرنسي كانت عناوين صحيفتي “النهار” و”الأنوار” على هذه الصورة “بيروت تستقبل المبعوث الفرنسي بجو متوتر” و”الوسيط الفرنسي يبدأ مهمته في ظروف صعبة”، وما من شك أن هذه العناوين كانت تعكس عدم قابلية الأطراف المتقاتلة، من لبنانيين وفلسطينيين، للإستجابة للمبادرة الفرنسية، فالسيف سبق العذل كما كان يرى المتذابحون، وعلى هذا الأساس كتب رفيق خوري:

“موريس كوف دو مورفيل في بيروت، وكورت فالدهايم ـ الأمين العام للأمم المتحدة ـ في دمشق، والعقدة في واشنطن، والناس تعرف أن نجاح دو مورفيل ليس نجاحاً لفرنسا بل هو نجاح للبنان، كذلك فإن فشله ليس فشلاً لفرنسا بل هو فشل للدولة اللبنانية قبل الجميع”.

الإعتراض على المبادرة الفرنسية الحالية، لا يقوم فقط على الشكل وطريقة الأسئلة والأجوبة التي اعتمدها لودريان فحسب، بل ثمة أسباب عدة تدفع إلى رفضها أو عدم التناغم معها، ومنها أن فرنسا “منحازة” وقد تغيرت عن تلك التي كانت في مطلع القرن العشرين، كما أنها من “الوزن الدولي الخفيف”، والأهم من ذلك أن مفاتيح الحل ليست في باريس، بل هناك.. هناك في واشنطن

وأما الياس الديري فكتب (21 ـ 11 ـ 1975) تعليقاً استشرافياً في “النهار” انطوى على يأس واضح من احتمال نجاح مهمة الوسيط الفرنسي، ولذلك أعطى لتعليقه هذا العنوان “ماذا أتيت تفعل”؟ قال فيه:

“يبدو من جو الكآبة الذي خيّم على بيروت، وموجة الذعر التي اجتاحت المدينة، أن هستيريا القتل آتية إلينا ثانية، وقد تسبق مساعي الأصدقاء الذين أشفقوا علينا من جنوننا، وكل ما يمكن أن يقال إن الأزمة اللبنانية أصبحت بلا قلب وبلا وجدان، وصارت أكبر من حجم الوطن الصغير وأكبر من حُكّامه وسياسييه وقتلته، والبعض يجزم أنها صارت أكبر من الوساطات التي يبذلها حاليا المبعوث الفرنسي والتي سبقه إلى مثلها المبعوث البابوي، قد تعطي الوساطات ثمارها في يوم في شهر في سنة، لكن اللبنانيين أبوا إلا أن يؤكدوا لكوف دو مورفيل أنهم ماضون في الحرب القذرة إلى الآخر، وربما إلى آخر لبنانهم”.

كيف تحرك كوف دو مورفيل في بيروت وما مرتكزات مبادرته؟ هذا السؤال قدمت “النهار” و”الأنوار” الإجابات عنه في الواحد والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 1975 وفقاً للتالي:

إقرأ على موقع 180  أحداث 6/6: من يريد توريط العسكر بمواجهة الشارع؟

“النهار”: “الأزمة اللبنانية أزمة لبنانية، هذا ما أراد المبعوث الفرنسي أن يقوله للمسؤولين والسياسيين اللبنانيين الذين اجتمع بهم، وأن يضع اللبنانيين في نطاق حجم أزمتهم عندما أشار بشيء من الصراحة إلى أن لا مؤامرة دولية على لبنان، وبعض الذين اجتمعوا به قالوا إن الهدف القريب للمبادرة الفرنسية هو تجميد الصراع في المرحلة الأولى ثم تجميد الوضع تمهيداً لإنهاء الأزمة في نطاق الأزمة الكبرى”.

“الأنوار”: “أوضح دو مورفيل مهمته للمسؤولين اللبنانيين وفقاً للمبادئ الثلاثة الآتية: حرص فرنسا على الكيان اللبناني ووحدة اللبنانيين، تأكيد رغبة فرنسا بتسوية مشاكل اللبنانيين داخل لبنان، استعداد فرنسا للإشتراك في أية خطوة يُجمع اللبنانيون على ضرورة اتخاذها لتسوية مشاكلهم والحفاظ على وحدتهم، وكانت أبحاث دو مورفيل تنطلق من ثلاثة أسئلة: كيف يمكن تفسير أسباب انفجار الأزمة؟ كيف يمكن معالجتها وإيجاد الحلول المناسبة لها؟ ما الدور الذي يمكن أن تقوم به فرنسا لمساعدة لبنان”.

هذه الأسئلة التي كشفها المسؤولون اللبنانيون لوسائل الإعلام المختلفة، أسقطتها بالجملة والتجزئة الوقائع الدامية التي شهدها اليوم الثالث من مهمة الموفد الفرنسي، ففي ذكرى الإستقلال اندلعت معارك طاحنة في بيروت وفي محاور عدة خارجها، وكان واضحاً من اتساع مساحة طواحين الموت والخطف أن مهمة دو مورفيل انتهت وسقطت وأن المتحاربين لن يأخذوا راحة ولا استراحة، وصدرت صحيفة “النهار” في اليوم التالي (23 ـ 11 ـ 1975) بهذا العنوان “اشتعلت عشية الإستقلال/حصيلة يوم مجنون 80 مخطوفاً و18 قتيلاً و39 جريحاً” وبعد يومين وحيث كانت المواجهات والتطاحنات قد بلغت مداها وتُهدّد معها استمرار عمل “هيئة الحوار” جاء في “الأنوار” في صفحتها الثانية “قاطع شمعون وتأخر جنبلاط فانفرطت هيئة الحوار/الجميل: الصيغة اللبنانية تنهار”.

لم يعد لوجود دو مورفيل مبرراً في بيروت بناء على استساغة أولياء الأمر لنكهة الدم ولحاس المبرد، فإرادة الحرب تناقض الرغبة في التسوية، ولعل أكثر ما وجده دو مورفيل في مجمل مباحثاته واتصالاته مع المسؤولين اللبنانيين اختباءهم وراء مواقفهم، وعلى حد قوله (“الأنوار” ـ 28 ـ 11 ـ 1975) إنه “لاحظ بأن عنصر الصراحة مفقود بين المتقاتلين حتى بين أجنحة الفريق الواحد”، وتعليقاً على ذلك كتب رفيق خوري:

“الذين التقوا الموفد الفرنسي يقولون إن الرجل لم يُفاجأ بتناقض المواقف والآراء التي سمعها والتي تشكل أكبر برج بابل سياسي في العالم، فقد كان يتوقع ذلك، بل إنه جاء إلى بيروت وهو يعرف أن الأنغام التي تنتظره هي عزف منفرد على كل الآلات المحلية والعربية والدولية، لكنه لم يكن يتوقع أن يكون العزف على كل الآلات دفعة واحدة، والذي فاجأه أكثر قلة المعلومات وكثرة الإفتراضات والإتهامات، فكل طرف يروي سيناريو الأزمة كما يتخيله لا كما هو في الواقع، وكل طرف يقول إنه في موقع الدفاع عن النفس، والموفد الفرنسي كان يقول بسخرية إنه يتمنى الإجتماع بذلك الشبح الغامض الذي يولع هذه الحرب الهجومية الطويلة بين مجموعة من المحاربين المدافعين”.

ما الذي تغيّر بين المبادرة الفرنسية الأولى التي قادها موريس كوف دو مورفيل سابقاً والمبادرة التي يقودها جان إيف ـ لودريان حالياً؟ في الإجابة القاطعة أن شيئاً لم يتغير لجهة التناقض في غالبية المواقف السياسية اللبنانية، أو لجهة “الأشباح” التي تُحرّك الأزمة، أو لجهة انعدام الصراحة لدى أكثرية الأطراف، أو لجهة أن الفريق أو ذاك يغني على ليلاه، ولكن يبقى أن “جوهر الأشياء” كما يقول أهل الفلسفة أن أطرافاً سياسية في لبنان لا تعير لفرنسا وزناً ثقيلاً في السياسة الدولية لإفتقادها ثقل الدولة العظمى “هي كبرى ولكنها ليست عظمى”، وأما كيف ذلك؟ فرؤية تلك الأطراف في هذا المضمون:

بعدما جوبهت مبادرة دو مورفيل بالإجهاض عام 1975، جوبهت مبادرة فرنسية أخرى بإجهاض مماثل في نيسان/إبريل عام 1976 قادها جورج غورس، وتأتى الرفض للمبادرتين من قراءة مفادها أن الدور الفرنسي بدأ يعرف انحساراً إثر الحرب العالمية الثانية لصالح قطبين عُظميين هما الولايات المتحدة والإتحاد السوفياتي، وتجلى هذا الإنحسار في “حرب السويس” عام 1956 حين شنّت فرنسا وبريطانيا وإسرائيل عدوانها المعروف على مصر، وكان من نتائج ذلك أن ضغط القطبين السوفياتي والأميركي على الدول المعتدية لإيقاف هذه الحرب، الأمر الذي عنى انتقال مواقع القرار الدولي إلى عواصم جديدة.

في الأزمة اللبنانية عام 1958، لم يكن لفرنسا دورٌ يُذكر بحسب قراءة هذه الأطراف اللبنانية، فالتسوية التي جاءت باللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، إنما كانت برعاية أميركية ـ مصرية، كما أن الأميركيين حلّوا مكان الفرنسيين في الهند الصينية (فيتنام ـ لاووس ـ كمبوديا) ابتداءً من الستينيات في القرن الماضي، فيما “المظلة النووية” الأميركية ومعها “الثقل” الأميركي في حلف “الناتو” شكلا درع الحماية عن أوروبا الغربية ومن بينها فرنسا طوال حقبة الحرب الباردة مع الإتحاد السوفياتي ومنظومته الإشتراكية، وأما بعد الحرب الروسية ـ الأوكرانية المندلعة منذ السنة المنصرمة، فقد ثبتت الحاجة الأوروبية للحماية الأميركية المتجددة لمواجهة التحدي الروسي الذي يقف على أبواب أوروبا.

ما تختزنه تلك القراءة من مضامين، أن الإعتراض على المبادرة الفرنسية الحالية، لا يقوم فقط على الشكل وطريقة الأسئلة والأجوبة التي اعتمدها لودريان فحسب، بل ثمة أسباب عدة تدفع إلى رفضها أو عدم التناغم معها بأقل تقدير، ومنها أن فرنسا “منحازة” وقد تغيرت عن تلك التي كانت في مطلع القرن العشرين، كما أنها من “الوزن الدولي الخفيف”، والأهم من ذلك أن مفاتيح الحل ليست في باريس، بل هناك.. هناك في واشنطن.

هل هذه القراءة بطاقة نعي للمبادرة الفرنسية؟

يبدو الأمر متجهاً نحو النعي إلا إذا خابت التقديرات المبنية على المواقف والتصريحات، ولو حدث النعي بالفعل فهل يغرق اللبنانيون بطوفان جديد ليس شرطاً أن يكون بحره وماؤه شبيهاً بطوفانهم الأول الذين اندفعوا إليه بأيديهم وأقدامهم وبلا عقولهم عام 1975؟

اللهم نجِنا من هذا الطوفان.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  إنقاذ "المريض اللبناني".. بعملية جراحية لا بالمسكنات!