وقتذاك، تداولت الصحف اللبنانية هذا الخبر بلغة التحليل وليس المعلومة، أن “التخريجة الدستورية” لانتخاب قائد الجيش اللبناني العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية صُنعت في منزل الرئيس السابق لمجلس النواب. لكن الرئيس حسين الحسيني “المُرتَب”، كما يُوصف، كان يعرف جيداً كيفية انتخاب الرؤساء الثلاثة (الجمهورية ومجلس النواب ومجلس الوزراء) في “الجمهورية الثانية” التي ولدت بعد إتفاق الطائف.. وكان يعرف أكثر أن هناك رئيساً “شاطراً جداً” في رئاسة مجلس النواب هو نبيه بري الذي يعرف من أين تُؤكل كتف المجلس النيابي ويملك من “أرانب التخريجات” وثعالبها ما يفيض عن هذه الهندسة السياسية السهلة في قاموسه السياسي.
***
يحمل الرئيس الحسيني بالاضافة الى اسرار اتفاق الطائف ومحاضره الخاصة خبرة عميقة في زواريب السياسة اللبنانية، وأن صناعة الرؤساء ليست لبنانية فقط. فعندما خُيّرَ الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد بين “المُرتّب” و”الشاطر”، اختار الثاني في العام 1992، في مؤامرة حيكت خيوطها بالشراكة مع “المقاول” و”البيك” وبعض الفريق السوري المكلف بادارة الملف اللبناني.
أيضاً كيف لحسين الحسيني أن ينسى نتيجة انتخابات العام 1992. حين طلب رئيس جهاز الامن والاستطلاع السوري اللواء غازي كنعان من وزير الداخلية الراحل الفريق سامي الخطيب تعميم رسوب “السيد حسين” في الإعلام اللبناني وأن دمشق تتدخل في النتائج البقاعية لانجاحه على حساب باقي المرشحين الشيعة أمثال ماجد حمادة نجل الرمز اللبناني الإستقلالي صبري حمادة، فصار فوز رئيس المجلس مشكوكاً فيه!
غير ان حارس محاضر اتفاق الطائف السرية بقي واقفاً على قدمين سياسيين: الدولة والتوافق.
عرف هذا الرئيس ان لبنان مجبول على التوافق. وان الدولة لا بد وان ترعى شؤون المواطنين والجماعات بالتكافل والتضامن. مهمة على قياس اقليم خرج للتو من صراع دولي يبحث عن التوازن بعد احتلال العراق للكويت في صيف العام 1990.
هذه المهمة الصعبة والمعقدة قطفها “الرئيس الشاطر” من فم حافظ الاسد. فقد دامت للرئيس نبيه بري كرسي الرئاسة الثانية مدة اكثر من غيره في تاريخ لبنان الكبير، لا بل ربما في تاريخ كل الأمم والدول.
مع رحيل الرئيس حسين الحسيني يطوي لبنان صفحة من تاريخه السياسي الأنيق بأمل ألا تضيع أوراق الرئيس السياسية من خزانة التاريخ. أتمنى على عائلته نشر محاضره الخاصة. لا يصح أن يكون تاريخنا شفهياً فقط.. الأُمنية الأخيرة أن يمن الله على لبنان برئيس وإنتظام مؤسساته حتى تتحقق أمنية الرئيس الراحل
هي بضعة امتار تفصل بين منزل “الرئيس المُرتَب” وبين “الرئيس الشاطر” في عين التينة حيث مقر الرئاسة الثانية. ما ان تصل الى مدخل منزل الرئيس الحسيني حتى تجد حارس الأمن مُرحباً ومُؤهلاً. لن تجد مظاهر فخامة او زعامة. بالرغم من ان الرجل ينتمي الى السادة من آل بيت رسول الله. وهو كان فخوراً بهذا الانتماء الذي شاركه معي في احدى الزيارات حين اخرج من خزانة مجلسه شجرة عائلة آل الحسيني الهاشمية. لكن هذا التجذر والانتساب لم يقف حاجزاً امام “الرئيس المُرتب” بالإنحياز إلى فكرة الدولة والمؤسسات، قبل أي إنتماء آخر.
***
في أحد اللقاءات وفي خضم تداعيات عودة التسونامي العوني (ميشال عون) الى لبنان على حد وصف وليد جنبلاط في ربيع العام 2005، بادرت الرئيس الحسيني متسائلاً “أيعقل أن النواب المسيحيين في مدينة الطائف كانوا على حق”؟ فابتسم نصف ابتسامة، وهو يجلس بكامل هندامه الرسمي، مستفسراً عن سؤالي. أجبته “يُقال إن النواب المسيحيين كانوا يقولون لزملائهم المسلمين لا تحكموا على الدستور من تجربتكم مع الرئيس امين الجميل”. ثم اضفت كيف ان المسلمين السنة والشيعة اليوم باتوا منقسمين على معنى الميثاقية في ممارستهم وتمثيلهم في الدولة وعلى اي دستور مبهم يتنافسون؟ وسارع الحسيني للقول إن المشكلة ليست في السياسة بل في رجالات السياسة.
تدحرج الحوار سريعاً وسرد لي مُتكئاً على ذاكرته الحادة والحاضرة مثالاً عن كيفية عمل رجل السياسة في لبنان. يوم عَيّنَ الرئيس سليمان فرنجية الضابط نورالدين الرفاعي رئيسا لحكومة عسكرية من دون موافقة ما تسمى “الجبهة الاسلامية” وحزب الكتلة الوطنية.. يتذكر الرئيس الحسيني كيف اتصل رئيس حزب الكتائب الشيخ بيار الجميل على وجه السرعة عارضاً التدخل لحل الأزمة الدستورية الخطيرة غير المسبوقة وبحثاً عن توافق ميثاقي! وفجأة صرنا أمام محاضر في الديموقراطية بنسختها اللبنانية وكيفية ممارسة أعرافها وتقاليدها من خلال نماذج تاريخية متعددة وبكثير من العمق والتفاصيل، وكيف تأثرت هذه الممارسة بشخصية جبل لبنان.. وهو ابن هذا الجبل من قرية شمسطار البقاعية التي كانت في صلب لبنان قبل أن يكون كبيراً، أي قبل ضم الأطراف اللبنانية إليه ولا سيما البقاع اللبناني.
أكمل الرئيس الحسيني قائلاً إن المفارقة في هذه الحادثة أن استقالة الوزير بهيج طبارة وزملاءه من أبناء الطوائف الإسلامية من تلك الحكومة جاء مستنداً إلى عدم ميثاقيتها، ما أفضى الى استقالة حكومة الرفاعي، غامزاً بالتالي من قناة حكومة الرئيس فؤاد السنيورة “غير المسؤول” وقتها، على حد تعبيره. سألته “هي مشكلة افراد اذاً وليست مشكلة دستور”؟ هنا استدرك الرئيس مُتنهداً قائلاً “للأسف في الجمهورية الاولى كانت المشكلة مع الافراد، اما اليوم فالمشكلة هي في النص والممارسة والافراد”.
***
آخر لقاء لي معه كان في العام 2016 على بوابة طائرة شركة طيران “الميدل ايست” المتجهة من مدينة نيس الفرنسية الى مدينة بيروت. كان لبنان يعاني من الفراغ الرئاسي أيضاً. بعد السلام والتحية سألته “متى يرحل الفراغ”؟ أجاب “حين يُطبّق الدستور”. و”من يطبقه ومتى” سألته؟ رفع يديه إلى السماء مبتهلاً “إلى أن يمن الله على لبنان برئيس ودولة مؤسسات”.
***
مع رحيل الرئيس حسين الحسيني يطوي لبنان صفحة من تاريخه السياسي الأنيق بأمل ألا تضيع أوراق الرئيس السياسية من خزانة التاريخ. أتمنى على عائلته نشر محاضره الخاصة. لا يصح أن يكون تاريخنا شفهياً فقط.. الأُمنية الأخيرة أن يمن الله على لبنان برئيس وإنتظام مؤسساته حتى تتحقق أمنية الرئيس الراحل.