سياسة “أميركا أولاً” لا تستقيم في حال بقيت الحروب دائرة في أوكرانيا والشرق الأوسط. ولذلك، يُشدّد ترامب على ضرورة وقف هذه النزاعات والذهاب إلى تسويات. وتُرتّب هذه التسويات تنازلات من الأطراف المعنية بهذه الحروب. من الأطراف المتحالفة مع أميركا وتلك المناهضة لها على حد سواء. وتأتي إيران كأولوية بالنسبة لإدارة ترامب، لاتصالها بحربي غزة ولبنان وبسبب برنامجها النووي وما طرأ عليه من تطورات في ظل رئاسة جو بايدن، ناهيك باتهامها أميركياً بالانخراط في حرب أوكرانيا من خلال تزويدها روسيا بأسلحة ومُسيّرات إيرانية!
لقد اختارت إيران التعامل بكثير من الحذر مع الفترة الانتقالية بين رئاستي بايدن وترامب. لاحظ العالم كيف أنها أطلقت مواقف هادئة وتراجعت خطوة إلى الوراء على صعيد المواجهة مع إسرائيل، وأبدت انفتاحاً في الملف النووي واستعداداً أكبر للتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لـ”إزالة” أية شكوك ما تزال تساور الغرب في شأن هذا الملف.
وآخر ما تريده إيران عودة سياسة “الضغوط القصوى” مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض. لذا، تراقب طهران بدقة التعيينات التي أقدم عليها ترامب في فريقه للسياسة الخارجية. ويقلقها بالتأكيد اختيار السناتور عن ولاية فلوريدا ماركو روبيو وزيراً للخارجية، والنائب مايك والتز لمنصب مستشار الأمن القومي. الرجلان معروفان بمواقفهما المتشددة حيال إيران والصين وروسيا.
مجرد تكليف ماسك، بمهمة الاتصال بالمندوب الإيراني، يفترض أن ترامب بدأ البحث عن صفقة مع إيران وتفادي المواجهة. وماسك سيكون أقرب إلى أذن ترامب من روبيو ووالتز اللذين قد يقترحا العودة إلى “الضغوط القصوى”
توحي إيران وكأنها تسعى إلى التكيف مع ترامب الثاني، وتتفادى دفع الأمور إلى نقطة الصدام. ومن هذا القبيل، لوحظ أن التهديدات الإيرانية بتوجيه ضربة انتقامية ضد إسرائيل قد تراجعت أو اتخذت سياقاً لا يحمل صفة الاستعجال. قائد الجيش الإيراني الجنرال، عبد الرحيم موسوي، قال يوم الخميس الماضي إن “توقيت وطريقة الرد.. سيُحدّدهما الجانب الإيراني وعندما يحين الوقت سنرد بالتأكيد”. أما علي لاريجاني، مستشار مرشد الجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي، فكان أكثر حذراً عندما قال الأسبوع الماضي إن “إسرائيل تهدف لنقل النزاع إلى إيران. علينا التصرف بحكمة لتجنّب الوقوع في هذا الفخ وعدم الرد بشكل غير مدروس”.
في موازاة التروي الإقليمي، دفعت إيران بالديبلوماسية إلى الأمام. فقد استقبلت المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافاييل غروسي، الخميس الماضي، وحمّلته رسالة إلى الترويكا الأوروبية (فرنسا وألمانيا وبريطانيا) حول نية طهران العمل لحل الأزمة المتعلقة ببرنامجها النووي.. وقال وزير خارجية إيران، عباس عراقتشي، عبر حسابه على منصة “إكس”، بعد لقائه غروسي، إن الخلافات بين طهران والوكالة “يُمكن حلها من خلال التعاون والحوار”، وأكد أن إيران “صادقة بشأن نيتها التفاوض حول برنامجها النووي السلمي”، وجدد القول إن بلاده لا تسعى لامتلاك أسلحة نووية، وذلك استناداً إلى فتوى خامنئي. وأضاف “إذا صدر قرار ضدنا في مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية فسيواجه بإجراءات إيرانية مضادة وسنتخذ إجراءات جديدة في برنامجنا النووي”. ترافق موقف عراقتشي مع موقف متقدم للرئيس الإيراني مسعود بزشكيان عبّر فيه عن رغبة إيران في “إزالة الغموض والشكوك” حول البرنامج النووي.
وفي اليوم التالي، كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، أن إيلون ماسك، أحد أقرب مستشاري ترامب، التقى المندوب الإيراني لدى الأمم المتحدة السفير أمير سعيد إيرواني، للبحث في كيفية نزع فتيل التوتر بين طهران وواشنطن.
ومجرد تكليف ماسك، صاحب شركة “تسلا” للسيارات الكهربائية ومنصة “إكس” (تويتر سابقاً) بمهمة الاتصال بالمندوب الإيراني، يفترض أن ترامب بدأ البحث عن صفقة مع إيران وتفادي المواجهة. وماسك سيكون أقرب إلى أذن ترامب من روبيو ووالتز اللذين قد يقترحا العودة إلى “الضغوط القصوى”. ويشرك ترامب، ماسك في معظم المكالمات الهاتفية التي يجريها مع قادة العالم، تدليلاً منه على المكانة التي يتبوؤها في الإدارة الجديدة.
وبرغم تأكيد الصحيفة الأميركية أن ماسك هو من طلب اللقاء الذي استمر ساعة وأن أجواؤه كانت “إيجابية”، حرص وزير الخارجية الإيراني على نفي خبر الصحيفة الأميركية حول اللقاء السري معتبراً أن الخبر “من صناعة الإعلام الأميركي”.
ولا يجدر أن يغيب عن البال، أن نائب الرئيس المنتخب جيه. دي. فانس، هو من أبرز وجوه التيار الإنعزالي في أميركا، سبق أن أعلن أنه لا يؤيد عملاً عسكرياً ضد إيران من الممكن أن يورط الولايات المتحدة في نزاع شرق أوسطي جديد.
وثمة تطور مهم يدركه الرئيس المنتخب، أن إيران اليوم غيرها قبل أربعة أعوام، وأن سياسة “الضغوط القصوى” صحيح أنها أنهكت الاقتصاد الإيراني، لكنها أحدثت في الوقت نفسه مفعولاً عكسياً على صعيد البرنامج النووي.
وفي موقف لافت للانتباه، ذكّر نائب الرئيس الإيراني محمد جواد ظريف، وهو أحد مهندسي الاتفاق النووي لعام 2015، الذي انسحب منه ترامب عام 2018، أن هذا الانسحاب وما تلاه من عقوبات أميركية صارمة، كانت السبب في رفع درجة تخصيب اليورانيوم من 3.67 في المئة إلى 60 في المئة.
هل سيتمسك الإيرانيون بحصر التفاوض بينهم وبين الولايات المتحدة في الملف النووي، كما تصرّفوا مع إدارة باراك أوباما، عندما رفضوا مناقشة ملفي النفوذ الإقليمي والصواريخ البالستية، أم أنهم هذه المرة سيفتحون الباب أمام حوار مع إدارة ترامب يتخطى الملف النووي؟
ليس هذا فحسب، بل إن “الضغوط القصوى” دفعت إيران نحو تعاون استراتيجي مع روسيا والصين. وتستعد موسكو وطهران للتوقيع في الأسابيع المقبلة على معاهدة للدفاع المشترك، على غرار تلك التي أبرمتها روسيا وكوريا الشمالية. وبطيبعة الحال، فإن مزيداً من توثيق العلاقات العسكرية والسياسية بين روسيا وإيران في المرحلة المقبلة سيكون باعثاً على القلق في واشنطن.
وفي خطاب الفوز في 5 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، تبنى ترامب نبرة هادئة إزاء إيران قائلاً إنه “لا يريد إلحاق الضرر بإيران وبأنه يتمنى لهذا البلد أن يكون مزدهراً بشرط واحد هو ألا يسعى إلى امتلاك القنبلة النووية”. يتناقض ذلك مع تشجيعه لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على توجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية، في وقت سابق من الحملة الانتخابية، بعدما كان أكد أنه منفتح على إبرام اتفاق نووي جديد مع طهران.
وتتخذ طهران وترامب من الفترة الانتقالية في الولايات المتحدة، ميداناً لاختبار النيات وبناء الثقة. وليس مفصولاً الملف النووي عن الجبهات المشتعلة في غزة ولبنان. وبينما يجري تبادل مسودات اتفاق لوقف النار بين لبنان وإسرائيل، يهم الإدارة الأميركية المنتخبة أن ينجز مثل هذا الاتفاق قبل تسلم ترامب منصبه رسمياً في 20 كانون الثاني/يناير. وكانت لزيارة علي لاريجاني إلى بيروت في خضم التفاوض الجاري على وقف النار، مغزى مهم في هذا التوقيت تحديداً.
وقد يساهم وقف النار في لبنان في خفض التصعيد على جبهات أخرى، ويفتح نافذة أمل في امكان التوصل إلى هدنة في غزة وانجاز صفقة لتبادل الأسرى بين حماس وإسرائيل.
وإذا كان ترامب صادقاً في تعهده وقف الحروب في الشرق الأوسط وأوكرانيا، فإنه من الطبيعي أن يميل نحو الديبلوماسية مع إيران هذه المرة، على رغم أنه يبقى رجلاً من الصعب التنبؤ بما يتخذه من قرارات. ويبقى السؤال هل سيتمسك الإيرانيون بحصر التفاوض بينهم وبين الولايات المتحدة في الملف النووي، كما تصرّفوا مع إدارة باراك أوباما، عندما رفضوا مناقشة ملفي النفوذ الإقليمي والصواريخ البالستية، أم أنهم هذه المرة سيفتحون الباب أمام حوار مع إدارة ترامب يتخطى الملف النووي؟