في الحقيقة، وصلتني مقالةُ أستاذي العزيز (والكبير) نصري الصّايغ بعنوان “صديقي مالك.. أعوذ بالله من الرأسمالية الرجيمة“، وأنا أدنو من إنهاء الجزء الثّاني حول الماركسيّة والثّورة العالميّة المنشودة (أو المتخيَّلة..). بالطّبع، لا تمرُّ عندي إشارةٌ كهذه من رجلٍ كذاك مرورَ الكرام.. لذلك، لا شكّ في أنّنا سنعود إلى النّقاش الذي طرحهُ الأستاذ الحبيب نصري. لكنّني، بعدَ تفكُّرٍ متأنٍّ ومُراجعةٍ لحدسي ولقلبي، قرّرتُ أن أُكمل عرضَ الطّرحِ المنشودِ من خلال هذا الجزء الثّاني، لكَي تكتملَ عناصر النّقاش طبعاً، ولأنّني – بالتأكيد – مؤمنٌ بما أقدّمهُ من – بداية – مقترحات (واللهُ وليُّ التّوفيق).
***
إنّني لا أزالُ أؤمنُ بالباطن النّوراني للإنسان، انطلاقاً من المدرسة الرّوحيّة والفلسفيّة والسّلوكيّة التي اتّبَعتُها واعتنقتُها منذ ما يقارب السّنوات السّبع: ألا وهي المدرسة الصّوفيّة-العرفانيّة العالميّة (والتي دخلتُها من بابِها الإسلامي لأسباب بديهيّة تتعلّقُ بنشأتي وبيئتي). إنّها، بامتياز، مدرسة الإيمان بالبُعد الإلهي للإنسان، ومدرسة “من عرفَ نفسَهُ فقد عرفَ ربَّهُ”، ومدرسة “لا يغيّر اللهُ ما بقومٍ حتّى يغيّروا.. ما بأنفسهم!”. من هنا، أصرُّ على الدّفاع عن فكرة عدم رميِ المفاهيم الماركسيّة في سلّة المهملات ضربةً واحدةً وشاملةً، خصوصاً أنّها تنطلقُ من مقصدٍ سامٍ ونيّة إيجابيّة ومحمودة. أقترحُ فيما يلي، وباختصار: تطوير المفاهيم الماركسيّة من خلال تطوير الفلسفة الأنطولوجيّة ـ خصوصاً ـ التي بُنيَت عليها. ولنا عودةٌ إلى تفاصيل ذلك، ونقاشٌ وحوارٌ طويلٌ ومُثمِرٌ إن شاء الله تعالى).
***
في الجزء الثّاني من مقالتنا هذه حول الماركسيّة، سنحاول طرحَ فكرةٍ مجدّدةٍ وثوريّةٍ برأينا، قد تبدو من النّوع الجنوني بالنّسبة إلى البعض: وهي الاستعانةُ بالشّيخِ الصّوفي الأكبر، محيى الدّين بن عربي الأندلسي (ت. ١٢٤٠ م)، على الشّيخِ الشّيوعيّ الأكبر، كارل ماركس (ت. ١٨٨٣ م).. وذلكَ بهدفِ الوصولِ إلى توحيدِ الجهودِ النّضاليّة والثّوريّة السّاعية إلى تحقيق العدالة الاجتماعيّة حول العالم، والارتقاء بالإنسان نحوَ مرتبةٍ متقدّمةٍ على الرأسماليّة الحاليّة والقائمة – في جلّها – على الفردانيّة والأنانيّة.
لما الاستعانةُ الغريبةُ هذه بشيخٍ صوفيٍّ أكبر على شيخٍ مادّيٍّ مُبين؟
لمقصدٍ رئيس: ألا وهو حلّ عقدة الفلسفة المادّيّة التي انطلق منها كارل ماركس، والتي تُعيق برأينا انطلاق الثّورة “الماركسيّة” نحو الانفجار الأُممي المطلوب والذي ناقشناهُ في الجزء الأوّل. فالاكتشافاتُ العلميّةُ الحديثةُ وتجلّياتُ الميول النّفسيّة لدى الانسان.. تدفعُ أكثرَ فأكثَر باتّجاه ضرورة القبول بكون الإنسان كائناً “روحيّاً” بالتّوازي مع – أو إضافةً إلى – كونه كائناً “مادّيّاً”، مع كلّ ما يعنيه ذلك على مستوى فلسفة الوجود والموجود (أو الأنطولوجيا)، وعلى مستوى فلسفات المعرفة (الأبستمولوجيا) والتّاريخ والاقتصاد والاجتماع والسّياسة.. إلى آخر القائمة[1].
تُصبح المادّيّةُ التّاريخيّةُ مقبولةً كتفسيرٍ قويّ لتطوّر المجتمعات البشريّة، لكن: لا كتفسيرٍ أوحَد. يُصبحُ تطوّر وسائل الإنتاج تفسيراً مقبولاً وقويّاً لتطوّر أنماط الإنتاج ثمّ الأنظمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسّياسيّة والحضاريّة التي تُبنى على أساسه، لكن عليه أن يتقبّل كونَه يتشارك أيضاً مع عناصر تفسيريّة أخرى وعلى رأسها عمليّة الارتقاء الرّوحي للإنسان
من أيّ زاوية أساسيّة؟
ندعو إلى التّقريب العجيب والغريب بين أفكار “الشَّيخَين” المَذكورَين، من زاوية فلسفة “وحدة الوجود” الصّوفيّة، أو فلسفة “الظّاهر والمظاهر”، والتي ترتقي بالإنسانيّة إلى مرحلةٍ (أو مرتبةٍ) متعاليةٍ عن الفصل الإثنَيني (Dual) ـ الوهمي برأيها ورأينا – ما بين “المادّة” من جهة، و”الرّوح” من جهة أخرى.. أو بين العوالم الرّوحيّة (على تفاوت درجاتها “الرّوحانيّة”) وبين العوالم الماديّة. الفصل “الحقيقيّ” ما بين المادّة والرّوح لا يعوّل عليهِ عند أهل التّصوّف والعرفان. لذلك، على الإنسان التّعايش مع واقعيّة كليهما بلا انفصام ولا ازدواجيّة ولا نظرة “إثنينّية”.
كيف؟
إذ أنّ فلسفة وحدة الوجود هذه تُعيد طرح السّؤال من أساسه على كارل ماركس حول حقيقة “المادّة”. فهيَ لا تنفي واقعيّتها من جهة، ولكنّها تؤمن أنّها ـ تماماً “كالرّوح” – تجلٍّ لحقيقةٍ متعاليةٍ واحدة. بلغة الشّيخ الصّوفيّ الأكبر، وبتصرّف: إنّ الوجود الحقّ أحدٌ، ولكنّه إذْ ظهَر، كانتِ الأبعادُ الرّوحيّةُ والمادّيّةُ من مَظاهره. البُعدُ المادّي للوجود له واقعيّته، ولكنّ الأبعاد الأخرى (الرّوحيّة-المَلَكوتيّة والجَبَروتيّة والألوهيّة إلخ.) لها واقعيّتها أيضاً. المادّة ما هي إلّا تجلٍّ من تجلّيات الوجود الحقّ، والعوالم الرّوحيّة أيضاً ما هي إلّا من تجلّياتِه (“سبحانَ-هُوْ”). لا تنفي واقعيّةُ الأبعاد المادّيّة واقعيّةَ الأبعادِ الأخرى للوجود، والعكس صحيح.
إذن، ما هي النّتيجة؟
النّتيجة المنطقيّة والمرجوّة هي: من جهة، اقتناع الثّوريّين جميعاً (بمختلف تموضعاتهم الفلسفيّة والعقائديّة) بعدم نفي و/أو رفض النّظريّات الماركسيّة كافّة وبشكل كلّي مثلما يميل إليهِ بعض المعاصرين (لا سيّما فيما يخصّ الفلسفة الماديّة ذاتها، أو فلسفة ديالكتيك المادّة، أو فلسفة المادّية التّاريخيّة وابنها الأعزّ وهو مفهوم “الصّراع الطّبقي”)؛ ومن جهة ثانية، اقتناع الماركسيّين (خصوصاً التّقليديّين والأصوليّين منهم) بضرورة إعادة ادماج البُعد الرّوحي للوجود وللإنسان ضمن الصّرح المفاهيمي والنّظري الماركسي.. وذلك، أصلاً، للحفاظ عليه!
تماماً كما في الفيزياء مثلاً: يُفسّر نموذجٌ ما بعضَ أو معظمَ زوايا ظاهرة معيّنة، لكن ليس كلّ الزّوايا. ثمّ يكتشف العلماء بُعداً تفسيريّا جديداً يفسّر الزّوايا المتبقّية. إدماج البُعد الرّوحي للوجود وللواقع وللإنسان (مع كلّ ما يعنيه هذا الادماج)، يقوّي القدرة التّفسيريّة للنظريّات الماركسيّة الآنفة الذّكر، ولا ينتقص من قدرتها التّفسيريّة والتّنبّؤيّة أبداً. وهنا يكمن حجر زاوية طرحنا التّجديدي المنشود: طوّروا الماركسيّة وادمجوها مع الأبعاد التّفسيريّة والفَهميّة الرّوحيّة، ولا تقذفوا بالماركسيّة نحو سلّة المهملات بسبب طابعها المادّي-الأحادي إلى حدّ بعيد.
من هنا، نكونُ قد تقبّلنا الصّرحَ الماركسيَّ مجدّداً، مع وضعه ضمن إطار فلسفي ونظري ومفاهيمي أوسع وأشمل. تُصبح المادّة واقعيّة، وتتحرّك بطريقة ديالكتيكيّة (أي “جدليّة”) إلى حدٍّ بعيد، لكن: على أنّها بعدٌ ـ أو ضمن بعدٍ – من أبعاد الواقع والوجود. يُصبح التّطوّرُ الجدليُّ للمادّة واقعاً، لكن في عالم الكثرة والعدّ والضّدّ.. وليس بالضّرورة أن يكون الديالكتيك هذا القانونَ المحرّكَ للأبعاد الأخرى كلّها.
إرتقاء الوعي
تُصبح المادّيّةُ التّاريخيّةُ مقبولةً كتفسيرٍ قويّ لتطوّر المجتمعات البشريّة، لكن: لا كتفسيرٍ أوحَد. يُصبحُ تطوّر وسائل الإنتاج تفسيراً مقبولاً وقويّاً لتطوّر أنماط الإنتاج ثمّ الأنظمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسّياسيّة والحضاريّة التي تُبنى على أساسه، لكن عليه أن يتقبّل كونَه يتشارك أيضاً مع عناصر تفسيريّة أخرى وعلى رأسها عمليّة الارتقاء الرّوحي للإنسان (راجع مقالاتنا المذكورة آنفاً حول التغيير الدّاخلي وحول التّصوّف والعرفان، بالإضافة إلى كتاب الأخلاقيّات البروتستانتيّة والعقليّة الرّأسماليّة لعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (ت. ١٩٢٠ م)).
مع طرحِنا، يُصبح العملُ الثّوريُّ مسألةً مادّيّةً جماعيّةً بالتّأكيد.. ولكنّه أيضاً مسألةٌ روحيّةٌ – فرديّةٌ أوّلاً وجماعيّةٌ ثانياً – بامتياز، قوامها محاربة “الأنا” وترويضُها. ومن خلالهما يستطيع الإنسان أن يتحدّث عن تقدّم نحو مجتمعات وأنظمة من النّوع الاشتراكي أو من النّوع الشّيوعي (مع حاجةٍ إلى تحديث هذه المفاهيم كما نذكرُ فيما يلي). المراحل الاشتراكيّة والشّيوعيّة هي – بلا ريب – مراحل متقدّمة عقليّاً وأخلاقيّاً وروحيّاً على المرحلة (أو المراحل) الرأسماليّة، لكن يلزمُها ارتقاءٌ للوعي الإنساني: بشقّه القريب من البُعد الجسماني.. وبشقّه “المُتعالي” روحيّاً.
إنَّ عدمَ اندلاعِ “الثّورة الاشتراكيّة” الكبرى إلى اليوم، والمتوقَّعة من قبل ماركس وأغلب أصحابه، يعود برأينا إلى تأخّر الوعي الإنساني ضمنَ عمليّة الارتقاء هذه. و”ارتقاء الوعي” الذي نتحدّثُ عنه في هذا المجال يشمل التّعامل مع مراتب متعدّدة ضمن الوعي الإنساني كما سبق ولاحظنا: تبدأ بالنّفسِ الحيوانيّة (التي تشمل العلاقة مع الجسد والدّماغ)، وتمرّ بالتّفاعل مع اللّا-وعي الفردي ومع اللّا-وعي الجماعي وصولاً إلى “الرّوح” و”النّفسِ الكُلّيّة”، كما فصّلها جميعَها شيخٌ أكبر ثالثٌ ألا وهو شيخ مدرسة “سيكولوجيا الأعماق”: العالم الطّبيب كارل غوستاف يونغ (ت. ١٩٦١ م).
بطرحِنا، تُصبح مسألةُ تزكيةِ النّفسِ الصّوفيّة-العرفانيّة باباً من أبواب القفزة الثّوريّة الإنسانيّة الكونيّة المنشودة، تطبيقاً للآية القرآنية المباركة:
“ولقد كتبْنا في الزّبورِ من بعد الذِّكرِ أنّ الأرضَ يرثُها عباديَ الصّالحون. إنّ في هذا لبلاغاً لقومٍ عابِدين”. (الأنبياء، ١٠٥-١٠٦).
..وتصديقاً لنبوءات أنبياء ورسل وحكماء وأولياء وفلاسفة كثر، منهم سلطان العاشقين وشاعر العارفين، جلال الدّين البَلخي الرّومي (ت. ١٢٧٣ م) عندما قال:
“بالأمسِ، كنتُ ذكيّاً.. فأردتُ تغييرَ العالم.
اليوم، أنا حكيم.. لذلك سأغيّرُ نفسي”.
كلّ ما سبق، بالإضافة إلى بعض الملاحظات حول طريقة التّعامل مع المرحلة الرأسماليّة النّقديّة ـ الماليّة الحاليّة ـ والتي قد تدوم طويلاً بطبيعة الحال كما رأينا ـ خصوصاً فيما يعني التّعامل مع مفاهيم الاقتصاد السّياسي الرأسمالي، والتّعامل مع القرارات الاقتصاديّة للفرد ومع آليّات السّوق، بالإضافة إلى كيفيّة التّعامل مع الطّبقات الوسطى.. كلّ ذلك، قد يسمحُ بالانطلاق ـ حسب رأينا ـ نحو تأسيس الموجة الثّوريّة العالميّة الثّانية، تصديقاً للنّبوءة الأُمَميّة الشّيوعيّة أيضاً:
“شِيّدوا الكونَ جديداً حُرّاً..
كونواْ أنتمُ الوُجودْ.
في جموعٍ قويّة: هبّوا.. لاحَ الظّفَرْ.
غدُ الأُممِيّة.. يوحّدُ البشَرْ.
بركانُ الفكرِ في اتّقادِ.. هذا آخرُ انفجارْ”.
لقد فصّلنا في كتاباتنا السّابقة العديد من المفاهيم التي تحتاج إلى إعادة نظر، مثلاً، طرح مفهوم الاقتصاد التّشاركي-التّعاوني في مقابل مفهوم الاقتصاد الاشتراكي كما تصوّرهُ ماركس والماركسيّون التّقليديّون. المهم أنّ القضّية تستلزمُ جهوداً كبيرةً جدّاً، إذا ما أُخذت على محمل الجدّ طبعاً.
لكنّني أرجو اعتبارها، على أي حال، بدايةً تشجيعيّةً أو همسةً صغيرةً استفزازيّةً للجميع.. إن لم تؤخذ على محمل الجدّ كبداية طرحٍ فلسفيّ-حركيّ جديد، فلتؤخذ كبيتٍ شعريٍّ ثائرٍ بغير وزن، أو كلحنٍ ثوريٍّ جديد.. قد يُذكّرُ بالألحان القوميّة العربيّة الاشتراكيّة التي بدأنا بها.. ونختمُ معها، طبعاً، هذا القَبَس الإيجابيّ الثّوريّ المادّي ـ والرّوحي معاً:
“نمضيْ إلى الأمامْ، ونصنعُ الرّوائعْ.
أقدامُنا حقولْ، طريقُنا مصانعْ
وتلمعُ الرّاياتْ
وتلمعُ الرّاياتُ في مواكبِ الطّلائعْ“!
[1] لمزيد من التّفاصيل والحجج، نحيلُ طبعاً إلى مقالنا حول “الجهاد الأكبر VS الجهاد الأصغر” وإلى سلسلة مقالاتنا حول “البعد الصّوفي-العرفاني للأديان”، أيضاً على موقع 180Post.
(*) الجزء الأول بعنوان “لست شيوعياً لكن متى تنفجر الثورة الماركسية العالمية“