الفلسطيني الجديد لا يقول. يفعل. يأتي من الحضن المضاء بالدماء. هو لا يحتاج إلا لدمه. دمه ينطق فعلاً. يصيب ويبث الهلع في قوافل العسكر المعادي. دمه أيقظ أملاً. كل الآمال السالفة تعثرت بالأخطاء والانعطافات والمساومات.. المقاومات الفلسطينية انفقت دماءً بلا جدوى.
الفلسطيني الجديد، في فلسطين، لا يشهر اسمه. لم يأتِ من تنظيم. لم يقرأ في عقيدة. لم يؤمن بسياسة العطاء المذل. يرفض ماضياً دامياً، بلا أي رصيد واقعي.. انه لا يشبه أحداً. هو الشبه والشبيه. هو الوسيلة والغاية. هو الحُر في أفق التحرير.
الفلسطيني الجديد، من فلسطين الشهادة، لا يشبه أبداً ماضي النضالات الفلسطينية الخاسرة. تضحيات شاهقة. خسائر فادحة. دماء كثيرة أمينة ومؤمنة ذهبت هباء.. قيادات ومنظمات وحركات قلّدت الأنظمة. احتمت بها وتمَّ اغتيالها بسهولة مريعة. ما أقدمت عليه القوى الفلسطينية المسلحة كان وبالاً. الغريب، في ذلك الزمن الرديء، أن التناقض الذي حصل، هو تناقض بين المقاومة الفلسطينية والأنظمة العربية المحيطة بـ”إسرائيل”. حاولت منظمات التحرير أن تتشبه بعساكر الدول العربية. علماً أن هناك فرقاً وتناقضاً، بين العسكرة والمقاومة. لقد عسكروا المقاومة. فشلوا. وطُحنت فلسطين مراراً.
يومها، كنا نصدق الإذاعات. نتعلق بالتصريحات. ندمن الاصغاء للخطب. أشدنا بجمال عبد الناصر. آمنا بالأحزاب القومية والراديكالية. فرحنا بالتهديدات اللفظية. كدّسنا الخسائر. طحنت القضايا مراراً. ظلت فلسطين المحتلة في عراء، باستثناء خميرة، ظلت تعمل، برغم البؤس السياسي العربي، لتحرير فلسطين من الأوهام العربية والاثقال الإسرائيلية الباهظة.
الفلسطيني الجديد، لم يعد يُصدّق الإذاعات والتصريحات. لا يُصدّق إلا على قبضته ودمه. التهديدات اللفظية مجرد “بوب كورن”.
الفلسطيني الجديد ليس وحيداً ابداً. الشعوب العربية المنكوبة بحكامها وأنظمتها وعسسها، تقمع ولا تقنع.. في قطر الرياضية، وجدت الشعوب العربية فرصة سانحة للتعبير بالعلم الفلسطيني. انتماؤها لفلسطين، وليس لإماراتها وممالكها وأنظمتها القمعية الرهيبة. عبّرت شعوب عربية بأسلوب مضاد لكذب السلطات العربية. برهنت هذه الشعوب على انتمائها وحبها بحناجر فلسطينية.. ومداها، من المحيط الى الخليج. الشعوب العربية الملزمة بالصمت السياسي، أفصحت قليلاً في احتفالات كرة القدم في قطر.. هذه الشعوب هتفت لفلسطين. كانت الغائب الأكثر حضوراً. هذه الشعوب حملت أعلام فلسطين. كان الحضور العربي هناك يقظة أحلام مكبوتة. حضور رفض “المرحبا” الإسرائيلية. اشعر “الإسرائيلي” انه عدو وسيبقى كذلك.
مئات الملايين من العرب هم فلسطينيون مكتومون. العقوبات السلطوية العربية مريعة. عقوبة الانتماء الى فلسطين في بعض دول النفط وملوك المال، هي الإلغاء والطرد. يضاف الى تلك الممالك “جمهوريات” القمع البوليسي.
الفلسطيني الجديد، يرى ما لا نراه. يرى فلسطينه، بلون الفجر الذي يشبه دمه. وهذا الكلام ليس شعراً. انه ضوء القمر الذي يكتسح عتمة الظلم والظلام العربيين. أما الغرب فحسابه سيكون بطريقة أخرى. وتحديداً، عندما يصبح المواطن العربي، متحرراً من أنظمة الاستبداد والفساد
ألم يلاحظ العرب أن فلسطين مُغيبة بقرارات دولية وعربية عن الشاشات التلفزيونية؟ فلسطين ممنوعة. أما “إسرائيل”، “فهلا بالضيف”.. بل “نحن الضيوف وأنت رب المنزل”. هكذا بكل وضوح. يصير الكذب العربي سياسة نبذ للقضية، وسياسة رفع العار جائزة. هذا اعلام استبدادي. مكبل. منافق. يكره الحقائق والوقائع.
هل نبالغ عند القول: لا إعلام عربياً في هذه البلاد “العربية” بالإسم فقط، وعليه، لا بأس بالاعتياد على الخيانات واعتبارها سياسات واقعية. “الواقعية الفاضلة”، هي واقعية مضادة للحرية والانسان والعدالة والشعب.
الفلسطيني الجديد خرق طقس العبث العسكري. ليست كل البنادق صائبة وتُصيب. هناك بنادق هتكت رفاقها في السلاح. انكسرت المنظمات الفلسطينية في مواجهة جيوش الأنظمة.
هل كانت قوى منظمة التحرير تشبه بنية الجيوش العربية؟
ثم، هل بنية “المقاومة” الفلسطينية بنية مناسبة للتحرير؟
ثم، متى حصلت مواجهات بين جيش إسرائيل وجيوش عربية، وإنتهت إلى عرب منتصرين؟
لندخل في صلب الموضوع. هل مسموح ان نستعيد التجربة العسكرية والتجارب الفلسطينية؟ أليس من الضروري أن نتجرأ على النقد من دون التشفي، بل النقد المُنطلق من الانتماء أولاً، وعلى قاعدة الخسائر والنجاحات ثانياً.
لنبدأ من البدايات.
تحمست الجيوش العربية لمنع إقامة “إسرائيل”. خسرت هذه الجيوش (مصر، الأردن، سوريا ولبنان) المعركة وتراجعت ذليلة ومُذلة. “إسرائيل” العصابات، هزمت عرب الجيوش.
لنتذكر الخامس من حزيران/يونيو 1967. جيوش عربية جرّارة، دُمِّرت منذ الطلعات الأولى للطيران الحربي الإسرائيلي. راحت كل فلسطين. (الضفة العربية التحقت بالغربية). احتلت شبه صحراء سيناء، ومساحتها ضعف مساحة فلسطين. خسرت سوريا مرتفعات الجولان. الجيش المصري تعرى. طائراته جثت في مرابضها. فاضت سوريا البعث خطباً واتهامات. “إسرائيل” الصغرى تقدّمت على جيوش جرّارة غير صالحة للتحرير.. استبدلت التحرير، بالقمع. الشعوب العربية رفضت الهزيمة. حملت الأنظمة المسؤولية.
المهم أن الجيوش لا تُجيد المقاومة أبداً.
الفشل هنا، أفدح من الخيانة. حاولت الأنظمة المهزومة أن تسترجع هيبتها. فكانت حرب تشرين. لم يفز العرب بتحرير حبة تراب فلسطينية. خسروا جميعاً. الثمن كان باهظاً جداً. عبرت القوات الإسرائيلية قناة السويس، صارت الطريق الى القاهرة سالكة. ماذا فعلت الأنظمة بعد ذلك. زادت قبضتها على شعوبها. كوفئ المواطن العربي الحزين بقيود الصمت والقمع.
خاتمة أحزان مصر أنها استسلمت للسلام. استعادت سيناء وارتاحت من فلسطين. الأردن انتظر دوره. خسر الضفة ثم ربح “السلام” مع “إسرائيل”. صارت إسرائيل “الشقيق” الذي تحتضنه أرومات ملكية وأميرية وعسكرية. أصدقاء “إسرائيل” اليوم من العرب، يتفانون في ممارسة الصمت. الشعب الفلسطيني يُقاتل بدمه. العسكريتاريا العربية، تستضيف “أصدقاء إسرائيل”، على الرحب والسعة.
ليس هذا ما أريد التوقف عنده. إنه معلوم جداً. ولكن الكتابة هنا للتذكير. فعذراً على التكرار.
باختصار، لا تصلح الجيوش للتحرير. ولا تصلح الخطب كذلك. ولا تصلح “المقاومة” المكشوفة ابداً. يضاف الى ذلك. أن البلاد العربية ودول الطوق، ليست فلسطينية إلا بالخطب والاذاعات، فيما الأمن والفتن يحضر للإشتباكات بين القوى النظامية، وقوى “المقاومات” المنتشرة والبائتة والتي تُشبِّح أحياناً على المواطنين.
ثم إن أنظمة دول الطوق، لا يمكن ان تنافسها على أرضها، قوى غير نظامية، إضافة الى ان الأنظمة لها سياساتها وارتباطاتها.. انفجار الأردن دليل. مطاردة سوريا للمقاومة معروفة. اما لبنان، فإن الغبي الغبي الغبي، يعرف ان الانقسام حول فلسطين، يعود الى ما قبل قيام “إسرائيل”. لذلك اصطدمت القوات الفلسطينية المنتشرة والمسيطرة والمهيمنة والآمرة، بالقوى التي لا تعترف إلا بلبنان الذي صيغ على انه “ذو وجه عربي”. عروبته طائفية. لا شرق ولا غرب، شعار كاذب. هو شرق وغرب وما بينهما. الصراع تحول الى إسلامي ـ مسيحي. دخلت إسرائيل بدعوة من لبنانيين “اقحاح” لا يعترفون إلا بلبنانيتهم. وخاتمة الاحزان، كانت كارثة تشريد الشعب الفلسطيني في القارة العربية.. من تونس الى اليمن.
الفلسطيني الجديد، لا يقاتل اليوم خارج أرضه. إنه يُصوّب ويصيب. انه يزيد الشرخ بين الإسرائيليين. الفلسطيني الضعيف، المذل، المنهك، المدمر، ما زال ينبض حياةً ونضالاً. موته بندقيته وقنبلته. ثم سكينه لا يجرح فقط، يل ينغرز. تضحياته ثمار يانعة حمراء، طعمها حلو الشهادة
بيروت، وضعت خطاً واضحاً بين الحقيقة والوهم، مع اثمان دموية باهظة، ودمار غير مسبوق. عوض أن تخطو خطوة الى فلسطين، دخلت إسرائيل العاصمة بيروت، الجبل، الجنوب، نصف البقاع. غرق لبنان في حروبه الطائفية والمذهبية وإسرائيل تفرك بيديها. استمر الاحتلال الإسرائيلي لمعظم جنوب لبنان أكثر من 20 عاماً.
حدث في الزمن العربي، ما بعد الزمن الفلسطيني، أن حضرت قوى مكتومة الإقامة. سرية التواجد. لا تعتبر السلاح زينة الرجال. لا تتكلم كثيراً. تبني تحت الأرض لا فوقها. تتدرب في العتمة والمجاهل. لا تستعرض قواها. تحشد وتشدد على عدم الانكشاف. هذه المقاومة، في لبنان، واجهت إسرائيل. قاتلتها في لبنان. أنهكتها في أماكن انتشارها. ألزمتها بانسحاب أول. انتقمت إسرائيل بالمجازر. دماء كثيرة مدنية. أطفال. نساء. رجال. عائلات. ومع ذلك، وازنت المقاومة بين الانتقام وبين الانتصار. وحصل وبعد سنوات من السرية، أي سياسة العمل تحت الأرض، وليس على المنابر، ان ألزمت إسرائيل بالانسحاب المذل من كل الجنوب، تاركة عملاءها في العراء.
حدث ذلك، في زمنٍ كانت فيها الأنظمة العربية تتحضر لهزات داخلية وخارجية، بحيث لم يبقَ نظام عربي غير مأزوم: مصر خرجت. سوريا دُمِّرت. الأردن تأسلر. بغداد غرقت بدمها. أما من تبقى، فقد استطاب الإقامة في القعر. أما النشامى العرب، فقد تحرروا كلياً من فلسطين، وأصبح الإسرائيلي حليفاً استراتيجياً.. “يا أمة ضحكت من عجزها الأمم”.
الفلسطيني الجديد، لا يقاتل اليوم خارج أرضه. إنه يُصوّب ويصيب. انه يزيد الشرخ بين الإسرائيليين. الفلسطيني الضعيف، المذل، المنهك، المدمر، ما زال ينبض حياةً ونضالاً. موته بندقيته وقنبلته. ثم سكينه لا يجرح فقط، يل ينغرز. تضحياته ثمار يانعة حمراء، طعمها حلو الشهادة. الفلسطيني الجديد، لم يعد يسأل لماذا سلطته، بنت المقاومات العلنية الفاشلة، تحاصره وتلاحقه. الفلسطيني الجديد، موجود في كل مكان. قبضته وسكينه ومسدسه وبندقيته، كلها تصلح فقط لإصابة الهدف: إبقاء الإسرائيلي على سلاحه خائفاً وارباكه بالسؤال الكبير: “هل سنبقى هنا ام نرحل”؟ الجواب لم ينضج بعد، ولكنه قيد التداول.
غزة باقية.
الضفة باقية.
فلسطين، بدأت المسيرة إليها، دماً دماً، جرحاً جرحاً.
ما أفصح الصمت.
الفلسطيني الجديد، يرى ما لا نراه. يرى فلسطينه، بلون الفجر الذي يشبه دمه.
وهذا الكلام ليس شعراً. انه ضوء القمر الذي يكتسح عتمة الظلم والظلام العربيين. أما الغرب فحسابه سيكون بطريقة أخرى. وتحديداً، عندما يصبح المواطن العربي، متحرراً من أنظمة الإستبداد والفساد و..
عذراً من الإطالة.