سهيل القش.. عندما تتشظى مرآته “اللبنانوية”!

يأتي كتاب الدكتور سهيل القش بعنوان "المرآة المتكسرة/ تشظي الكيان اللبناني" في لحظة من لحظات التشظي الكبير لهذا الكيان. وبالرغم مما شهده من حقبات إستقرار وحروب أهلية وأزمات سياسية على مدى مائة عام غابرة، فإن الأزمة التي تعصف بهذا "اللبنان"، اليوم، وجودية بكل معنى الكلمة.

كأنما كتاب الدكتور سهيل القش الصادر عن دار رياض الريس للكتب والنشر (2022)، يتشكّل من كتابين: كتاب (القسم الأول منه) بلغة أكاديمية، قدّم لنظريات كبار فلاسفة الغرب وربْطِهَا بقراءة معمّقة لكيفية نشوء وتشظّي الكيان للبناني، ولسرديات الاستشراق ونظرة الغرب المزدوجة تجاه منطقتنا، وكتاب ثانٍ (القسم الثاني منه) بلغة تُشابِه أسلوب مقالات صحفية يومية طغت عليها “فشة الخلق” والتسرُّع، وإطلاق الاتهامات والتوصيفات، وعدم محاذرة استخدام بعض المفردات، وهو ما لحظناه في تناوله للنظام السوري وإيران وحزب الله، ما أوقع المؤلف في دائرة الإرباك الذي يتناقض مع العقل الأكاديمي والبحثي، وأضْعَفَ بالتالي حججه في سياق تناول محطات التاريخية، من خلال قراءة لحظوية وذاكرة استعادية لأحداث عايشها قبل عقود، وفَاتَهُ التقصّي عنها بقراءة متجددة بعد مرور كل هذه السنوات.. فإذا بنا أمام وقائع تتبدل قبل أن يجف حبر الكتاب تحت الطبع.

***

سأبدأ من القسم الثاني المتعلق بالوضع العربي، أي الكتاب الذي اعتبرته كتاباً ثانياً ضمن الكتاب الواحد.

إنطلاقاً من البنى الاجتماعية العربية القائمة على مبدأ العصبية، الأمر الذي حال دون تطورها وتحديثها، يستنتج سهيل القش حصول طلاق بائن “بين الادعاءات الأيديولوجية لهذه الدولة أو تلك، وطريقة حكمها في العالم العربي”. هذا ما ورد في القسم الثاني من الكتاب بعنوان “العرب بالمفرد والجمع”، وتضمن فصولاً، فاختار ثلاثة نماذج حكم عربية: مصر الناصرية، سورية البعثية، ولبنان، باعتبارها “مدخلاً لتفسير ما آلت إليه أحوال العرب المأساوية”.. وانتقى من زمن مصر الناصرية “قرار (جمال) عبد الناصر التاريخي في 26 تموز/يوليو 1956 بتأميم قناة السويس”، فأعطى بذلك الذريعة لكل من فرنسا وبريطانيا وإسرائيل لشنّ حرب السويس، “للتخلص من حكمه” (ص175)، لكن لا بد من لفت الإنتباه إلى أن القش أورد في الصفحة التالية “أن حرب السويس قد أُعدّ لها على يد غي موليه الاشتراكي الفرنسي وبن غوريون الاشتراكي الإسرائيلي، اللذين، أقنعا أنطوني إيدن المحافظ البريطاني، بضرورة غزو مصر لقلب حكم عبد الناصر”.. أما زمن ياسر عرفات فلم يحظَ بالتدقيق الكافي من المؤلف ولا بمراجعة نقدية، برغم ما شهدته تلك الحقبة من سلبيات وإيجابيات، فاكتفى بالإشارة إلى صِرَاعية العلاقة بين الرئيسين السوري حافظ الأسد والفلسطيني ياسر عرفات! (ماذا عن تجربتي الأردن ولبنان ومسار أوسلو وصولاً إلى رام الله).

يقول سهيل القش عن زمن عرفات: “توجس القيادة الفلسطينية من لعب الأنظمة العربية بقضيتها، غيّب إمكانية الاندماج النضالي الفعلي مع الجماهير العربية، واعتمدت سياسة “التكتكة” على تناقضات الدول الأقطاب التي أتقنها أبو عمار، فأصبح اسيراً لتوازناتها”.. أما زمن حافظ الأسد، فقد أشْبَعَه المؤلف اتهامات ومنها “احتلال لبنان”، وأنه عمل لاحقاً على نقل الزمن من “الأزمنة العربية إلى “صاحب الزمان”، وفي هذه الزاوية، أشبع المؤلف أيضاً إيران وحزب الله اتهامات باتهامات، إلى حد أنه وجد في “الشراكة الجديدة بين إيران وحافظ الأسد تفسيراً لقرار (رونالد) ريغان بالسماح لإسرائيل باجتياح لبنان عام 1982” (ص191)، مشيراً إلى مخاوف حافظ الأسد من إنهاء التفويض الأميركي له لترتيب الوضعين اللبناني والفلسطيني ومنح هذا التفويض لإسرائيل”، وأن هذه المخاوف “تقاطعت مع المخاوف الإيرانية”، وأن ذلك “جاء عقب مجزرة صبرا وشاتيلا على يد ميليشيات القوات اللبنانية انتقاماً لمقتل بشير الجميل وتورط المخابرات السورية في هذا الاغتيال” (ص192).

هنا يكفي أن نشير إلى ما أورده الكاتب اليهودي الأميركي سث إنزيسكا عن مخطط أرييل شارون وإدارة ريغان ومجزرة صبرا وشاتيلا في كتابه الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، أو أن نستذكر تصريح بشير الجميل عن رغبته بتحويل مخيمي صبرا وشاتيلا إلى حديقة حيوانات، الأمر الذي يناقض قول المؤلف إن المجزرة كانت ردة فعل. هذا إضافة إلى تكرار اتهامه لحافظ الأسد بأن المقاومة طوّبها لحزب الله، فضلاً عن اتهامات عديدة بأعمال قتل واغتيال.

***

تحت عنوان “المقتلة السورية”، يفرد الكاتب سهيل القش فصلاً كاملاً يتبنى فيه توصيف النظام السوري بـ”الطائفي العلوي الذي استخدم السنّة كواجهة”، و”أن العلويين كطائفة شكلوا موطئ قدم لهم في السلطة يشبه ما فعلته حركة المحرومين الشيعية (أمل) التي اطلقها موسى الصدر والتي انتهى بها المطاف بأن انتزعت السلطة من الموارنة بدعم من الاحتلال السوري ثم الإيراني للبنان”، غامزاً من تقصير المفكر الاقتصادي سمير أمين (كتقصير يساري) على تحليل الوضع في سوريا بالجانب الاقتصادي وغضه الطرف عن “دولة التوحش” كما وصفها ميشال سورا. ومن الملفت للإنتباه أنه عَتِبَ على الرئيس الأميركي باراك أوباما أنه “نسي أن يرسل جيشه ليجبره (أي بشار الأسد) على التنحي” (ص199)، كما لم يتطرق إلى “النموذج التركي” مع استهلال ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي!.

إقرأ على موقع 180  نحو شرق أوسط جديد.. غير أمريكي

أما القسم الأول من الكتاب بعنوان “يُروى عن لبنان”، فيتناول القش في فصله الأول “السردية اللبنانوية”، شارحاً سبب اعتماده كلمة “لبنانوية” كتعبير عن نزعة فكرية تدافع عن “قومية لبنانية” مبنية على الإيمان بوجود “أمة لبنانية” مكتملة الصفات والمقومات. وبهذا المعنى اختار معالجة السردية اللبنانية تحت مسمى “السردية اللبنانوية”، وذلك في ضوء الأسئلة: هل توجد أمة لبنانية مكتملة المواصفات مبنية على شعب متجانس، متوقفاً عند قدوم الموارنة من سوريا البيزنطية، والدروز القادمين من سوريا السلجوقية، وكأن إلتقاء هذه الطائفة وتلك في لبنان مجرد سوء تفاهم تاريخي “ما زال يؤرق تاريخ تعايش الواحد مع المتعدد”، رادّاً سبب سوء التفاهم هذا إلى “”قدوم الصليبيين عام 1098 إلى القدس”..

ولكن كيف اختُرِع الشعب اللبناني؟ يسأل، ثم يدخل في تفاصيل هذا الاختراع، متبنيّاً وثائق “الجبهة اللبنانية” عام 1977 لأنها “تقدم إلينا دون مواربة العرض الأوضح لـ”السردية اللبنانوية”، ولأنها ـ كما يصفها- “بالفجاجة التي تبلغ حد الوقاحة” (ص38). أما في تناوله لمسألة تشظّي المرآة اللبنانية، فيرى “أن السيرورة التاريخية حتّمت أن هذا الموحِد لم يكن ثابتاً بنيوياً، بل هو متغير تاريخي”، ويسأل: “من وحّد لبنان الحديث: دروز السلطنة العثمانية؟ أم موارنة الانتداب الفرنسي؟ أم شيعة الانتدابين السوري والإيراني؟” (ص243).

استعرض المؤلف سهيل القش لبدايات تشكُّل النص اللبنانوي الماروني، ولولادة الطائفة المارونية “التي بدأت مع مجمع اللويزة عام 1736، فتكون قد سبقت ولادة لبنان ككيان العام 1920، وأن النص اللبنانوي الماروني قد سبق هذين الحدثين ومهد لهما منذ نهاية القرن السادس عشر وبدايات القرن العشرين”، متوقفاً عند “مدرسة روما المارونية التي تأسست عام 1584 على يد البابا غريغوريوس الثالث عشر، وتركز دورها على لَتْيَنَة (جعلها لاتينية) الملة المارونية وتأهيل نخبتها الكهنوتية إلى نواة لقيادة الطائفة المارونية التي ستولد من رحم الملة بعد أكثر من قرن” (ص48).

ويتوقف المؤلف عند دور “جمعية نشر الإيمان الكاثوليكي بين الشعوب التي أسسها البابا غريغوريوس الخامس عشر عام 1622 والتي تشرف على جميع نشاطات الإرساليات التبشيرية والتعليمية التابعة لكنيسة روما”، لذلك ـ يضيف القش ـ “استراتيجية كنيسة روما الكاثوليكية القائمة على لَتينة الكنائس المشرقية كانت أقرب إلى الرؤية الفرنسية في معالجتها للمسألة الشرقية ومصير الأقليات المسيحية في السلطنة العثمانية”. ويخلص إثر ذلك إلى أنه مع “المؤسستين اللتين أنشأتهما كنيسة روما الكاثوليكية، الأولى عام 1584 والثانية عام 1622 برزت المكونات الأيديولوجية الأولى للقومية اللبنانية المرادفة للنص اللبنانوي الماروني.. ومن “هذا الاهتمام تبلور استشراق فرنسي جاء يؤطر النص اللبنانوي الماروني”، ليتناول القش أنواع الاستشراق في الفصل الثاني بعنوان السرديات الاستشراقية والسرديات الماركسية و”رؤية ماركس القائمة على التفوق العرقي الغربي التي لا تختلف جوهرياً عن رؤية هيغل”.. وأنه من “سياق العلاقة الملتبسة بالحداثة الغربية، استطاعت أحزاب قومية أن تستولي على السلطة في هذا البلد العربي او ذاك. وقد فرز ذلك أنظمة هجينة وملتبسة بوجوه متعددة تلعب على الحيّز الذي يفصل بين التفرنج والحداثة، بين العلمنة والطائفية” (ص147)، وهو ما عرض له في القسم الثاني من الكتاب وقد أشرنا إليه آنفاً، لنختم مع الفصل السادس بعنوان “تشظّي المرآة اللبنانية”، فيقول: “اعتمدنا مفهوم “المرآة” لنصف كياناً لا قعر له لأن داخله لا جوانية له وهو لا يشع بقدراته الذاتية بقدر ما يستعين بقدرات لا يملكها يستقوي بها على تطويع الداخل”.

***

حتماً كان لبنان وسيبقى محكوماً بالتسويات، لكن الخطر ليس في تشظّي الكيان بل في تلك التشظيات الحادة في نفوس أبناء هذا الكيان، بدليل أن سهيل القش، عندما ابتعد عن لبنان وصار مقيماً بصورة دائمة في كندا، إنتظرناه أن يُقدّم لنا مقاربة أكثر موضوعية متحررة من فخ متاريس المواقف المسبقة، لكن ـ ويا للأسف ـ سقط في فخ لبنانوي، أين منه ما نسمعه في الخطاب السياسي اليومي؟

Print Friendly, PDF & Email
منى سكرية

كاتبة وصحافية لبنانية

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  عبد اللهيان من "حرس الخارجية" إلى "خارجية الحرس"