الخلاف بين الصحابة وأئمّة الدين.. ابن حزم وطمس الحقائق!

أدى الخلاف بين علماء الإسلام من العصور الأولى في قضايا مثل الفقه، الشعائر، التفسير، الحديث، السرديّة التاريخيّة، إلخ..) إلى مقاربات متناقضة للدين والتاريخ الديني أنتجت مذاهب وتيّارت إسلاميّة عديدة. هذا البحث يتناول معالجة ابن حزم الأندلسي (ت 1064 م) و"براعته" في تفسير الخلاف لستر عورة هائلة في الإسلام بأسلوب يُذكّرنا بخرافة آدم وحوّاء عندما "بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ" (سورة الأعراف 22).

ابن حزم هو من كبار مفكّري أهل السنّة في العصر الكلاسيكي وكان على المذهب الظاهري (مذهب تأسّس في بغداد في أواسط القرن التاسع وتمدّد إلى كثير من بلدان العالم الإسلامي، خصوصاً الأندلس، وله اليوم قلة من الأتباع). ولابن حزم مؤلّفات عديدة في الفقه والحديث والتاريخ والمنطق والأدب، وكانت له دراية أيضاً في علم الطب والفلسفة.

خصّص ابن حزم فصلاً كاملاً في كتابه “الإحكام في أصول الأحكام”، لمعالجة موضوع الخلاف بين علماء الإسلام الأوائل، يتبدى من خلاله حجم المأزق الذي خلقه هذا الخلاف بين علماء الإسلام في العصور الأولى حول الكثير من الأمور التي لها علاقة بالدين (عبادة، إيمان، شرع وآخرة)، والذي أدّى من جهة، كما ذكرت آنفاً، إلى ظهور طوائف وفرق كثيرة، وشكّل من جهة أخرى، واقعاً محرجاً للكثيرين من العلماء المتأخّرين.

أما الواقع المحرج، فيتعلّق بالمذاهب التي “ألّهت” الصحابة والتابعين وأئمّة المذاهب السنّيّة لدورهم في رواية ونقل الحديث النبوي ونشر الدين وتأسيس شرائعه، والذي أصبح من المستحيل معه تحميلهم مسؤوليّة الشروخ والإنقسامات التي حصلت في الإسلام.

يعطينا ابن حزم عشرة عوامل تُفسّر برأيه سبب الخلاف، هي كالآتي:

أحدها: ألّا يبلغ العالم الخبر فيفتي فيه بنصّ آخر بلغه – كما قال عمر في خبر الاستئذان: “خفي علي هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألهاني الصفق بالأسواق”. وقد أوردناه بإسناده من طريق البخاري في غير هذا المكان.

وثانيها: أن يقع في نفسه أن راوي الخبر لم يحفظ وأنه وهم – كفعل عمر في خبر فاطمة بنت قيس وكفعل عائشة في خبر الميّت يعذّب ببكاء أهله – وهذا ظن لا معنى له إن أطلق بطلت الأخبار كلّها وإن خصّ به مكان دون مكان كانت تحكّماً بالباطل.

وثالثها: أن يقع في نفسه أنّه منسوخ كما ظنّ ابن عمر في آية نكاح الكتابيّات.

ورابعها: أن يغلب نصّاً على نصّ بأنّه أحوط، وهذا لا معنى له إذ لا يوجبه قرآن ولا سنّة.

وخامسها: أن يغلب نصّاً على نصّ لكثرة العاملين به أو لجلالتهم، وهذا لا معنى له لما قد أفدناه قبلاً في ترجيح الأخبار.

وسادسها: أن يغلب نصّاً لم يصحّ على نصّ صحيح وهو لا يعلم بفساد الذي غلب.

وسابعها: أن يخصّص عموماً بظنّه.

وثامنها: أن يأخذ بعموم لم يجب الأخذ به ويترك الذي يثبت تخصيصه.

وتاسعها: أن يتأوّل في الخبر غير ظاهره بغير برهان لعلّه ظنّها بغير برهان.

وعاشرها: أن يترك نصاً صحيحاً لقول صاحب بلغه فيظنّ أنّه لم يترك ذلك النصّ إلا لعلم كان عنده.

فهذه ظنون توجب الاختلاف الذي سبق في علم الله عزّ وجلّ أنّه سيكون”.

لنبدأ من آخر هذا المقطع، حيث يقول ابن حزم: “الاختلاف الذي سبق في علم الله عزّ وجلّ أنّه سيكون”. ما يقصده ابن حزم هو أنّ الخلاف في الإسلام هو شيء علمه الله قبل أن يحصل. هل أراد الله أن يحصل هذا الخلاف؟ لا يجيبنا ابن حزم عن ذلك. لكن الواضح من كلامه هو أنّه يريد أن يبرّىء الصحابة والتابعين والأئمّة من المسؤوليّة عن الخلاف وكأنّهم نفّذوا إرادة إلهيّة (لها تفسيرها وحكمتها) لم يفك ابن حزم حروفها.

هل يمكن أن نضيف أنّ هذه الصورة للصحابة وانشغالهم عن الأمور الدينيّة بمتطلّبات الحياة والعيش تنسف كامل السرديّة الدينيّة التي تقول إنّهم كانوا أفضل من خلقهم الله وأعلم أهل الإسلام بأمور الإسلام؟ وهل يمكن أن نستنتج من قول ابن حزم أنّهم ليس فقط جهلة بكثير من القرآن والحديث وأمور الدين، بل أكثر من ذلك، تسرّعوا بإطلاق الآراء من غير علم

لكن الأهمّ في هذه العوامل العشرة التي يسردها لنا ابن حزم أنّ الخلاف برأيه نشأ عن غير قصد. فهو يقول إنّه في بعض الحالات، أعطى الصحابة والتابعون والأئمّة آراء في مواضيع لم يعرفوا أنّها معالجة أصلاً في آيات قرآنيّة أو أحاديث نبويّة.

وفي حالات أخرى، اعتقدوا وجود أخطاء في بعض الأحاديث أو أنّ بعض الآيات منسوخة؛

أو أنّ نصّ أحاديث وآيات معيّنة أشمل من غيرها فأخذوا بما اعتقدوه أشمل؛

أو أنّهم فضّلوا أحاديث وآيات معيّنة على أحاديث وآيات أخرى لأنها كانت أكثر تداولاً وشهرةً؛

أو أنّهم استدلّوا بأحاديث ضعيفة وتركوا أحاديث أفضل منها في الموضوع نفسه؛

أو أنّهم خلطوا بين ما هو خاصّ ومحدّد فجعلوه عامّاً وشاملاً، والعكس؛

 أو أنّهم فسّروا الآيات والأحاديث على غير ما تقول به (أي على غير ظاهرها) من دون برهان؛

أو تركوا أحاديث وآيات ظنّاً أن أساتذتهم تركوها لأنّهم علموا أنّ هناك مشكلة فيها.

إقرأ على موقع 180  عبدالناصر، فخ يونيو.. وثقة الناس

كلّ ذلك، كان عن غير قصد منهم، لغيرتهم على الدين.

إذاً، يمكن أن نقول إنّ هدف ابن حزم الرئيسي هو تبييض صفحة الصحابة والتابعين وأئمّة الإسلام السنّي وإزالة أي لوم عنهم في شرذمة الإسلام. لذلك نجده يُعلّل ما قاموا به على أنّه نتيجة لضعف الذاكرة أو عدم المعرفة أو خطأ في الظنّ والتخمين. ويذكر لنا أيضاً سبباً إضافياً في الفصل الذي يناقش فيه الخلاف، تحديداً ما يقوله في المقطع التالي:

“وقد علم كلّ أحد أنّ الصحابة، رضوان الله عليهم، كانوا حوالي رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، بالمدينة مجتمعين، وكانوا ذوي معايش يطلبونها وفي ضنك من القوت شديد، قد جاء ذلك منصوصاً وأنّ النبي، صلّى الله عليه وسلم، وأبا بكر وعمر أخرجهم الجوع من بيوتهم فكانوا من مُتحرّف في الأسواق ومن قائم على نخلة. ويحضر رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، في كلّ وقت منهم الطائفة إذا وجدوا أدنى فراغ ممّا هم بسبيله. هذا ما لا يستطيع أحد أن ينكره، وقد ذكر ذلك أبو هريرة فقال: إنّ إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإنّ إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على نخلهم، وكنت امرأ مسكيناً أصحب رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، على ملء بطني. وقد أقرّ بذلك عمر فقال: فاتني مثل هذا من حديث رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، ألهاني الصفق في الأسواق”.

إذا كان كلام ابن حزم صحيحاً، لماذا لم يتروَّ الصحابة والتابعون وأئمّة المذاهب السنّيّة عن إطلاق أحكام وإعطاء آراء في أمور ومسائل دينيّة عديدة لا يملكون أجوبة بشأنها؟ ولماذا لم يتحرّوا ويسألوا بعضهم البعض عمّا إذا كان هناك من آيات قرآنيّة أو أحاديث نبويّة عالجت هذه الأمور لكن بسبب مشاغلهم وتصفيقهم في الأسواق لم يعلموا بها؟ وأيضاً، لماذا سها هذا السؤال عن بال من نقل الحديث والآراء عنهم وتحزّب لصحابي ضدّ صحابة آخرين؟

وهل يمكن أن نضيف أنّ هذه الصورة للصحابة وانشغالهم عن الأمور الدينيّة بمتطلّبات الحياة والعيش تنسف كامل السرديّة الدينيّة التي تقول إنّهم كانوا أفضل من خلقهم الله وأعلم أهل الإسلام بأمور الإسلام؟ وهل يمكن أن نستنتج من قول ابن حزم أنّهم ليس فقط جهلة بكثير من القرآن والحديث وأمور الدين، بل أكثر من ذلك، تسرّعوا بإطلاق الآراء من غير علم، وهذا ابغض ما يقال عمن نصفهم بالمعرفة والريادة؟

وهل يمكن أيضاً أن نسأل ما إذا كان الخلاف بين الصحابة والتابعين وأئمّة المذاهب السنّيّة هو تعبير عن المنافسة بينهم، أو بين أتباعهم؟ بمعنى آخر، هل من الممكن أن ما رواه ونقله الصحابة والتابعون والأئمّة مجرد أخبار اخترعوها همّ لكي يقنعوا اتباعهم أنّهم أفهم بالإسلام من غيرهم؟

من هنا أعود إلى ما ذكرته آنفاً أنّ الخلاف كان من الكوابيس العظيمة لكثير من العلماء المتأخّرين بمعنى أنّهم أرادوا معالجة الموضوع بطريقة تفسّر الخلاف من دون أن تضرّ بمن اعتبروهم أئمّة الدين أو تضع اللائمة عليهم، وهذا إجمالاً من الصعب تحقيقه. لكن كما في الكثير من الحالات، يقود تفسير الشيء إلى مشاكل أكبر وأعتى، خصوصاً إذا كان التبرير على شاكلة الهلع الذي أصاب آدم وحوّاء عندما أكلا من ثمر الشجرة المحظورة، فبدت لهما عوراتهما “وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ” كما تقول الآية 22 من سورة الأعراف. تفسير ابن حزم لهذا الخلاف لا يعالج المشكلة بل يرمي عليها أشياء لكي يخفيها، وكأن تغطية الشيء تزيله من الوجود.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  أوطاننا ضحية الطوائف.. فلنُحرّم زواج الدين والسياسة