من أجمل الأشياء التي تواجه من يدرس التاريخ، أنّ المصادر التاريخيّة والأثريّة تفضح الكثير من المعتقدات والشعارات التي بنيت على أمنيات أو شعارات وأصبحت من ركائز الفكر العربي والإسلامي.
لنبدأ مما تسمى حقبة “الحروب الصليبيّة”؛ تروي لنا بعض المصادر عن علاقات سلميّة وصداقات حميمة بين كثير من المسلمين والفرنجة بشكل يصبح معه الكلام عن رفض المسلمين لهم والتوق لطرد الغزاة من الأكاذيب التي أصبحت مع الوقت “حقائق” صدّقناها.
من دون شكّ، شهدت الفترة كثيراً من الحروب بين بعض المسلمين والفرنجة. لكنّها شهدت أيضاً ازدهاراً للتجارة والتبادل العلمي، وأشكالاً متعدّدة من التعايش والتحالفات السياسيّة والعسكريّة. ونجد دلائل قاطعة عن هذه الأمور في “رحلة ابن جبير”. مثلاً، عندما غادر دمشق إلى عكّا لكي يستقلّ مركباً إفرنجياً إلى الأندلس، مرّ ابن جبير في طريقه على مدينة تبنين (في جنوب لبنان)، والتي كانت في ذلك الوقت بيد الصليبيّين. يقول ابن جبير في وصف ما رأى:
“ورحلنا من تبنين، دمّرها الله، سحر يوم الإثنين وطريقنا كلّه على ضياع متّصلة وعمائر منتظمة سكّانها كلّها مسلمون وهم مع الإفرنج على حالة ترفيه، نعوذ بالله من الفتنة. وذلك أنّهم يؤدّون لهم نصف الغلّة عند أوان ضمّها وجزية على كلّ رأس دينار وخمسة قراريط، ولا يعترضونهم في غير ذلك ولهم على ثمر الشجر ضريبة خفيفة يؤدّونها أيضاً. ومساكنهم بأيديهم وجميع أحوالهم متروكة لهم. وكلّ ما بأيدي الإفرنج من المدن بساحل الشام على هذه السبيل: رساتيقهم كلّها للمسلمين وهي القرى والضياع. وقد أشربّت الفتنة قلوب أكثرهم لما يبصرون عليه إخوانهم من أهل رساتيق المسلمين وعمّالهم لأنّهم على ضدّ أحوالهم من الترفيه والرفق، وهذه من الفجائع الطارئة على المسلمين، أن يشتكى الصنف الإسلامي جور صنفه المالك له ويحمد سيرة ضدّه وعدوّه المالك له من الإفرنج ويأنس بعدله. فإلى الله المشتكى من هذه الحال وحسبنا تعزية وتسلية ما جاء في الكتاب العزيز: “إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ، تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ (سورة الأعراف 155)”.
أمران مهمّان نستنتجهما من كلام ابن جبير. الأوّل؛ أنّ كثيراً من المسلمين كانوا يعيشون تحت حكم الصليبيّين من دون أن يُعتدى عليهم، بل على العكس من ذلك، كانوا يتمتّعون بنوع من الرفاهية والطمأنينة، ويفتخرون أنّ واقعهم أفضل بأشواط من واقع المسلمين الذين يحكمهم مسلمين. الثاني؛ أنّ هذه الحقيقة ازعجت ابن جبير، لذلك نجده يشتكي إلى الله ويلعن المسلمين الذين يعيشون مع الفرنجة بسلام ووئام ويصفهم بأنّهم مفتونين وأنّ الله أضلّهم.
هذا الوصف لحالة مسلمي صقلّية في النصف الثاني من القرن الثاني عشر هو من الأمور القيّمة للمؤرّخ، ويشير بوضوح إلى أنّهم كانوا يتمتّعون بكامل الحقوق الدينيّة والمدنيّة تحت حكم الفرنجة. لكن في رأي ابن جبير، على المسلم أن يعيش فقط مع أخيه المسلم!
يكرّر ابن جبير وصفه لحال المسلمين في عكّا وصور على المنوال نفسه. عن صور يقول:
“وكانت راحتنا مدّة مقامنا بصور بمسجد بقي بأيدي المسلمين، ولهم فيها مساجد أُخرى. فأعلمنا به أحد أشياخ أهل صور من المسلمين أنها أُخذت منهم سنة ثمان عشرة وخمسمائة.. وأجمعوا على دفع البلد والخروج منه بسلام فكان ذلك وتفرّقوا في بلاد المسلمين. ومنهم من استهواه حبّ الوطن، فدعاه إلى الرجوع والسكنى بينهم بعد أمان كُتب لهم في ذلك بشروط اشترطوها.. وليست له (للمسلم) عند الله معذرة في حلول بلدة من بلاد الكفر إلا مجتازاً وهو يجد مندوحة في بلاد المسلمين، لمشقّات وأهوال يعانيها في بلادهم، منها الذلّة والمسكنة الذمّيّة ومنها سماع ما يفجع الأفئدة من ذكر من قدّس الله ذكره وأعلى خطره لا سيّما من أراذلهم وأسافلهم. ومنها عدم الطهارة والتصرف بين الخنازير وجميع المحرّمات إلى غير ذلك ممّا لا ينحصر ذكره ولا تعداده، فالحذر الحذر من دخول بلادهم والله تعالى المسئول حسن الإقالة والمغفرة من هذه الخطيئة التي زلّت فيها القدم ولم تتداركها إلا بعد موافقة الندم. فهو سبحانه وليّ ذلك لا ربّ غيره“.
ويعطي ابن جبير وصفاً مماثلاً عن المسلمين في عكّا:
“وطهّر الله من مسجدها الجامع بقعة بقيت بأيدي المسلمين مسجداً صغيراً يجتمع الغرباء منهم فيه لإقامة فريضة الصلاة. وعند محرابه قبر صالح النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى جميع الأنبياء. فحرس الله هذه البقعة من رجس الكفرة ببركة هذا القبر المقدس. وفي شرقي البلدة العين المعروفة بعين البقر، وهي التي أخرج الله منها البقر لآدم صلّى الله عليه وسلّم. والمهبط لهذه العين على أدراج وطيّة وعليها مسجد بقي محرابه على حاله، ووضع الإفرنج في شرقيه محراباً لهم. فالمسلم والكافر يجتمعان فيه، يستقبل هذا مصلّاه وهذا مصلّاه. وهو بأيدي النصارى مُعَظّم محفوظ، وأبقى الله فيه موضع الصلاة للمسلمين“.
من دون شكّ أنّ من أبقى على موضع للمسلمين في مسجد عين البقر هم الصليبيّون، لكن ابن جبير كره أن يُقرّ بذلك. لكن الملفت للإنتباه في كلامه هو تزمّته الديني وعنصريّته (والذي رأينا أمثلة أخرى عنه في حديثه عن مسلمي عيذاب والحجاز، كما ذكرت في المقالة السابقة). من جهة، نجده يردّد صورة نمطيّة عن المسيحيّين (الكفر، عدم الطهارة، العيش بين الخنازيرإلخ..). لكن ما يلفت الإنتباه أكثر أنّه يُفتي بمنع المسلم من العيش بينهم، إلاّ إذا كان مضطرّاً لإجتياز أرضهم. وفي هذه النقطة الأخيرة نكتشف حجم نفاق ابن جبير، إذ هو بالحقيقة يعطي لنفسه رخصة للمرور ببلاد “الكفر” ليعود عبرها إلى بلدته في الأندلس، كما يقول في المقطع أدناه عند مغاردته مدينة عكّا بحراً:
“وفي يوم السبت الثامن والعشرين لجمادي المذكورة والسادس لأكتوبر، صعدنا إلى المركب وهو سفينة من السفن الكبار بمنّة الله تعالى على المسلمين بالماء والزاد. وحاز المسلمون مواضعهم بانفراد عن الإفرنج. وصعده من النصارى المعروفين بالـ “بلغريين”، وهم حجّاج بيت المقدس، عالم لا يحصى ينتهي إلى أزيد من ألفي إنسان. أراح الله من صحبتهم بعاجل السلامة ومأمول التسهيل والصنع الجميل بمنّه وكرمه لا معبود سواه“.
من دون شكّ، كان بإمكان ابن جبير أن يتفادى كلّ هذه الأمور ويسافر إلى الأندلس برّاً عبر مصر وشمال أفريقيا، أي عبر بلاد المسلمين. لكنّه لم يفعل. بل فضّل أن ينتقل إلى بلاد “الكفر” ويسافر بحراً على متن سفينة صليبيّة، لأنّ معاملة المسلمين لبعضهم البعض هي أسوأ بأشواط من معاملة الفرنجة للمسلمين
من دون شكّ، كان بإمكان ابن جبير أن يتفادى كلّ هذه الأمور ويسافر إلى الأندلس برّاً عبر مصر وشمال أفريقيا، أي عبر بلاد المسلمين. لكنّه لم يفعل. بل فضّل أن ينتقل إلى بلاد “الكفر” ويسافر بحراً على متن سفينة صليبيّة، لأنّ معاملة المسلمين لبعضهم البعض هي أسوأ بأشواط من معاملة الفرنجة للمسلمين. أكثر من ذلك، كان ابن جبير على ثقة أنّ السفر على مركب صليبي أسلم له لأنّ الفرنجة لن يغدروا به. وإذا نظرنا كيف بدأ رحلته، نجده فعل الأمر نفسه: أتى بقصد الحجّ على متن سفينة افرنجيّة، وبدأت مشاكله عند وصوله إلى الإسكندريّة، أي في بلاد المسلمين.
يمكن أن نضيف أيضاً أنّ ابن جبير لم يكن في عجلة من أمره عند عبوره بلاد “الكفر”، بل نجده يأخذ وقته ليتمتّع بها وكأنّه سائح معاصر. ومن دون شكّ، أهمّ مقتطفات من كتابه تلك التي تتضمن وصفاً لتلك البلاد وحالة المسلمين فيها تحت الحكم الصليبي أو الافرنجي. مثلاً، في وصفه للمسلمين في مدينة باليرمو (Palermo) في صقلّية، يقول ابن جبير:
“وللمسلمين بهذه المدينة رسمٌ باقٍ من الإيمان، يعمّرون أكثر مساجدهم ويقيمون الصلاة بآذان مسموع. ولهم أرباض قد انفردوا فيها بسكناهم عن النصارى. والأسواق معمورة بهم وهم التجّار فيها، ولا جمعة لهم بسبب الخطبة المحظورة عليهم. ويصلون الأعياد بخطبة دعاؤهم فيها للعبّاسي، ولهم بها قاضٍ يرتفعون إليه في أحكامهم وجامع يجتمعون للصلاة فيه ويحتلفون في وَقِيده في هذا الشهر المبارك. وأما المساجد فكثيرة لا تحصى وأكثرها محاضر لمعلمي القرآن. وبالجملة فهم غرباء عن إخوانهم المسلمين، تحت ذمّة الكفار، ولا أمن لهم في أموالهم ولا في حريمهم ولا أبنائهم. تلاقاهم الله بصنع جميل بمنّه”.
هذا الوصف لحالة مسلمي صقلّية في النصف الثاني من القرن الثاني عشر هو من الأمور القيّمة للمؤرّخ، ويشير بوضوح إلى أنّهم كانوا يتمتّعون بكامل الحقوق الدينيّة والمدنيّة تحت حكم الفرنجة. لكن في رأي ابن جبير، على المسلم أن يعيش فقط مع أخيه المسلم!
يمكننا كمؤرّخين أن نأخذ عنجهيّة ابن جبير وعنصريّته كأساس للعلاقة بين المسلمين والفرنجة في ذلك الوقت. لكن وصفه لأحوال المسلمين تحت الحكم الصليبي والافرنجي يشير إلى أنواع متعددة من التعايش التي مارسها المسلمون ورفضها بعض رجال الدين جهارةً لكن مارسوها في الخفاء أو مواربةً.
(*) راجع الجزء الأول: رحلة ابن جبير من سبتة إلى مكة.. بمعيار الإسلام (1)