كان يُفترض بالعملية السياسية التي عرفها العراق بعد عام 2003، أن تنقل الواقع السياسي والإجتماعي العراقي إلى أفق جديد يعيد اتصال العراق بتاريخه المُنير كمهد للحضارة الإنسانية الأولى أو احد مهودها القلائل، إلا أن النظر في اضطراب أهل السياسة في العراق وتنازعاتهم واحتراباتهم وقلة حيلتهم في بناء دولة عصرية وإنتاج هوية وطنية جامعة تقوم مقام الهويات الفرعية المتقاتلة من مثل العشيرة والقبيلة والقومية والطائفية، جعل جمهورا واسعا من العراقيين يفيض أسفا على نظام سقط قبل حوالي عشرين عاما.
ما أسباب ذلك؟ وأين تكمن العلة؟
في عقود سابقة على عقد الثمانينيات من القرن الماضي، راجت مقولة شهيرة في طول الأقطار العربية وعرضها “أن القاهرة تؤلف وبيروت تطبع وبغداد تقرأ”، ولم تكن تلك المقولة عارية من الصحة وإن لم تلبس أو تلمس تمامها ومطلقها، لكنها اختصرت نهم العراقيين للقراءة وإقدامهم الواسع على المعرفة، وفي تلك الفترة، أي بين العشرينيات والثمانينيات أعطى العراق للعرب عقولا فذة في الفكر والشعر والتأريخ وسائر أجناس العلوم والمعرفة التي يصعب حصرها، ومن بين تلك القامات عالم الإجتماع العلامة علي الوردي.
علي الوردي: “نجد الشعب العراقي واقعا بين نظامين متناقضين من القيم الإجتماعية، قيم البداوة الآتية من الصحراء المجاورة وقيم الحضارة المنبعثة من تراثه القديم”
غادر علي الوردي الحياة الدنيا عام 1995 (مواليد 1913) مخلفا آثارا تأليفية في علم الإجتماع لم يناظره في عمقها عربي آخر على الأرجح، صحيح انه تناول بصورة أساسية الشخصية العراقية كفرد وجماعة، غير أن أعماله تشكل قاعدة علمية لا مناص منها لدراسة المجتمعات العربية الأخرى، وفي قائمة تلك الأعمال “شخصية الفرد العراقي” و”طبيعة المجتمع العراقي” و”وعاظ السلاطين” و”مهزلة العقل البشري” و”خوارق اللاشعور” و”أسطورة الأدب الرفيع” و”الأحلام بين العلم والعقيدة” و”منطق إبن خلدون” وموسوعة “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث” وغيرها.
ما يعني هذه المقالة الإستعانة بالقواعد والأمثلة التحليلية التي اعتمدها علي الوردي في دراسته لشخصية الفرد والمجتمع في العراق، إنما مع تجاوز مصطلحي “الفرد والمجتمع” وإسقاط هذه القواعد على الشخصية السياسية في العراق، ولعل هذا الإسقاط يضع نقاطا على حروف كثيرة من العلل السياسية الضاربة في العراق بعد عام 2003.
أولاً؛ في القيم العشائرية والقبلية:
في الفصل الأول من “دراسة في طبيعة المجتمع العراقي” يقول علي الوردي “خلال دراستي للمجتمع العراقي وجدتُ فيه ظاهرة اجتماعية كنتُ ألمحها اينما توجهتُ في نواحيه المختلفة، وهي التي أسميتُها بظاهرة الصراع بين البداوة والحضارة، وهنا نجد الشعب العراقي واقعا بين نظامين متناقضين من القيم الإجتماعية، قيم البداوة الآتية من الصحراء المجاورة وقيم الحضارة المنبعثة من تراثه القديم”.
يضيف علي الوردي “مما يلفت النظر في أمر البداوة والحضارة أنهما متعاكستان في كثير من قيمهما الإجتماعية، البداوة ميالة نحو النفرة من الدولة، العصبية القبلية في البداوة تحل محل الدولة وتقوم بوظيفتها، البدوي يعتز بقبيلته وأما الدولة في نظره فليست سوى نظام للذل ودفع الضريبة، ومثل هذا يمكن أن نقول عن الإحتراف، ونقصد به اتخاذ حرفة او مهنة، إن البدوي يعتبر الإحتراف ذلا ومهانة، والظاهر أن لفظة المهنة في اللغة العربية مشتقة من مهانة، إن البدوي مقاتل يحترم الغزو والنهب ويحتقر الرزق عن طريق العمل”.
هذا التشخيص الذي يخلص إليه الوردي ويستعيده مرات عدة في كتب أخرى، يوصل إلى سؤال راهن عما كان اذا كان أهل السياسة في العراق قد نزعوا عنهم نموذج الشخصية البدوية التي تتضارب مع مؤسسات الدولة التي تتطلب خضوعا لقوانينها ورضوخا لإجراءاتها، وهو أمر غير ظاهر في تعاطي الشخصية السياسية العراقية مع هياكل الدولة وثرواتها الوطنية، فكثير من السياسيين العراقيين يرون في الدولة عائقا لحريتهم ونفوذهم وحركة زعامتهم، فضلا عن النظر إلى الثروة الوطنية العراقية بإعتبارها مغنما لهم يتوجب تحقيقه بالسلب، ومن هنا بالذات يتشعب الحديث في العراق عن الفساد الذي لا تنتهي فصوله.
“في خوارق اللاشعور” ينتقد علي الوردي المنطق الظاهري للفيلسوف اليوناني أرسطو والقائم على التسلل من المعلوم إلى المجهول ومن المقدمات وإلى النتائج، وهو منطق إطلاقي عنيف يأخذ بظاهر الصورة ولا ينفد إلى أعماقها ويستقر على إجحاف جامد في النتائج وعلى عجز قاصر في الأحكام، ومن أمثلة ذلك ما يردده السياسيون العراقيون عن “الواقع البدوي” العشائري والقبلي في العراق استنادا إلى منطق أرسطو وقياساته:
المجتمع العراقي عشائري وقبلي
والقيم العشائرية والقبلية متأصلة في المجتمع العراقي
وبما أنه لا يمكن تغيير هذه القيم لا يمكن تغيير المجتمع العراقي وإصلاحه
وبما أنه يستحيل تغيير أو إصلاح المجتمع العراقي فلا يمكن بناء دولة إلا على مثال الواقع.
والنتيجة في مثل هذا القياس ترسو على وجود “دولة” في الظاهر بينما يُكرّس المضمون مشروع “اللادولة” التي تنفر منها العشائر والقبائل والطوائف والأقوام التي يتخذ منها أهل السياسية العراقيون “ذريعة واقعية” لسد المنافذ أمام قيام الدولة الوطنية الجامعة، وهذا ما يجعل العراق الحالي طُعما دائما في منطقة النار.
علي الوردي: “أصبح الفرد العراقي معتادا أن يخطب ويكتب في حدود ما يستوجبه الدين ويقتضيه المنطق ولكنه لم يستطع أن يغير من طراز حياته اليومية شيئا ولذلك صار متقمصا شخصيتين أو ذاتين مختلفتين، ذات يفكر بها وذات يعمل بها”
ثانياً؛ في النزعة الطائفية:
ليست الطائفية بالأمر المستجد على العراق، ولكنها لم تكن على المستوى الحالي من الإضطرام والتأجيج، على الأقل طوال القرن الماضي، وقد لا يوجد سياسي عراقي في الوقت الراهن لا يذمها ولا يتعرى منها، ذلك في الخطاب العام، وأما في السلوك السياسي فيغور في أعماقها ويغذي مشاعلها ومواقدها، وهذا ما يسميه علي الوردي بـ”إزدواجية الشخصية”، فحين يُشيد السياسي العراقي بالوطنية يكون صادقا أمام الملأ والجمع، وحين يُثني على العصبية الطائفية أمام “جماعته” يكون صادقا أيضا، فما السبيل إلى حل هذه الإشكالية إذا؟
قبل الإجابة، يفرض واقع الكتابة عن العراق لزوميات العودة إلى كتابات علي الوردي، ففي “شخصية الفرد العراقي” يلاحظ “أن الطفل ـ العراقي ـ يلعب في الزقاق وتنمو شخصيته فيه، والغريب أن أطفالنا في العراق يخرجون إلى اللعب في الأزقة سواء كانت بيوتهم ضيقة أو واسعة، وهكذا يجد الطفل العراقي مجالا رحبا في الأزقة فيؤلف فيها مع أقرانه وأبناء جيرته ما يشبه العصابات، وأن مدار التباهي في الزقاق ينحصر في الإستقطاب، وتنمو في نفس الطفل العصبية المحلية، وقد تتحول هذه العصبية عند الكبير إلى عصبية عشائرية أو بلدية أو طائفية أو ما أشبه، لكن هذه النزعة الزقاقية في الطفل العراقي سرعان ما تختفي في الكبير تحت ستار من الوقار المصطنع”.
ليس أكثر من السياسيين اصطناعا للوقار، ومثل هذا الإصطناع قد يكون مغفورا للجمهور والعامة، وأما من يتقلد مناصب سامية فأي غفران له؟ ذلك ان سلوكه المصطنع والناتج عن إزدواجية في قاع شخصيته الباطنة غالبا ما يهدف إلى تجميع الأتباع على ضلالة عصبية لأجل موقعه الوجيه أو سلطته النافذة، وبمعنى أوضح، فتغذية العصبية الطائفية بغية مكاسب في الحُكم والسلطة، تندرج في سياق ممارسة الخدعة والدهاء على الجمهور لجني الأرباح الذاتية، وفي هذا المضمار عودة إلى الصلة بين “الخدعة وتربية الأزقة” كما يشرحها علي الوردي.
في “دراسة في طبيعة المجتمع العراقي” يتحدث الوردي عن المغالبة والمخادعة وهي:
ـ “القدرة على النهب والإغتصاب، فإن مقدار الغنيمة التي يحصل عليها الطفل في غاراته تُعد مفخرة له، ولكن لا يقسمها على أصحابه كما يفعل البدو في غنائمهم، بل هو يحتكرها لنفسه وقد يتحداهم بها”.
ـ “القدرة على خداع الغير والكيد به، ولهذا نجد كل طفل منهم يحاول انتهاز الفرص لكي يخدع غيره في أمر من الأمور، وهم يصفون قوي الحيلة منهم بأنه يأخذ صاحبه إلى النهر ثم يرجع به عطشانا، أي أنه قادر أن يخدع صاحبه”.
ـ “الضحك على الغير والإستهزاء به، وهو في نظرهم نوع من الغلبة والمقدرة، فهم يحاولون أن يجدوا أحدا منهم بليدا أو سريع التصديق لكي يضحكوا عليه، وكلما ازداد تصديقا لهم ازدادوا في استضعافه والإستهزاء به”.
في “ثلاثية الخداع” تلك، يبدو الجمهور مستضعفا ومن أضاحي الخطاب المزدوج لدى أهل السياسة، و”إن هؤلاء المزدوجين يمثلون إحدى مشاكل المجتمع العراقي الحديث، فهم قد ينالون الشهادات العالية أو يتسنمون مراكز النفوذ والزعامة، فإذا كتبوا او خطبوا جادوا بالمبادىء، إنما في سلوكهم الواقعي لا يختلفون عن غيرهم من الناس”.
ثالثاً؛ في الخطاب السياسي:
يتسم هذا الخطاب بالمثاليات البلاغية التي لا يمكن إدراجها على أرض الواقع، ومع أن أهل السياسة العراقيين يدركون ذلك، فإنهم يصرون على التمسك بها من دون طائل ومن دون رغبة في تطبيقها.
وفي كتابه “شخصية الفرد العراقي” يقول الوردي “إن المجتمع العراقي كان في صدر الإسلام موطنا لكثير من اقطاب التفكير الديني وأعلام المنطق والفلسفة، وهؤلاء الأعلام الأخيار طبعوا التفكير العراقي بالنمط المثالي وجعلوا الشعائر السائدة تنشد احترام الواجب وتمج الأخلاق الفاضلة، ولذلك أصبح الفرد العراقي معتادا أن يخطب ويكتب في حدود ما يستوجبه الدين ويقتضيه المنطق ولكنه لم يستطع أن يغير من طراز حياته اليومية شيئا ولذلك صار متقمصا شخصيتين أو ذاتين مختلفتين، ذات يفكر بها وذات يعمل بها”.
تلك المثاليات التي تحولت تقليدا خطابيا لا تولد جدوى ولا تثمر عجوة، يعي الخطابيون أنها فعل عاقر، ولكنها من مزينات الخطاب ومحسناته ليس إلا، وجذورها عائدة إلى توارث الإستعارات والمجازيات من لغة الشعر، وفي ذلك يقول الوردي في”أسطورة الأدب الرفيع”:
“نشأت اللغة العربية بين قوم منهمكين في الشعر انهماكا غريبا، ولم يكن لهم مظهر نشاط عقلي سواه، فما دامت اللغة قد نشأت في مجتمع منهمك بالشعر، فلا بد أن تكون ذات خصائص ملائمة لطبيعة الشعر قليلا او كثيرا، إنها لا بد أن تكون لغة عاطفية تهتم باللفظ الرنًان أكثر مما تهتم بالمعنى الدقيق”.
إن اعتماد الخطاب السياسي العراقي على لغة الشعر العاطفية والمجازية له غرضان، الأول إثارة عواطف الجمهور، والثاني عدم الإلتزام بالمعاني الدقيقة (البرامج العملية) للخطاب انطلاقا من كثافة الإستعارة والمجاز، وعلى هذا المقياس يقيس علي الوردي ويقول:
“الواقع أن هذا ليس بالأمر المستغرب بالنظر إلى وظيفة الشعر في الحياة الإجتماعية التي نشأ فيها، فالشاعر ـ هنا يتماثل مع الخطيب السياسي ـ لا يبالي بالحقائق ـ وهذه اللامبالاة من حيث الصدق في تصوير الأمور تبدأ لديهم منذ أول تمرينهم على نظم الشعر، حتى إذا كبروا صارت فيهم عادة مألوفة لا يجدون فيها حرجا ولا يخجلون منها”.
وفي معرض نقده لظواهر المنتوج ـ والخطاب ـ اللغوي والبلاغي والشعري قبالة ندرة المنتوج العلمي يستشهد الوردي في كتابه “من وحي الثمانين” بما يقوله المفكر الجزائري جيلالي اليابس “إذا كانت المنشورات العلمية من أهم مؤشرات التطور لبلد ما، فيمكن أن نلمس من ذلك مدى تخلفنا، حيث نجد مئات الجرائد وآلاف الكتب والعناوين الأدبية والبلاغية والتراثية، ولا نجد في المقابل جريدة أو مجلة علمية ذات مستوى معقول تناقش مسائل التطور العلمي والتكنولوجي في الوطن العربي، ألا تعد هذه مشكلة خطيرة؟ والمشكلة أننا ما زلنا قوما نقصر اهتمامنا الفكري على الأدبيات والشعر والعروض والبلاغة”.
أسقطت “النخبة السياسية” العراقية النظام الملكي عام 1958 ولم يتغير العراق لأن تلك النخبة لم تعمل على التغيير، وعملت “النخبة” على إسقاط نظام صدام حسين عام 2003 ولم تصلح أمور العراق لأن “النخبة” تأبى إصلاحه أو لا تعرف طريقا للإصلاح
إلى جانب الخطاب السياسي البلاغي، ثمة ارتفاع من دون سقف لخطاب الشتائم والتحريض، وهو أمر كان لاحظه علي الوردي منذ الإنقلاب على النظام الملكي عام 1958، وفي المقارنة مع مرحلة ما بعد 2003، يتوقف المراقب أمام استعادة كاملة للتنازعات العصبوية وخطابات التحريض والكراهية التي سادت إثر إطاحة الحُكم الهاشمي وشاعت بعد إسقاط نظام الرئيس صدام حسين، وكأن الثابت يراوح في مدار يرفض التحويل والتغيير، وعن مرحلة ما بعد مجيء عبد الكريم قاسم يقول الوردي في “طبيعة المجتمع العراقي”:
“شهدنا في العراق من هاتيك المنازعات العنيفة شيئأ كثيرا إثر هزة الرابع عشر من تموز/يوليو، ظهر التنازع الجديد وهو مصبوغ بطلاء من الشعارات والمبادىء الحديثة، غير أنه كان في أعماقه يحتوي على جذوره القديمة، وجاء بعض المتعلمين يشجعون العوام في اندفاعاتهم، فأصبح كل من يخالفهم الرأي لا بد أن يكون خائنا أو عميلا للإستعمار”.
وفي “الأحلام بين العلم والعقيدة”، يتطرق علي الوردي إلى شيوع الشتائم في الخطاب الحزبي بعد عام 1958 ويقول “اشتد الصراع الحزبي عندنا في هذه الأيام وأخذ كل حزب يشتم خصومه وينسب إليهم التطرف والطيش واقتراف الجرائم، وقد ضاعت الحقيقة في هذا الصراع العنيف”.
ماذا يبقى من قول؟
يبقى التالي:
أسقطت “النخبة السياسية” العراقية النظام الملكي عام 1958 ولم يتغير العراق لأن تلك النخبة لم تعمل على التغيير، وعملت “النخبة” على إسقاط نظام صدام حسين عام 2003 ولم تصلح أمور العراق لأن “النخبة” تأبى إصلاحه أو لا تعرف طريقا للإصلاح، وعلى هذه الحال أين يكمن السبب؟ وفقا لعلي الوردي وفي إجازة نقلية من تحليله للفرد العراقي وإسقاطها على الشخصية السياسية العراقية أن السبب يتوارى خلف “إزدواج” الخطاب السياسي الذي يستظهر شيئا ويستبطن أشياء نقيضة.
في الختام قصة عن علي الوردي:
قال لي صديق عراقي موثوق قبل أيام، إن علي الوردي طلب مرة من صديق كان ذو مقام رفيع أن يتوسط لدى الرئيس صدام حسين بأن يتيح للوردي أن يذهب إلى تشيكوسلوفاكيا لأغراض علاجية، فرفض صدام إعطاء الموافقة ولما قيل له أين يذهب الوردي للعلاج؟ أجاب صدام حسين: إلى جهنم.
يبدو أن الإجابة بالذهاب إلى “جهنم” لغة مشتركة عند الرؤساء العرب!