وداد يونس إبنة بلدة الخيام الحدودية. الإنسانة المولودة على قمة جبل يُشرف على مرج أخضر العيون.. فيه أبهى تلك العيون: بركة الدردارة.
الدردارة التي يراها الخياميون أكبر من المحيط، هي دردارة الشعراء والأدباء من أصدقاء وداد ورفاقها: عصام، محمد وحسن العبدالله وغيرهم آخرون. رافقتهم في طرق المدينة وأزقتها وفي نزوح شعرهم من درب العصافير وجبل الشيخ نحو أرصفة بيروت ومقاهيها كمناف مؤقتة قبل الرحيل الأخير.
هي المرأة الجنوبية المثقفة التي إنتقلت من سلك التعليم إلى سلك المحاماة بعدما درست القانون، في أثناء رحلة نزوحها من جنوب الجنوب إلى بيروت برغم التزاماتها العائلية والوظيفية.
هي التي ترأس نادي الدكتور شكرالله كرم الثقافي والإجتماعي في الخيام ومن مؤسسيه، الناشطة أيضاً في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي وفي نقابة المحامين وصاحبة تجربة حزبية ونقابية حافلة.
سأبدأ في قراءة كتابها الأول من عند محطة 13 نيسان/أبريل. تاريخ حفر عميقاً في نفوسنا نحن جيل الحرب الأهلية. كان يمكن للحروب أن تكون مجرد صُوَر ومآتم وقبور لولا الأعمال الأدبية التي راحت تؤرخ وتروي قصص ناس ماتوا أو جُرحوا أو فقدوا أو ما زالوا بيننا.
في نصه الذي كتبه بعنوان “الأدب في مواجهة الحرب: أحياء إلى الأبد”، يقول مهدي يزداني خرم في مجلة “الإنساني” إن تاريخ أثر الحرب على الأدب، “يعود إلى عصور ما قبل الميلاد. وعندما نبحث في أقدم نصوص الأدب العالمي، في الغالب نرى أن الحروب القومية والإقليمية لعبت دوراً مباشراً في سرد الروايات الأدبية في تلك الفترة. وتعتبر ملحمتا “الإلياذة” و”الأوديسا”، للشاعر اليوناني «هوميروس»، من أبرز تلك الروايات الأدبية التي تتحدث عن عدد من الحروب التي وقعت في تلك الفترة الزمنية، ومن ضمنها «معركة طروادة». ولكن هذه الأمثلة تختلف كثيراً عن الروايات التاريخية التي ظهرت في عصور ما بعد الحداثة”.
تحتل الحروب حيزاً وازناً في كتاب وداد يونس (244 صفحة) الصادر عن “مكتبة بيسان”، غير أن حكايات وداد لا تخصها وحدها. هي حكاياتنا جميعاً، لكأننا وقّعنا لها توكيلاً عاماً كمواطنين لبنانيين لسرد معاناتنا أثناء الحرب، من قتل وهدم وتهجير وخطف وحرقة قلب لا تنتهي. وداد يونس حكت أيضاً بلسان الـ150 الف قتيل و17 الف مفقود ومخطوف. لم تأخذ على عاتقها أن توثق ولا أن تروي ما قيل هنا وهناك. قررت أن تكون شاهدة. هي في قلب الروايات. وداد الإنسانة والمناضلة التي تبدو سيرتها واحدة. الطفلة التي إرتسم مصيرها من لحظة ولادتها إلى ما صارت عليه صورتها الآن.
وما أعرفه عن وداد أنها كائن إجتماعي بامتياز. لكن الإجتماعيات لا تجعلها تُفرّط أو تتباهى بالذات. مثلاً، وداد يونس لا تحب حفلات تواقيع الكتب. متعتها أن تشارك في مناقشة نتاج الآخرين، وهذا هو حال تعاملها مع مولودها الورقي الأول. إختارت أن تقدم منتوجها الأدبي من منبر المجلس الثقافي للبنان الجنوبي في النبطية مع ثلة من الكتاب والأدباء والمهتمين والأصدقاء، وذلك أجدى وأكثر دلالة على عمق المحتوى، من منظورها الشخصي.
اتحفظ على عبارة “المجموعة القصصية”، لأن ما سردته وداد أقرب ما يكون إلى حكايات ويوميات من حياة مناضلة تُشعرك بأن الحروب التي دارت على أرض هذا الوطن من أقصاه إلى أقصاه، تركت آثارها في الوجوه والذاكرة والأجساد والجدران والوجدان، وبالتالي، هل هناك أجمل من الأدب وسيلة تحفظ لنا هذا التاريخ وتمنع قراصنة التزوير من السطو عليه كما سطوا على حياة اللبنانيين وودائعهم ومستقبلهم؟.
هذه المهمة تتبدى أمام كل من يقرأ “وجوه بلون الرماد”. وداد يونس أكثر من كاتبة. في سطورها تتبدى ملامح أديبة كامنة. تُنبئنا بذلك القفلات التي تنتظرنا في آخر كل نص وهي إما جملة حوارية، أو خلاصة على شكل عبرة أو ملخص لموضوع شائك أو نكتة أو ما شابه ذلك. لا تنتهي نصوصها نهاية تسلسلية بديهية؛ ففي آخر النص تكمن المتعة، وهي لا تعطينا فرصة مديدة حتى تنتقل كالفراشة من فكرة إلى فكرة أكثر سلاسة فتجعل القراءة أكثر حماسة وتشويقاً.
تتنقل وداد بين الفصحى والعامية، فلا تلتزم بمدرسة أدبية واحدة تُحرّم أو تُحلّل هذا النوع من الكتابة أو ذاك. تركت قصصها تستريح على صفحات كتابها، وحين تروي قصصاً عن الحب والزواج والأولاد والعلاقات الإجتماعية، تكاد لا تمر حكاية بلغة سردية محايدة. هناك دائماً تلك الراوية الخطيرة التي تُمسك بقلمها وتكتب بخفة وظرف شديدين ما لا يلمحه غيرها في خبايا الموضوع وفي زوايا النص. أجد خلطة سحرية في نصها تخ
تصر شخصيات الكاتبة. الأستاذة. المحامية. المثقفة والمناضلة في الحياة بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى.
الأدهى والأجمل أنني كنت هناك. كلما قرأت لها شعرت أنني واقفة في باب النص او على شباكه، وأحيانا كنت أزرع شتلة بندورة في حاكورة بيت أهلها في الخيام، وأود لو أنني أمسك بنبريش المياه لأرويها حين تتحسر والدتها على عطش الزريعة في تلك القرية الجنوبية الغنّاء.
ووداد الكاتبة تحكي الواقع وبلساننا كلنا. لا شيء يأتي من الخيال. تحكي عن خروج الخياميين من بلدتهم ـ بعد إحتلالها من قبل الإسرائيليين وعملائهم ـ سيراً على الأقدام من سهل الوطى حتى وادي إبل السقي محملين بزاد خفيف من الماء والخبز. أيام للتيه والهرب في الوديان والتلال الوعرة. تذكرت أنني كنت هناك مع عائلتي: أمي وإخوتي الأربعة وربما لمحت وجهي والديها من بين الوجوه المتعبة ولم أكن أعرف من قسمات الوجوه غير الخوف والتعب والمجهول.
نعم كنت هناك، وكل من سيقرأ “وجوه بلون الرماد” ستعود به الذكرى إلى هناك. إلى سيرة فتاة أرادها والدها أن تتعلم. قال الوالد مخاطباً زوجته في أحد الأيام “كم مرّة لازم قول وعيد، بنتك ما بتطلع من البيت إلا عالمدرسة أو القبر، اختاري”. لم يكن الوالد الصارم يريد لإبنته أن تكون مُدلّلة كغيرها من بنات جيلها. أرادها أن تكون أخت الرجال. ربّى فيها روح التحدي. أن لا تستسلم لمجتمع موغل في الذكورية.
وكلما كنت أسرح في هذا الكتاب، إستمتعت برأي وداد الناقدة. تحاكي تجربة جيل مهزوم. هزمته التجارب والحروب، ولكنه رفض أن يستسلم. أخال بعض النصوص كُتبت وكأنها مقالات سياسية تُعبّر فيها الكاتبة عن رأيها بهذه المرحلة أو تلك.
تحكي لنا وداد عن الحياة في الملجأ ومن منا لم يعش حياة الملجأ. نعم أيضاً كنت هناك في ملجأ مجاور. ثم تحكي وتحكي عن كل تفاصيل حياتها. تنغمس في حكايات السياسة والأمن والإجتماع والقانون والفن والغناء والرسم وكل شيء.
في أسلوبها الشفيف لا توجد ثرثرة، وفي جملتها تصويب مباشر ولكن الأدب فيه يتبدى في طيات السرد السلس ناهيك عن اللغة ومتانتها.
لغة بسيطة على عمق وثقافة، وهل أجمل من تلك الحوارات الطازجة التي تنقلها إلينا بين مزدوجين وكأنها تصدر الآن من قلوب وأفواه شخصيات تحمل أسماء نعرفها جيداً؟
أبو رياض وفريال والست هلا وغيرهم، ألا يتكررون في كل بناية وحي وملجأ في ليل ونهار بيروت الحرب الأهلية؟ هل ستختلف الأسماء في الخيام أو في دار المعلمين أو في رحلات التهجير المتمادية من الجنوب إلى بيروت؟
ما أن طويت آخر صفحة من كتاب “وجوه بلون الرماد” حتى شعرت أنني على موعد مع فصل جديد من فصول الحرب الأهلية المستمرة حتى يومنا هذا. الحرب أحياناً تكون بالرصاص.. وأحياناً بالقهر والفساد والسرقة وقلة الأخلاق وهل مرّ شعب لبنان بوضع أكثر بؤساً مما هو عليه في يومنا هذا؟