أمانة فلسطين.. أمانة السعودية

نشر موقع "بي. بي. سي. نيوز عربي" وثائق بريطانية رسمية أفرج عنها مؤخراً تتعلق بحرب تشرين (1973) واستخدام العرب سلاح النفط وعلى رأسهم السعودية، والمباحثات التي جرت بين ملوك السعودية الراحلين فيصل، خالد، وفهد ومسؤولين بريطانيين وبمشاركة وزراء خارجية سعوديين فيها وتؤكد كلها تمسّك المملكة وقيادتها بشرط "الحل العادل للقضية الفلسطينية، ورفض وهم الانتصار النهائي لاسرائيل، والانسحاب الاسرائيلي من الأراضي المحتلة حتى حدود العام 1967".

في هذا الوقت الرديء الذي نرى فيه مسؤولين إرهابيين اسرائيليين (نتانياهو وعصابته) يتحدثون علناً عن الإلتفاف على الفلسطينيين واستفرادهم من خلال علاقات تطبيع واتفاقات مع دول عربية. من المفيد والمهم جداً إلقاء الضوء على الموقف السعودي الذي تبقى كلمته وتحديداً اليوم ذات تأثير مهم في إنقاذ فلسطين وشعبها وإسقاط كل محاولات محو قضيتها مع الكلفة الهائلة التي نراها وعودة العصابات الى سياسة الأرض المحروقة، والعبث بكل شيء وهي الأسس التي قامت عليها دولة الإغتصاب والإرهاب المنظّم.

جاء في إحدى الوثائق: “.. بعد 7 أيام وفي يوم 13 تشرين الاول/اكتوبر أقامت الولايات المتحدة جسراً جوياً هائلاً لنقل السلاح الى اسرائيل (وكان الميزان لمصلحة العرب). لم تكد تمر 4 أيام على بدء جسر الإنقاذ الأميركي حتى أعلنت السعودية والعراق وإيران والجزائر والكويت والإمارات وقطر رفع أسعار النفط بنسبة 17 % وخفض إنتاجها. وتبع هذا حظر فرضته الدول العربية على تزويد الدول التي تؤيد اسرائيل بالنفط”. وتكشف الوثيقة “أن السعودية كانت مستاءة استياءً بالغاً من موقف أميركا الأخير المؤيد لاسرائيل ومن استئناف إمداد اسرائيل بالأسلحة. وفي مواجهة هذا الموقف الأميركي المتحيّز ستجد السعودية نفسها مجبرة على خفض كمية النفط الأمر الذي سيضر بدول السوق الأوروبية المشتركة. وبناءً عليه فإن الأمر متروك لهذه الدول كي تنصح أميركا بتغيير موقفها المؤيد لاسرائيل، لأن هذه الدول ستتضرّر أكثر من أميركا من خفض كمية النفط”.
وكان وزير الدولة للشؤون الخارجية السعودي عمر السقاف قد أعلن في أواخر شهر أيار/مايو: “تشعر المملكة بمسؤولية أخلاقية تجاه بيع النفط لمن يريد شراءه. ولكن عندما يتعلق الأمر بتهديد قضيتنا ومساعدة عدوّنا فإننا نعتقد حينئذ أن هناك حداً”.
صدر قرار حظر النفط. كان غضب على الملك فيصل بن عبد العزيز الذي قتل لاحقاً في مكتبه. وهو الذي كان يصرّح أمام هنري كيسنجر وغيره: “لن يهدأ لي بال قبل أن أصلّي في القدس”.

إستراتيجيات النفط الجديدة

في أوائل شهر شباط/فبراير عام 1974 أعلنت أميركا عن خطة وصفتها بأنها “مشروع الاستقلال” الأميركي في مجال الطاقة لأنها شعرت أن “القرار السعودي العربي سابقة يضع الجميع أمام مسؤولية إعادة النظر في السياسات والحسابات”. وقال مسؤولون أميركيون: “لا يمكن أن نكون رهائن لديهم”. ولاحقاً نظّم كيسنجر مؤتمراً للنفط شكّل “سياسة استراتيجية حاسمة” ضد الدول المنتجة حملت الكثير من التهديد والوعيد لمن اتخذ قرار الحظر.
وفي الوثائق البريطانية المفرج عنها أيضاً ثمة معلومات أشارت الى “أن الولايات المتحدة فكّرت في الاستيلاء على حقول النفط في الخليج بعد فرض الحظر”.
في وثيقة ثانية معلومات عن لقاء بين وزير الخارجية البريطاني ديفيد أوين والملك خالد بن عبد العزيز في أواسط شهر أيار/مايو عام 1977 يقول أوين: “الحوار كان ساخناً. قال فيه الملك أنه ليس دبلوماسياً ويتحدث بما يدور في ذهنه”.

أمانة فلسطين تبدو اليوم أكثر من أي وقت مضى أمانة سعودية بامتياز وعلى كلمة المملكة وموقفها تتحدّد أمور كثيرة وترسم حلول. ليس في ذلك تحميلاً لأكثر مما تتحمل المملكة أو تجميلاً لموقف. إنه كلام نابع من تاريخ المملكة ومن نظرة الآخرين اليها. وبعض ما أوردناه في الوثائق البريطانية المفرج عنها اليوم خير شاهد على ما نقول

وجاءت زيارة أوين في أثناء نقاشات دولية بعد 4 سنوات من حرب أوكتوبر وكان البحث خلالها يدور حول عقد مؤتمر للسلام، وانتهى الى اتفاقيات كمب ديفيد عام 1978 ثم اتفاقية “السلام” بين مصر واسرائيل.
قال الملك خالد لأوين تعليقاً على كلامه حول “إن المشكلة الفلسطينية هي الأكبر في الشرق الأوسط” اليوم: “المشكلة سهلة للغاية المطلوب هو العدالة والانصاف فقط. كل ما هو مطلوب قرار منصف من جانب القوى التي يمكنها التأثير في الأمور”. ويقول أوين في هذه الوثيقة: “السعوديون رأوا أن السبيل الوحيد للسلام إنسحاب اسرائيل الى حدود ما قبل حرب ال 67. انسحاب اسرائيل الكامل من كل وليس بعض الأراضي العربية التي احتلتها في حرب 67 ضروري. أخذ الاسرائيليون فلسطين كلها وأيضاً أجزاء من مصر وسوريا ويجب أن ينسحبوا من الأراضي التي احتلوها بشكل غير قانوني..” ويؤكد أوين أنه “وافق على الانسحاب الكامل حتى حدود 67″. وهذا يؤكد أن قرار مجلس الأمن رقم 242 الذي صاغته بريطانيا في نوفمبر/تشرين الثاني 1967 قصد به الانسحاب من كل الأراضي المحتلة وليس من جزء منها”.
لكنه في حواره مع الملك خالد قال أوين: “يجب أن يُعطى الاسرائيليون أسباباً قوية للإيمان بأنهم سوف يتمتعون بالأمن”. فردّ الملك بنبرة حاسمة: “ليس لدى الاسرائيليين ما يخشونه. بل العرب هم الذين لديهم سبب للخوف من العدوان. التهديد معكوس. اسرائيل هي التي تهدّد العرب”. هنا تدخّل وزير الخارجية آنذاك الأمير سعود الفيصل وهو عريق، دقيق في اختيار كلماته فقال: “يجب التمييز بين تهديد محتمل، وتهديد واقع”. ووصف “المخاوف الاسرائيلية” بأنها “وهمية متخيلة”. وفي ختام الجلسة “حذر الملك خالد البريطانيين من عواقب استمرار المشكلة لمدة 30 عاماً على المصالح العربية والغربية معاً وحمّل بريطانيا والغرب المسؤولية”.

إقرأ على موقع 180  سيناريو إسرائيلي لـ"الإنتقام الإيراني": 19 ك2/ يناير!

رمزية الموقع السعودي
لاحقاً التقى أوين ولي العهد الأمير فهد بن عبد العزيز ووزير الخارجية سعود الفيصل. تقول الوثيقة نقلاً عن أوين أن الأمير فهد قال له: “لا أحد يفكر في محو اسرائيل. هي دولة موجودة “. لكنه تحدث عن “المتطرفين والمتعصبين الذين ما زالوا يعتقدون بفكرة الانتصار النهائي الذي لن يحدث. من المستحيل أن تحقق اسرائيل انتصاراً نهائياً”. في موضوع القدس قال الملك “مشكلة بالغة الأهمية” تتعلق بـ”مسألة العبادة الدينية للمسلمين والمسيحيين واليهود” الحل هو العودة الى الوضع الذي كان قائماً قبل حرب 1967″. لاحقاً أصبح الأمير فهد ملكاً. استمر على الموقف ذاته وكانت له مبادرة في قمة فاس عام 1981. وبرغم كل التطورات والتغييرات التي حدثت في المنطقة كانت المواقف المذكورة تشكل ثوابت السياسة السعودية تجاه فلسطين وحقها والقدس ورمزيتها.
بعده تولى الملك عبد الله بن عبد العزيز المسؤولية وهو المعروف بتاريخه العربي وفروسيته، ومن بيروت أطلقت “المبادرة العربية” عام 2002 والتي حملت اسمه وفيها شرط بارز اساسي: “تقوم علاقات طبيعية بين الدول العربية واسرائيل عندما تنسحب الى حدود العام 67 وتقوم دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية”.
يطول الشرح، وثمة شواهد ومعلومات ووثائق كثيرة. لكن يكفي ما نشاهده اليوم من دور “للمتطرفين والمتعصبين الاسرائيليين”، وبعد 30 عاماً كما حذّر الملك خالد ومع الانقلاب على “المبادرة العربية” والالتفاف على الفلسطينيين استقواء بعرب “الاتفاقات الابراهيمية” التي وقّعت دون أي ثمن وفي ظل استمرار تهديد فلسطين واستباحة كل أراضيها ومقدساتها المسيحية والاسلامية وخطر انعكاس ذلك على “كل العرب” كما أكد المسؤولون السعوديون دائماً.

وفي مرحلة حكم الملك سلمان بن عبد العزيز المعروف بتاريخه العربي الفلسطيني، تتجه الأنظار الى المملكة التي تحتل موقعاً قوياً متقدماً اليوم أكثر من أي وقت لا سيما في ظل التوازنات الدولية والإقليمية التي يعيشها العالم، وإمساك المملكة مجدداً بورقة الطاقة من جهة، وبرمزية موقعها الاسلامي العربي من جهة ثانية.

وانطلاقاً من أن القضية الفلسطينية هي قضية عربية، كما عبّر عن ذلك المسؤولون السعوديون منذ عقود من الزمن، وبالرغم من كل الأخطاء التي نشير إليها على المستوى الفلسطيني والإنقاسامات والخلافات الفلسطينية – الفلسطينية، فإن أمانة فلسطين تبدو اليوم أكثر من أي وقت مضى أمانة سعودية بامتياز وعلى كلمة المملكة وموقفها تتحدّد أمور كثيرة وترسم حلول. ليس في ذلك تحميلاً لأكثر مما تتحمل المملكة أو تجميلاً لموقف. إنه كلام نابع من تاريخ المملكة ومن نظرة الآخرين اليها. وبعض ما أوردناه في الوثائق البريطانية المفرج عنها اليوم خير شاهد على ما نقول إضافة الى الكثير الذي كتب عن لقاءات الملوك والمسؤولين السعوديين مع مسؤولين أميركيين وغربيين بارزين.

Print Friendly, PDF & Email
غازي العريضي

وزير ونائب لبناني سابق؛ كاتب سياسي

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  ما هو برنامج إسرائيل لتهجير سكان قطاع غزة؟