الدولار مقابل الليرة اللبنانية.. تجريب المجرب لتخريب المخرب!

يخطّط حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لإطلاق منصة تداول إلكترونية، يُحدّد فيها سعر صرف الدولار بعشرة آلاف ليرة في السوق الموازية النقدية، بمشاركة المصارف وكبار الصرّافين.

إستجاب مصرف لبنان المركزي عملياً لضغوط علنية مارسها الرئيس اللبناني ميشال عون والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، بالاضافة الى ضغوطات أخرى، أبرزها ضيق صدر الشارع اللبناني الغاضب من ارتفاع سعر صرف الدولار خلال الأسابيع الماضية حتى وصل 15 ألف ليرة.

لإنجاح الآلية القديمة ـ الجديدة، يَعِدُ سلامة بالتوقف نسبياً خلال الشهرين المقبلين عن طبع الليرة التي بلغت في التداول 35 ألف مليار ليرة، ليكتفي بطبع حاجة خاصة بدفع رواتب في القطاعين العام والخاص في الحدود المطلوبة. بذلك سيحاول تعطيش السوق لتجفيف سيولة بقدر معين من العملة الوطنية التي تذهب جزئياً للمضاربة على الدولار وتسهم في رفع سعره.

 الى ذلك، يدرس الحاكم امكان تدخله في سوق القطع عند الضرورة بمبالغ محسوبة جداً للحفاظ النسبي (بهوامش معينة) على 10 آلاف ليرة للدولار الواحد، مفترضاً أن تدخله محتمل في اضيق النطاقات، لأن المتعاملين الآخرين قادرون على التكيف، طلباً وعرضاً، مع التثبيت الجديد في السوق الموازية التي تقلّص حجمها كثيراً بعد تراجع الإستيراد في 2020 بنسبة زادت على 50 في المائة، وقد يتقلص الإستيراد أكثر في 2021، بعدما فقد 75 في المائة من اللبنانيين قدرتهم الشرائية بالليرة بنسب متفاوتة وصل أقصاها الى 85 في المائة. وهذا الافتراض يدفع سلامة للإعتقاد بان الضبط ممكن اذا توافرت جملة ظروف اخرى ابرزها تعاون المصرفيين والصرافين وخوف المضاربين من الخسارة او الملاحقة الأمنية الرسمية.

وفي الافتراضات أيضاً ان الناتج الاقتصادي الذي تراجع بقوة لا يحتاج الى دولارات وفيرة بلا قيود على تداولها في ظل انكماش اقتصادي هو الأسوأ في تاريخ لبنان الحديث. وثمة رهان على استدراج مليارات موجودة في المنازل وأخرى من المساعدات الإنسانية ستجد طريقها تدريجياً الى المنصة اذا نجحت التجربة في المدى القصير.

*** 

وعد سلامة بتخفيف طبع الليرة، لحصره في نطاق محدود، والسعي لتجفيف السوق من كتلة نقدية وازنة من العملة الوطنية برغم الأثر الانكماشي الاقتصادي لهذا الاجراء النقدي

دون ما يتمناه الحاكم نزولاً عند ضغط القوى السياسية الشعبوية منها والوازنة جملة عوائق في سباق حواجز العشرة آلاف ليرة، تنتصب أمامه وأمام غيره من المعنيين، أبرزها الآتي:

أولاً، هل ستتعاون المصارف اللبنانية وتضع في التداول مئات ملايين الدولارات عند حاجة الطلب الكثيف المتواصل، ومن أين ستأتي بتلك الدولارات؟ من خزائنها في الداخل أم من المبالغ التي جمعتها لدى البنوك المراسلة في الخارج؟ بالاضافة إلى أسئلة عن الصرافين، لا سيما العاملين منهم مع مضاربين لتحقيق هوامش ربح عالية. إذ سبق لهم أن “زعبروا” في تعاملات المنصة التي اطلقت السنة الماضية.. وفشلت.

ثانياً، التدخل في سوق القطع من جانب البنك المركزي عبارة عن استخدام دولارات من مخزون العملات الاجنبية لديه، برغم اقترابها من حد الاحتياطي الالزامي الذي هو للمودعين حصراً، وليس لأي متعامل آخر سواء في المنصة أو غيرها من مزاريب الاستخدام غير الأخلاقي لحقوق المودعين!

ثالثاً، تسرب ان التداول عبر المنصة يتطلب افصاحات وشفافية بابراز وثائق تبرر الحاجة للدولارات التي ستخصص للتجارة بقسم كبير منها ولأغراض أخرى قليلة. لذا لا يمكن استبعاد بقاء تداولات ما خارج تلك المنصة الخاضعة في التدقيق فيها وعليها للجنة الرقابة على المصارف. إذاً، لن تغطي المنصة الموعودة كل التداولات فتبقى سوق موازية أخرى الى جانب المنصة وبأسعار مختلفة.

رابعاً، وعد سلامة بتخفيف طبع الليرة، لحصره في نطاق محدود، والسعي لتجفيف السوق من كتلة نقدية وازنة من العملة الوطنية برغم الأثر الانكماشي الاقتصادي لهذا الاجراء النقدي، لكنه يغفل الأثر المتواصل لضرورة الاستمرار في الطبع لمودعين ساعين يومياً لسحب ودائعهم الدولارية بسعر منصة “اللولار” عند 3900 ليرة مقابل كل دولار. كما يغفل أثر تصريف كتلة عملات أخرى مثل الليرة السورية التي يعرفها صرافو شتورة حق المعرفة يومياً (ثمة ملاحظة تتصل بتلازم المسارين النقديين في لبنان وسوريا، صعوداً ونزولاً، بدليل ما حصل في الأسابيع الأخيرة).

خامساً، للتجفيف آثار سلبية جانبية مثل فقدان شيكات الليرة من قيمتها عند تسييلها بنسبة معينة قد تصل إلى نحو 20 في المائة، لأن الليرة النقدية ستشح، وينسحب الأمر عينه على الدفع ببطاقات الدفع الالكتروني من حسابات الليرة اللبنانية.

سادساً، يضغط رياض سلامة لترشيد الدعم أكثر فأكثر، بعدما خفض منح دولارات لدعم استيراد السلع الغذائية بنسبة كبيرة ستليها أخرى قريباً ليقتصر الأمر على ربع ما كان يصرفه من دولارات لهذه الغاية. وسيلجأ التجار الى السوق الموازية لتأمين الدولارات التي توقف سلامة عن ضخها وبالتالي سيرتفع الضغط على المنصة. وفي الطريق أيضاً ترشيد دعم استيراد الأدوية والمحروقات لِتكبُر حاجة الدولارات التي سيسعى التجار لطلبها من المنصة العتيدة التي ستجد نفسها أمام طلب متزايد على العملة الاميركية مقابل عرض محدود او محدد، وبالتالي ستنشأ عاجلاً أم آجلاً سوق موازية أخرى. وقد تعود كرة المضاربات الرافعة لسعر الصرف.

ماذا لو لم تتشكل حكومة، واتجه السعي لتفعيل حكومة حسان دياب المعروف عنه تحميل سلامة وحماته السياسيين المعروفين وزر افشال خطة توزيع الخسائر. سيما وان لا بديل صالحاً غيرها حتى اليوم، وقد يلجأ دياب الى اعادة طرحها لانتزاع توافق حولها يمهد لاستئناف المفاوضات مع صندوق النقد على أساسها

سابعاً، الاعتراف الرسمي بسعر 10 آلاف ليرة للدولار سيجر تسعيراً للسلع والخدمات على هذا الأساس. وبافتراض نجاح “المخطط” في المديين القريب والمتوسط، فان اصحاب رواتب الليرة سيجدون انفسهم أمام واقع مكرس لا عودة عنه بفقدان 85 في المائة من قدراتهم الشرائية، تضاف إليها نسبة أخرى  من الفقد كلما تم ترشيد دعم سلعة معينة، حتى تصل قيمة الراتب الى اقل من عشره قبل سنة ونصف السنة. فمن سيتأقلم مع وضع تقشفي حاد كهذا ولماذا وإلى متى؟

إقرأ على موقع 180  دراسة التاريخ.. ومستقبلنا القاتم

 واذا نجحت التجربة نقداً، هل ستنجح في كبح جماح الأسعار؟ الجواب ليس لدى البنك المركزي بل لدى وزارة الاقتصاد العاجزة كل العجز عن ضبط الاسواق، إذ نرى يومياً كيف أنها فاقدة لأي سيطرة على التوزيع العادل للسلع المدعومة، لا بل هي شبه خاضعة بالتواطؤ طوعاً أو قسراً مع تجار على حساب المستهلك بسبب الوكالات الحصرية ورخص الاستيراد الخاصة والاحتكارات وكل الآليات المعروفة ببشاعتها التجارية تاريخياً في لبنان.

ثامناً، الى متى سيستمر العمل بهذه المنصة؟ شهر؟ شهران؟ أو حتى تأليف حكومة وفتح تفاوض مع صندوق النقد الدولي للحصول على قروض إنقاذية. قروض قد لا تأتي قبل ستة اشهر إلى سنة من بدء التفاوض اذا حصل اتفاق على تطبيق سلة الشروط الاصلاحية القاسية، وعلى رأسها تحرير سعر الصرف.. فيتجدد السؤال الصعب: أي سعر سنعتمد للدولار في لبنان!

تاسعاً، هل سأل سياسيون أشاوس أنفسهم كيف ستنجح الخطة وهم يمعنون في منع اقرار قانون ضبط التحويلات الى الخارج (كابيتال كونترول). فكما يؤكد الخبير المالي دان قزي، فإن “أصحاب السوبر واسطة يمارسون كل يوم الضغط لتحويل أموال الى الخارج”. فتهريب الدولارات أو خروجها مستمر، بدليل عجز ميزان المدفوعات في 2020 البالغ 10.5 مليارات دولار! فاي منصة تنجح في ظل خروج المليارات تباعاً حتى الجفاف المميت؟

عاشراً، ماذا لو لم تتشكل حكومة، واتجه السعي لتفعيل حكومة حسان دياب المعروف عنه تحميل سلامة وحماته السياسيين المعروفين وزر افشال خطة توزيع الخسائر. سيما وان لا بديل صالحاً غيرها حتى اليوم، وقد يلجأ دياب الى اعادة طرحها لانتزاع توافق حولها يمهد لاستئناف المفاوضات مع صندوق النقد على أساسها؟

تبقى الاشارة الى ان هناك من يتهم سلامة بفشل تثبيت سعر الصرف حتى بات لدينا عدة اسعار متفاوتة بنسب بين 60 و85 في المائة، الى جانب اتهامه بفشل حماية مدخرات الناس بالدولار والبالغة اكثر من 100 مليار، ومراكمة فجوة في حسابات البنك المركزي قيمتها الآن 55 مليار دولار، وعدم قدرته او رغبته في مجابهة سياسيين ومصرفيين عابثين بالمال العام (والخاص) امعنوا في تجفيف الموارد بعد مصها بشكل ممنهج طوال ثلاثة عقود من الزمن غير الجميل.

نحن امام مشهد سوريالي من العجز والترقيع. عسى الا تتحول محاولة المنصة التي نحن بصددها الى تجريب المجرب مراراً لتخريب المخرب تكراراً.

Print Friendly, PDF & Email
منير يونس

صحافي وكاتب لبناني

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  سفير طلال سلمان.. تحدٍ واستجابة للتحدي