مشغره.. عودي كما اعتدناك أو وداعاً

الثأر، هو الذي يخيفني. هو الذي لا أستطيع ان أكتب عنه بقلمي. تغيب عني الكلمات. أجد اللغة قاصرة. أدخل في صمت. أُصاب بذهول وعجز. ألم يشبه عتمة. موت مقيم، ونحيب عائلات تدخل في حزن مديد.

مشغره أصيبت مرة أخرى بالقتل. لم تكن كذلك من قبل. الدم فيها لم يكن مباحاً. حرمة الحياة تفوق أسباب الخلافات. نسيج الاجتماع الإنساني يتمزق. تصاب الأمهات والزوجات والأطفال، بدمع يشبه الدم. آلام وغضب عارم ودعوة للثأر.. ثم، تفتح أبواب الجحيم، ويصير “حرام الدم” حلالاً.. ثم “لا حول ولا قوة”!

يلبس الحزن ثيابه. الحزن الصامت ينفجر. حزن حميم، وكلمات فجائعية، وخوف من ثأر يستدرج ثأراً.

مشغره التي عرفناها أماً، طُرِدَت من تاريخها المديد. تاريخ السماحة والاخاء وإغاثة الملهوف والعلاقات الاسرية. تمزقت العلاقات. الدم يستسقي الدم. والجريمة معدية. وإزاء هذا الدم، تشعر أنك عار من كل مبادرة. كل كلام ناقص. كل مسعى محفوف بالفشل. الثأر أقوى من العقل، أمتن من المحبة، أكثر ارتواء. الانتقام هو الرد الطبيعي، في بلاد تُداس فيها القوانين. عدالة تم اغتيالها. بلاد لم نعد نعرفها. هذه التي كانت لنا أماً، أصبحت دائرة، على حل ألمها.

أشعر بخوف يوازي خوف المصابين، فالدم بليغ ومُعدٍ. الدم أعمى ولا يُمحى. إنه ليس حبراً. ليس كلاماً يُعَوّل عليه. إنه نزف وألم وحزن واشتهاء للثأر. ألم يحفر في الصدور ويفطر القلوب ويُيَتم أطفالاً، يذوقون طعم الدمع كل يوم. المخيف أن لا تكون لهذا القتل نهاية. الثأر إرث. يتم توريثه للأبناء. الثأر يستدرج ثأراً مضاداً. ثأراً متناسلاً. وبه، لا نهاية لهذه النهايات المأساوية. والمؤسف، هو وقوعك في العجز، إذ، تبحث عن أمل أو يقين، فلا تجد إلا السواد.

لم تفرغ مشغره فقط من الشباب. الثقافة هاجرت. الفكر الحر خاب. الخيارات باتت ضيقة. الأهداف المشتركة ميدان تنازع. الحرب أنجبت حالة جديدة. الحالة الدينية لها نتائجها الإيجابية وتأثيراتها السلبية. لأن الاملاء يختلف عن الإنشاء.. عالم الاملاء سهل. عالم الانشاء يحتاج الى تفاعل وحراس وعلاقات متوازنة والاعتراف بالاختلاف

الآن، مشغره خائفة. كانت كذلك يوم افتتاح القتل والقتل المضاد. السائد اليوم هو الخوف. والخوف ليس جبناً أبداً. إنه خوف طبيعي وحقيقي. لأن عتمة الدم، أزاحت كل علاج وتفاؤل وإمكانية تصالح. إنه خوف على أبرياء. على عائلات ترملَت وتيتمت واصطفت في أحزانها. ومقابل كل حزن، اصطفاف لأحزان سابقة.

هل هذه مشغره؟ من يشفيها من شفاعات القتل والثأر؟ من يُعيد إليها ابتسامة صبح ومعانقة فرح وصباحات الخير والعطاء. مشغره تغيَّرت. صارت تخاف وتُخيف. ومع ذلك، تسأل ما الحل؟ لا حل راهناً. النسيان شاق، بل مستحيل. الدم ينعش ذاكرة الانتقام. متى ندرك أن القاتل قد يكون غداً قتيلاً. هو أو أحد أفراد عائلته؟

جنون الانتقام والثأر يصيب الأبرياء. يُيَتم الأبناء. يُرمل النساء. يسحق الأمل. الثأر بابٌ من أبواب الجحيم.

لن أدخل في تفاصيل المأساة. مشاعري تمنعني من التورط في المأساة. سؤالي الآن: هل من حلول؟ الجواب صعب، لأن الثأر والقتل متلازمان. لا ثأر من دون قتل سابق. الأساس هو القتل. والأديان دعت إلى الحب، لم تدعُ إلى القتل. ومع ذلك، فقايين الذي قتل هابيل، ما زال يقتل. الكرة الأرضية راهناً، وسابقاً، محفوفة بالقتل. المقابر ثرية جداً بالشهداء والقتلى والخونة كذلك.

إذاً، ما العمل؟

ابدأ بسردية منتقاة. كان الدم حراماً في مشغره، على امتداد أجيال. لم تعرف مشغره دماً، قبل اندلاع الدم في لبنان، كل لبنان. هذه الحرب التي استطالت 15 عاماً، أصابتنا جميعاً. الحرب رمّلتنا. ألزمتنا بالسواد والتهجير.. ولطالما كان الخوف ينام معنا. الحقد، وهذا طبيعي جداً، رسم خطوط التماس المتعادية. رسم خطوط النفور بين عائلات كانت ترتوي من ينابيع القلوب.

مشغره، لم تكن كذلك أبداً. ولم تكن مثالية كذلك. مشاكلها كانت أقل ثقلاً وكارثية من الدم. كنا أجيالاً من التشارك، إلى أن حضرت الحروب الصغيرة والأحقاد المتراكمة. عاشت مشغره عقوداً على تعاون وتعامل بنَّاء.

كان لدينا أخطاء وزلات ومشكلات وتحزبات، ولكنها كانت مضبوطة بالسلم المدني والأهلي، وبتدخل المصلحين من ذوي سمعة الوفاق والمصالحة. وكانت مشغره مساحة لأحزاب غير دينية وغير طائفية. كنا أحزاباً قبل أن يتعرض البلد كلّه لغزو الطوائف والمذهبيات.. ومع هذا الغزو، كان ما كان وما لا أريد تذكره، لأني مرابط في مقام الأمل ومقيم في كنف السلم.. ولو كان ذلك صعباً جداً.

لماذا حصل كل هذا الخراب الروحي؟

سأقول ذلك بصراحة. إحتراماً لماضٍ مضى، وتأثراً بما حصل. كانت مشغره مختلفة. كان لمشغره ثقافة التعدد والتوحد معاً. الانقسام والاقتسام. الصدق والالتزام والعيش المشترك جداً. كنا حارات متجاورة ومتلاصقة ومتفاعلة ومُؤسّسة على مبدأ الجيرة.. وكل الجيران هم أهل وأصدقاء وأحباب. صحيح أننا كنا طبقات اقتصادياً واجتماعياً. نعم، كان هناك أثرياء وفقراء. وهذا ما نعرفه في كل البلاد. إنما تميّزت مشغره بالانفتاح والمعارف وبالنضال السياسي اللاطائفي بالمرة وبالتلاقح الفكري غير المنغلق. لم تكن هناك قناعات مبرمة ومغلقة. الانفتاح كان الباب الإلزامي الذي يعبر منه الكثيرون. أختصر مشغره بالقول إننا كنا نتباهى بصداقاتنا المتينة وعداواتنا العابرة وعراكاتنا المنضبطة بنسبة كبيرة.

أدعو من كل قلبي: يا مشغره عودي إلينا معافاة، ولو بعد سنوات. من دون هذه العافية، تصبح تحية الوداع، هي آخر الكلام

مع إندلاع الحرب، غابت ثقافة الاعتراف بالتعدد. إنشطر الناس طائفياً. صار السلاح ناطقاً يومياً. دخلت مشغره في دوامة القوة والاستقواء. انقسمت مشغره. ذاقت الأمريَن في زمنين متناقضين. سال دم بريء في الزمن الإسرائيلي. ثم سال دم آخر في زمن الاندحار الإسرائيلي. وكان ما كان من دم. كبرت الفجوة – التهجير.. وأفرغت الهجرة بيوتاً وحارات وبلدة، وصارت مشغره تتعكز على يوميات المتخاصمين طائفياً وحتى عائلياً.

إقرأ على موقع 180  أنجيلا ميركل.. "خاتمة الكبار" في أوروبا

حاولنا جمع أهلنا في مشغره عندما أنشأنا سوقاً ناجحاً ومُعبّراً عن وحدة عيش وحياة. للأسف: تم الغاؤه بقرار، فتبدَد الحلم. بعده، نشأت عداوات بين أبناء الطائفة الواحدة.

لم تفرغ مشغره فقط من الشباب. الثقافة هاجرت. الفكر الحر خاب. الخيارات باتت ضيقة. الأهداف المشتركة ميدان تنازع. الحرب أنجبت حالة جديدة. الحالة الدينية لها نتائجها الإيجابية وتأثيراتها السلبية. لأن الاملاء يختلف عن الإنشاء.. عالم الاملاء سهل. عالم الانشاء يحتاج الى تفاعل وحراس وعلاقات متوازنة والاعتراف بالاختلاف.

ماذا غداً؟

لا أعرف. أعرف أن حزناً سيقيم في داخلي، وخوفاً لا أستطيع كتمانه. إن عبارة “الدم يستقي الدم” مريعة.

أنا الآن خائف. أتعاطف مع القتلى. مع العائلات المتألمة والمفجوعة، وأتمنى أن تحدث معجزة الصفح.

نعم.. لا حل إلا بعد زمن الصفح، بكلفة السلام المستدام.

هذا صعب؟ طبعاً. ولكن، لا أمل من غير هذه النافذة.

أخيراً أدعو من كل قلبي: يا مشغره عودي إلينا معافاة، ولو بعد سنوات. من دون هذه العافية، تصبح تحية الوداع، هي آخر الكلام.

Print Friendly, PDF & Email
نصري الصايغ

مثقف وكاتب لبناني

Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  شقاق النخب: أمريكا، السوبراناشيونال والمشاكسون (2)