بعد حرب أوكرانيا ثمة خشية متعاظمة من دخول العالم في متوالية شح الموارد والطاقة والغذاء والسلع والخدمات، بداية من رمال البناء وصولاً إلى الحبوب والقمح، واستفحالها بشكل لا يمكن السيطرة عليه وإدارته كما جرت العادة في العقود الماضية.
يتوازى ذلك مع تغير المناخ وأزمات الطاقة، سواء الندرة أو التحول للطاقة النظيفة، وأمن الملاحة واستقرار سلاسل الإنتاج والتوريد، وهي العناوين التي باتت مهيمنة على معترك الصراعات بين القوى الكبرى، ليس فقط على أرضية التصارع على الموارد، ولكن أيضاً حول من يستطيع إدارة الأزمات والكوارث المتتالية، عادية ومصطنعة، وتكون خسائره أقل حدة من منافسه/عدوه، وبالتالي يكون الفائز طبقاً لحزمة من المصالح الاستراتيجية والمستقبلية، وليس لحسابات الحرب التقليدية من حيث الخسائر في البشر والممتلكات. وهو ما يجعل – على مقياس العولمة – سكان الكوكب كله، وعلى نحو غير مسبوق في تاريخ الحضارة الذكية للبشر، أطرافاً في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، بل حتى أنهم يتحملون ويلات الحرب في موضوع الغذاء مثلاً، أكثر من أطرافها الرئيسية.
كُرة المجاعة
لم تتوقف أزمة الغذاء المركبة عند أزمة سلاسل التوريد، بل امتدت إلى المصدر نفسه، حيث أن كلاً من روسيا وأوكرانيا تتصدران بلدان العالم المصدرة للحبوب والمنتجات الزراعية/الغذائية الأساسية من قمح وحبوب وأسمدة بنسبة تتجاوز ثلث انتاج العالم؛ فالأولى ترزح تحت العقوبات، والثانية تفقد سواحل وموانئ تصديرها الرئيسية على البحر الأسود، وهو ما جعل هذه الأزمة للبلاد المستوردة بمثابة فرصة سياسية للبلاد المصدرة وعلى رأسها كييف وموسكو؛ فيأتي تأكيد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لرئيس الوزراء الإيطالي، ماريو دراجي، أن موسكو مستعدة لتقديم «مساهمة كبيرة» في تفادي أزمة الغذاء العالمية الوشيكة، واستئناف تصدير الحبوب والأسمدة، “مقابل رفع العقوبات والقيود الغربية المسيسة»، كما جاء في البيان الصادر عن الكرملين.
على نفس المنوال وخلال أقل من شهرين، انتقلت الهند من النقيض للنقيض في ما يخص تصدير القمح؛ حيث أعلنت نيودلهي في بداية الحرب الأوكرانية سعيها لتأمين احتياجات العالم من القمح وسد العجز الناتج عن انشغال أكبر المُصدرين له في الحرب، لتتراجع عن ذلك قبل منتصف الشهر الماضي بقرار حظر التصدير، بحجة انخفاض انتاج القمح بسبب القحط (حصاد هذا العام أقل من 5% عن العام الماضي، ليصل إلى حدود 105 ملايين طن، مقابل المستوى القياسي لإنتاج العام الماضي الذي بلغ 109 ملايين طن)، فيما راكم الصينيون معدلات تخزين احتياطي محلية ومستوردة قياسية تقارب المليار طن، أي ما يسد احتياجات الصينيين (مليار و400 مليون نسمة) لمدة أقل من عامين.
المنطقة ومصر.. ما العمل؟
لا تُحسد دول المنطقة وعلى رأسها مصر، حيث تستورد القاهرة من موسكو وكييف حوالي 80% (60% للأولى و20% للثانية) من مجمل ما تستورده من القمح بخلاف الحبوب الغذائية الأخرى، ناهيك عن كونها أكبر مستورد للقمح في العالم لسد حوالي نصف احتياجاتها السنوية، ويشكل رغيف الخبز محور الغذاء على المائدة المصرية بمختلف تنويعاتها الطبقية والجغرافية، وتوفره الدولة كالتزام تاريخي منذ 1952، وهو ما جعل استجابة الحكومة لهذه الأزمة متدرجاً وما قلص إمكانية تحويل الأزمة إلى فرصة على غرار ملفي الطاقة والملاحة.
يمكن اعتبار أزمة القمح نموذجا لمستجدات الصراعات الدولية وانحدارها للتهديد بالمجاعات كمحدد جديد لن يخفت استخدامه في المستقبل القريب، كذلك تمثل الاستجابة المصرية دليلا استرشاديا لإدارة دول الأطراف وتفاعلها مع هذا المُحدد المستجد، حيث خلق توازنا يقيها العَوز ويقطع الطريق على محاولة استغلاله للضغط على القاهرة في ملفات إقليمية ودولية
اتضحت حدود هذه الإمكانية على المدى القريب بتوظيف مصر موقعها كأكبر مشترٍعلى مستوى العالم للقمح وأكثرهم استدامة، وهو ما عزز إمكانية استثناءها من الحظر الذي أعلنته الهند مطلع الشهر الماضي، حيث حددت مصر سوق الحبوب الهندي كسوق رئيسي لمشترياتها من القمح، عوضاً عن السوقين الروسي والأوكراني، أي ما يقارب 8 مليون طن سنوياً (حوالي 8% من انتاج الهند من القمح). وهو ما حدث بدرجات مختلفة في ما يتعلق بمشتريات القاهرة من القمح الروسي والأوكراني منذ بداية الحرب، على محطات أبرزها رفض الشحنة الأوكرانية المسروقة، وإعلان بوتين عن مشروعات مع دول المنطقة وعلى رأسها مصر والإمارات تتعلق بالأغذية والحبوب والقمح والموانئ، وذلك قبيل زيارة الرئيس البولندي أندجي دودا للقاهرة وبحثه فيها ملفات الغاز المُسال والقمح وارتباطها بمجريات الصراع في أوكرانيا وسوق الطاقة الأوروبي وقرار حظر الطاقة الروسية.. أوروبياً.
هذه الاستجابة تتعلق بتحديات أبرزها على مستوى الخارج إدارة توازن دقيق ينأى بمصر عن اصطفافات عالمية تشكلت منذ بداية الحرب الأوكرانية، والتي قد يكون معظمها متوهم ودعائي، ولكن بالتأكيد ثمنها حقيقي وجسيم إذا ما ارتبط بملف حيوي مثل ملف تأمين القمح، وهو ما جعل الإدارة المصرية تسعى لتخفيف حدة انعكاسات تسيس الغذاء بين القوى الكبرى على المصريين، وذلك وفق منهجية ليست بالمستجدة وتم تجريبها مع ملفات وأزمات طارئة مثل أزمة ايفرجرين وحرب غزة العام الماضي، ومستدامة مثل الملف الليبي وغاز شرق المتوسط وسد النهضة، ومفادها تحويل الأزمات إلى فرص، أو بالحد الأدنى الحيلولة دون تحولها إلى كارثة أو تهديد مستمر.
هنا نجد أن الغذاء والقمح تحديداً، باتا محدداً رئيسياً في ضبط أولويات السياسة الخارجية لمصر في ما يتعلق بتفاعلها مع الحرب في أوكرانيا، حيث إدارة توازن دقيق وبراجماتي على مستوى إقليمي ودولي ينحاز لمصالحها وأولويات أمنها القومي، وهو ما يتطلب التحوط والتوازن كمنهج لإدارة الأزمات، وتحويل ما يمكن منها لفرص مثلما حدث في أزمات كورونا وتوفير اللقاح ومؤخراً المساهمة في تعويض الغاز الروسي في الأسواق الأوروبية وأزمة الدفع بالروبل، وهو ما تكرر بشكل نسبي في سياق القمح من حيث خلق حالة استثناء للزبون الأول على مستوى العالم في السوق الهندي، وهو ما قد يتكرر بالنسبة للقمح الروسي والأوكراني من حيث استثناء مصر من العقوبات واقتناص فرصة إمكانية فتح ممرات آمنة لتصدير الحبوب من سواحل البحر الأسود أو عبر رومانيا وبولندا، باستدامة توازي استدامة عقود الغاز المُسال. وهو ما يلتقي مع حاجة القوى الدولية والإقليمية للدور المصري على مستويات إقليمية ودولية، والمستند إلى واقع جغرافي وديموغرافي يمتد تأثيره عربياً وافريقياً في ملفات الطاقة والملاحة والدواء الغذاء والأمن والهجرة وغيرها، والتي تعاظم أثرها وأهميتها في ضوء متغيرات الحرب الأوكرانية.
التحوط وتعظيم الموارد
على مستوى الداخل، يجب الإشارة أولاً إلى أن الأزمة الجارية جاءت مع موسم حصاد القمح المحلي، ورفع الحكومة المصرية سعر شراءه من المزارع بأسعار تنافسية جعلت – بجانب الإجراءات السابقة- توقعات الإنتاج المحلية من القمح تقارب 10 مليون طن، أي أكثر من 50% من احتياجات مصر من القمح.
توازى هذا مع مستوى غير مسبوق من المكاشفة والشفافية الحكومية وتمثل في دقة البيانات والأرقام والنسب والأمدية الزمنية التي تعلنها حكومة مصطفى مدبولي، وغياب مبدأ التطمين المُجهل، لحساب التطمين المدعم بالبيانات والأرقام وبإجراءات على أرض الواقع وفق قاعدة بيانات لكل محافظة من حيث عدد الأفدنة المزروعة وتوقعات الحصاد والتوريد للمطاحن والصوامع، بحيث بات السقف الزمني المعلن الذي تضمنه الحكومة لعدم حدوث أزمة في القمح ومعظم السلع الغذائية، نهاية 2022. وتأتي الجهود المبذولة في الداخل والخارج لتأمين احتياجات الفترة القادمة ابتداء من العام القادم.
ويتضح من مجمل البيانات الحكومية، تطور مشروعات الأمن الغذائي البادئة منذ 2014، والتي تتمحور حول استراتيجية الاكتفاء الذاتي وتغير الاستراتيجية الزراعية لمصر، كماً وكيفاً، حيث التوسع في استصلاح الأراضي بتقنيات الاستدامة والري الحديث لإضافة 3 مليون فدان بحلول 2025 للرقعة الزراعية، واستبدال محاصيل التصدير والزينة التي طغت أواخر عهد حسني مبارك، بمحاصيل استراتيجية على رأسها القمح، للوصول إلى نسبة اكتفاء 65% خلال العامين القادمين، واستخدام بذور مطورة محلياً تزيد من إنتاجية الفدان وتبتعد عن عقوبات حقوق الملكية الاحتكارية لشركات الحبوب العالمية، وكذلك تطوير البنية التحتية المرتبطة بالحبوب الغذائية وعلى رأسها الصوامع وموانئ الشحن والتفريغ، وصولاً إلى ضبط التداول والاستهلاك والأسعار المتعلقة برغيف الخبز ومنظومة دعمه الحكومية.
في الصورة العامة، يمكن اعتبار أزمة القمح نموذجا لمستجدات الصراعات الدولية وانحدارها لاستخدام سلاح الغذاء والتهديد بالمجاعات كمحدد جديد لن يخفت استخدامه في المستقبل القريب، كذلك تمثل الاستجابة المصرية دليلا استرشاديا لإدارة دول الأطراف وتفاعلها مع هذا المُحدد المستجد، حيث خلق توازنا يقيها العَوز ويقطع الطريق على محاولة استغلاله للضغط على القاهرة في ملفات إقليمية ودولية. بإختصار، ثمة مؤشرات لبلورة صيغ اقتصادية واجتماعية وسياسية، ستكون بمثابة عنوان لـ”الجمهورية الجديدة”، التي يتم تدشينها في موازاة أزمات عالمية غير مسبوقة، كماً وكيفاً ووتيرة ووطأة، منذ إعلان “الجمهورية القديمة” عام 1953.