قراءات “وحدوية” منسيّة في زمن الكوارث العربية!

في زمن الحرب والدمار والجوع، يأخذك الشغف بتراثٍ سابق وضرورة نبشه إلى عوالمٍ غير متوقّعة. تراثٌ مسجّل في رسومٍ، في كتاباتٍ مخفيّة منسيّة أو لم تعرف النشر، وفي أخرى رائجة في بلادِنا تتنازعها تناقضات سرديّاتها، وفي أرشَفةٍ قد يقوم بها آخرون من بلادٍ بعيدة.

كُلّها “آثارٌ” تتوالى أمامنا دون دلالة معيّنة حتّى يأتينا رسمٌ أو نصٌّ “منقوشٌ” ليفاجئنا بمضمونه وشكله فيُضيء أمامنا ما ينير عتمة السرديّات القائمة وإسقاطاتها. وعندما تذهب لتسبِر مصدر هذا الضوء، قد يكافئك القدر، بعد مشقّة أكيدة، بإنارةٍ متباينة عن واقع اليوم، تُذكِّرنا بأيّام النهضة، الأوروبيّة أو العربيّة، التي أسّست عبر سبرها للماضي لمستقبلٍ مختلف.

هكذا يأخذنا تساؤلٌ عن صراعٍ اجتماعيّ – سياسيّ حَوَّل مدينةً، هي حمص، كانت من الأكثر “مدنيّةً” في سوريا – بمعنى الانخراط في تيّارات الحداثة – إلى بؤرةٍ مبكّرة لحربٍ أهليّة وإلى مفاجآت مغيّبة عن تراثها وواقعها وكذلك محيطها القريب. تراثٌ يبدأ منذ مجيء الإسكندر الأكبر وانخراط الرستن (أريتوزا باليونانيّة) وأسرتها الحاكمة، أبناء “عزيز”، ضدّ منافستها في.. تدمر. تراثٌ يمتدّ من هناك حتّى طرابلس الشام وبعلبك كي تصبح حمص بشكلٍ مبكِّر حاضرةً أساسيّة في الإمبراطوريّة الرومانيّة؛ حاضرة اقتصاديّة وثقافيّة، في أسس الفكر والقانون، وكذلك حاضرة عقائديّة مع عبادة الإله “بعل” الذي كان ملوك حمص كهنته. هكذا حتّى وصلت تلك العائلة المالكة في أواخر القرن الثاني الميلادي إلى سدّة الامبراطوريّة مع أسرة “سيبتيموس سيفيروس”، الليبيّ الأصل، وزوجته “جوليا دومنا”.

يفتخر أهل حمص يفتخر بتلك الإمبراطورة “الحمصيّة” ولكنّهم لا يذكرون كثيراً أخواتها وبناتها، وكلهنّ لعبنَ دوراً جوهريّاً في مصير الإمبراطوريّة الرومانيّة. إنّهم يتنازعون مع اللبنانيين إرث كركلاّ، ابن “جوليا دومنا”، “الفينيقيّ” المولود في مدينة ليون الفرنسيّة. ولكن لا أحد يريد الحديث عن “إليّا بعل” (“إلاغابالوس” بالرومانيّة)، حفيد “جوليا مايسا” الحمصيّة، والذي لم يكتفِ بأن لقّب نفسه باسم إلهه حين عُيّن امبراطوراً بل أخذه معه من حمص إلى روما وحاول فرضه إلهاً واحداً على الإمبراطوريّة في ظلّ تعدّد آلهتها وانتشار كبير لليهوديّة والمسيحيّة. لقد كلّفه ذلك أن قُتَلَ كما قُتِلَ سابقه في محاولة شبيهة، أخناتون الفرعونيّ زوج نفرتيتي الجميلة.

هكذا يتشارك “الحماصنة” المتصارعون في ما بينهم عام 2012 بأنّ آثار روما القديمة الماثلة اليوم هي قوس نصر “سيبتيموس سيفيروس” وحمّامات “كركلاّ” وغيرها.. وأنّهم ما زالوا إلى اليوم يحتفلون جميعاً بـ”خميس الحلاوة”، عيد الربيع، وظلّوا إلى وقتٍ قريب يحتفلون بـ”خميس المجانين”، الكرنفال، و”خميس المشايخ”، وغيرها.. واسألوا أيّ حمصيّ “لماذا لم يدمّر تيمورلنك حمص”؟، واسألوا أيّاً من بلاد الشام “ما اسم الأرض غير المرويّة”؟ والجواب “بعليّة”. تأتيكم الذاكرة الجمعيّة بإرثٍ مشترك بعيداً عن السرديّات القاتمة.

ما الذي جلب طلعت حرب، “أبو الاقتصاد المصري” بعد ثورة 1919 ومؤّسس “بنك مصر” و”مصر للطيران” إلى الشام شهراً قبل أن تتفجّر “الثورة السوريّة الكبرى” ضدّ الانتداب الفرنسي عام 1925؟ وقبل قصف وتدمير حيّ “سيدي عامود” الذي كان يحتوي على أجمل بيوتات الشام العريقة، كي يسمّى بعد ذلك بحيّ “الحريقة”، وما الذي حدا بطلعت حرب أن يطلب من فنّانٍ سوريّ أن يرسمه؟

مثل هذه المفاجآت ليست حكراً على حمص.. فـ”الجابية”، قرب نوى في حوران ومنها “باب الجابية الدمشقي”، عاصمة الغساسنة التي قدِمَ إليها عمر الفاروق (عمر بن الخطاب) للعهدة مع أهل القدس، وحيث تمّ التحكيم في خلافة الأمويين، تحتوي هي أيضاً قدرها من الإضاءات التي تؤسِّس لنظرة مختلفة للتاريخ.

وهذه المفاجآت ليست أيضاً مجّرد حكرٍ على ماضٍ سحيق. هكذا أخذ بحثٌ عن تاريخ فنّانٍ ورسومه في القرن العشرين إلى قصصٍ غائبة، أو مُغيّبة، عن الوعي أو عن دورها اليوم.

إحدى تلك القصص تربط مصر مع بلاد الشام بضعة عقود قبل محاولات الوحدة مع مصر جمال عبد الناصر. فما الذي جلب طلعت حرب، “أبو الاقتصاد المصري” بعد ثورة 1919 ومؤّسس “بنك مصر” و”مصر للطيران” إلى الشام شهراً قبل أن تتفجّر “الثورة السوريّة الكبرى” ضدّ الانتداب الفرنسي عام 1925؟ وقبل قصف وتدمير حيّ “سيدي عامود” الذي كان يحتوي على أجمل بيوتات الشام العريقة، كي يسمّى بعد ذلك بحيّ “الحريقة”، وما الذي حدا بطلعت حرب أن يطلب من فنّانٍ سوريّ أن يرسمه؟

لقد كان طلعت حرب يريد أن يؤسّس في بلاد الشام أيضاً بنكاً عماداً لاقتصادها كما في مصر. وعاد في 1928، بعد القضاء على “الثورة السوريّة الكبرى”، كي يؤسّس ذلك البنك فعلاً كمصرف “مصر- سوريا – لبنان”. هذا في زمنٍ لم يكن أيٌّ من تجّار بلاد الشام يرضى التعامل بالليرة السورية الورقيّة المرتبطة بالفرنك الفرنسي، بل بالجنيه المصري الذهبي.. ومن هنا تعبير “المصاري” عن النقود في بلاد الشام. لكن أين تراث “طلعت حرب” عن تلك الفترة سوى الخطابين الذين ألقاهما حينها؟

لقد عاد الرابط بين مصر وسوريا ليتجدّد إبّان الحرب العالميّة الثانية ودخول قوّات الحلفاء في 1941 لطرد قوّات الانتداب الفرنسي الموالية للنازيين، وفي الوقت نفسه والتوقيت ذاته، قمع البريطانيّون “ثورة” رشيد علي الكيلاني، رئيس وزراء العراق الملكيّ الهاشميّ. لقد أعلنت بريطانيا حينها، كي تكسب ودّ العرب، أنّها تدعم فكرة “الوحدة العربيّة”، وخاصّةً أن الفرنسيين اضطرّوا إلى الاعتراف باستقلال سوريا ولبنان عبر إعلان الجنرال كاترو. فانطلق التنافس بين مشروعٍ وحدويّ هاشميّ، قاعدتاه العراق والأردن المواليّتان بشدّة لبريطانيا، وبين مشروع “وحدة” قاعدته سوريا ومصر، التي كان رئيس وزرائها مصطفى النحاس باشا يتصارع حينها مع الانتداب البريطاني بعد نفيه بعيداً عقب ثورة 1919. لم يكن لدى الوطنيّين المصريّين والسوريّين أدنى ثقة بالوعود البريطانيّة، لأنّهم حنثوا بوعدهم خلال الحرب العالميّة الأولى ولأنّهم كانوا يشجّعون حينها هجرة اليهود إلى فلسطين. هكذا حفلت تلك الفترة بالأحداث، وبينها اعتقال الفرنسيين عام 1943 للرئيس اللبناني المنتخب بشارة الخوري ورئيس وزرائه رياض الصلح وعدد من القادة اللبنانيين. وكان على المحكّ مصير بلدان المنطقة بعد نهاية الحرب العالميّة الثانية والانتدابات وصعود الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي كقوى أساسيّة مقابل القوى الاستعماريّة القديمة.

إقرأ على موقع 180  تركيا تفتح ذراعيها للخليج.. مصالحات ومصالح

لقد أصرّ الرئيس شكري القوتلي ورئيس وزرائه سعد الله الجابري، الذي قاد مباحثات الاسكندريّة مع مصطفى النحاس، أن تكون الوحدة شاملة وأن تضمّ أيضاً السعودية واليمن. إلاّ أنّ بريطانيا غيّرت موقفها وأصدرت بياناً تتحدّث به عن “جامعة عربيّة”، وهو ما تأسّس فعلاً بعدها عبر “بروتوكول الاسكندريّة”. لقد سقطت وزارة النحاس باشا ثم شهدت سوريا قصفاً لبرلمانها. إلاّ أنّ الرئاسة السوريّة طلبت من فنّانٍ سوريّ، هو سعيد تحسين، أن يخلّد بلوحة “مشاورات وحدة بين مصر وسوريا”، سبقت كثيراً فترة الرئيس جمال عبد الناصر والزخم العربيّ الذي لحق تأميم قناة السويس.

هذان المثالان يُذكّران، اليوم، وفي خضّم العواصف التي تعصف ببلادنا، أنّنا بأمسّ الحاجة إلى إعادة قراءة التاريخ عبر سبر آثارٍ لا تحكيها أغلب السرديّات المتواتر عليها في الخارج.. كما في بلادنا. بعض هذه الآثار يُعرّفنا على ضوءٍ آخر عبر بذل الجهد لإبرازه وللحفاظ عليه، كي يؤسَّس لما بعد زمن العواصف.

Print Friendly, PDF & Email
سمير العيطة

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  الثورات تنتكس ولا تموت.. مصر نموذجاً