القارة الصفراء في قبضة “شبكة الخيزران” الصينية

الجاليات الصينية في الخارج، هي حصان طروادة بيجينغ في جنوب شرق آسيا.. وسلاحها الأمضى، في حربها الناعمة لمد نفوذها الاستراتيجي بعنوان "مبادرة الحزام والطريق"، ومن خلالها تتحكم باقتصادات دول الجوار، وأمكن لها حياكة "شبكة الخيزران" حماية لإقتصادها وتعزيزاً لسيطرتها وحماية للجاليات في آن معاً.. كيف تعمل هذه الجاليات وما هو سر قوتها؟

حينما حطت أقدام المستعمرين الاوروبيين في جنوب شرق آسيا، فوجئوا بأن الصينيين سبقوهم الى هناك وحقّقوا فيها نجاحات تجارية واقتصادية هائلة. وفي عام 1621 كتب الرحالة البريطاني توماس هيربرت ان الصينيين في تلك المناطق يذكرونه بـ”يهود أوروبا” لهيمنتهم على مفاصل الاقتصاد في تلك الاصقاع برغم قلة اعدادهم نسبيا مقارنة بعدد السكان الاصليين، فهم تجار الجملة والحرفيين والمرابين والممولين والسماسرة ومحتكري المهن التي لا يجيدها غيرهم. عندما وصل هؤلاء الى تلك الأراضي هرباً من بلادهم التي كانت تعاني من الاضطرابات والحروب والاحتلالات والثورات والفقر والجوع، كانوا من الطبقات المعدمة والمهمشة، لكنهم باتوا اليوم الاعلى دخلاً وتعليماً في الدول المضيفة وبينهم اغنى 20 مليارديراً في آسيا كلها.

وعلى عكس المهاجرين العرب القدامى، الذين اختلطوا بالسكان المحليين وتزوجوا منهم وصاهروهم، فإن علاقة المهاجرين الصينيين بالمجتمعات الآسيوية المجاورة تشبه علاقة الزيت بالماء؛ لا يمتزج به ولا يذوب فيه، بل يكَوِن طبقة أعلى منه؛ إذ نادراً ما تحدث حالات زواج بينهم وبين السكان الأصليين. واياً كان الحاكم في بيجينغ، وأياً كان موقفهم السياسي منه، يبقى ولاءهم الاول لوطنهم الام ويبقى حبل الصرة مشدوداً الى البر الرئيسي.

في البداية، عملت أعداد كبيرة من المهاجرين الصينيين في مزارع المطاط ومناجم القصدير في إندونيسيا وماليزيا وتايلاند، بينما أنشأ آخرون متاجر صغيرة لتوفير لقمة العيش لأنفسهم. وشكلوا أحياء صينية لدعم الذات وتعزيز مصالحهم التجارية. ومع نمو المجتمعات الصينية وتطورها في جنوب شرق آسيا، بدأ التجار الصينيون في تطوير شبكات أعمال متقنة للنمو والبقاء مهمتها توفير الموارد لتراكم رأس المال ومعلومات التسويق وتوزيع السلع والخدمات بين مجتمعات الأعمال الصينية في الداخل والخارج. وعادة ما تكون الشركات الصينية في الخارج مملوكة لعائلة وتدار من خلال بيروقراطية مركزية ابوية. وتكمن قوة الشركة العائلية في مرونتها في اتخاذ القرار وتفاني وولاء القوى العاملة لديها وتكاليفها المنخفضة.

سجل الكثيرون من هؤلاء الصينيين قصص ثراء خيالية مثل صانع الصفقات الماليزي الصيني روبرت كوك، والملياردير الإندونيسي الصيني لييم سيوي ليون، ورجل الأعمال في هونغ كونغ لي كا شينغ. وبنى جميع هؤلاء ثروتهم  من اعمال بسيطة مثل متجر الزاوية لبيع السكر في ماليزيا، ومتجر المعكرونة في القرية في إندونيسيا، ومصانع الزهور البلاستيكية في هونغ كونغ، أو كانوا باعة متجولين

وبرغم الصعوبات الهائلة التي واجهوها، إلا أن العديد من رواد الأعمال والمستثمرين الصينيين الناشئين نجحوا من خلال التوفير والذكاء في الأعمال التجارية وفطنة الاستثمار والانضباط والضمير والمثابرة، في بناء تكتلات تجارية عملاقة. ومع بداية العولمة في القرن الحادي والعشرين، عمل العديد من رواد الأعمال الصينيين في الخارج على عولمة عملياتهم المحلية وعرضوا أنفسهم كمنافس عالمي في صناعات تجارية متنوعة مثل الخدمات المالية والعقارية وتصنيع الملابس وسلاسل الفنادق والكازينوهات وصالات القمار. من تايلاند إلى ميانمار إلى إندونيسيا، تشرف عائلات الأعمال الصينية في الخارج على إمبراطوريات تجارية بمليارات الدولارات تمتد من شنغهاي إلى كوالالمبور إلى جاكرتا. وسجل الكثيرون من هؤلاء قصص ثراء خيالية مثل صانع الصفقات الماليزي الصيني روبرت كوك، الملياردير الإندونيسي الصيني لييم سيوي ليون، ورجل الأعمال في هونغ كونغ لي كا شينغ. وبنى جميع هؤلاء ثروتهم  من أعمال بسيطة وغير ملهمة مثل متجر الزاوية لبيع السكر في ماليزيا، ومتجر المعكرونة في القرية في إندونيسيا، ومصانع الزهور البلاستيكية في هونغ كونغ، أو كانوا باعة متجولين سرعان ما تعمقوا في العقارات ثم اعادوا استثمار مكاسبهم في أي عمل اعتبروه مربحاً لهم.

في ماليزيا الحالية مثلا، تدفق المهاجرون القادمون من جنوب الصين خلال الاستعمار الإنكليزي، للعمل في مناجم القصدير، وبمرور الزمن تركزت معظم الثروات في يدهم وبات السكان الأصليون المسلمون من أبناء العرق المالاوي أنفسهم في فقر مدقع، وهؤلاء كانوا السبب الرئيسي في دفع نواب الغالبية المالاوية المسلمة في البرلمان الماليزي الى التصويت عام 1965 على طرد ولاية سنغافورة من الاتحاد الماليزي كونها تحتضن غالبية صينية مهيمنة على الاعمال وتشهد مواجهات عرقية بين هؤلاء والمسلمين، وذلك خشية انتقال عدوى الاضطرابات العرقية والطائفية الى باقي الولايات. حينها خرج الزعيم السنغافوري الشهير لي كوان يو، باكياً على شاشات التلفزيون بسبب قرار البرلمان طرد ولايته. لكن سنغافورة باتت دولة مستقلة ذات غالبية صينية. وانتقلت في أقل من عقدين، بفعل نشاط الجالية الصينية، من جيب صغير فقير وموبؤ، الى اسطورة اقتصادية صاحبة الرقم القياسي في النمو والتطور التكنولوجي وها هي تحتل حالياً مركزاً عالمياً مرموقاً كسوق مالي وتجاري مهم كما أنها تملك اكبر المرافئ والمطارات في العالم.

ويقدر عدد الجاليات الصينية في جنوب شرق آسيا بخمسين مليون نسمة. وبرغم أنهم لا يشكلون سوى 10 في المئة من اجمالي السكان إلا انهم يشكلون اقلية سوقية قوية تسيطر على قطاعات بأكملها وتهيمن على ثلثي تجارة التجزئة في المنطقة وتمتلك ثمانين في المئة من جميع الشركات المدرجة في البورصة من خلال رسملة سوق الأوراق المالية. وبات 86 في المئة من المليارديرات في جنوب شرق آسيا، من أصل صيني.. فالجاليات الصينية في ماليزيا واندونيسيا والفيليبين وتايلاند تملك زمام المبادرة وتتركز في أيديها أسباب الازدهار الاقتصادي، ففي تايلاند مثلاً يمتلك الصينيون 90 في المئة من الشركات الناجحة، وفي الفيليبين يسيطرون على أربعة أخماس تجارة الجملة. وفي اندونيسيا (حيث لا يشكلون سوى 5 في المئة من السكان) يمتلكون 75 في المئة من المؤسسات الاقتصادية. وفي ماليزيا نفسها يديرون مجمل الصناعات التكنولوجية ويمتلكون ستة أضعاف ما يمتلكه الماليزيون من الشركات الناجحة.

إقرأ على موقع 180  لبنان وصندوق النقد: مَنْ يضحك على مَنْ؟

ولا يقتصر نجاح الشتات الصيني على آسيا، بل يمتد ليشمل أوروبا والأميركيتين وافريقيا واوقيانيا، فجميع المدن الكبرى في العالم لا تخلو من “مدن صينية” مصغرة تضم جاليات نشطة ورجال أعمال يحلقون في مجالاتهم.

هذه القوة الاقتصادية التي يمتلكها الصينيون في الخارج ولدت مرارة لدى نظرائهم في جنوب شرق آسيا الذين يشعرون أنهم لا يستطيعون منافسة الشركات الصينية في مجتمعات السوق الحرة الرأسمالية. وهذا الأمر يعزّز التفاوت الهائل في الثروة ويكرس الفقر المدقع بين السكان الأصليين في جنوب شرق آسيا

 ومنذ مطلع القرن الحادي والعشرين، أصبح جنوب شرق آسيا ركيزة مهمة للاقتصاد الصيني في الخارج، وبنت فيه بيجينغ ما بات يعرف بـ”شبكة الخيزران” التي تشبك اقتصاديا ما بين البر الرئيسي للصين وبين الجاليات الصينية في الخارج فيصير احدها مكملاً للآخر يتفاعل معه ويتبادلان امداد بعضهما البعض بوسائل القوة والاستمرار والنمو. وعملت “شبكة الخيزران” كشكل مميز من أشكال التنظيم الاقتصادي، حيث توسعت تدريجيًا مجموعات من رجال الأعمال الصينيين والتجار والمستثمرين والممولين والشركات العائلية، بالإضافة إلى شبكات الأعمال المتماسكة بشكل وثيق وأصبحت تهيمن على اقتصاد جنوب شرق آسيا. وباتت الشركات المملوكة من الصينيين المغتربين قوة اقتصادية رئيسية ومهيمنة على قطاعات الأعمال الخاصة في كل دولة في جنوب شرق آسيا اليوم.

ويتركز الجزء الاكبر من النشاط التجاري لـ”شبكة الخيزران” في المدن الكبرى، مثل جاكرتا، سنغافورة، بانكوك، كوالالمبور، هو تشي منه ومانيلا. وتتحكم هذه بثروة مجتمعة تقدر بتريليونات الدولارات. ويمثل الصينيون في الخارج أيضًا 80 في المئة من الاستثمارات المباشرة في البر الرئيسي للصين. فقد أنشأت شركات “شبكة الخيزران” عشرات الالاف من المشاريع المشتركة، متأثرة بالصلات العرقية والثقافية واللغوية المشتركة والقائمة. وفي إطار سعيها لتقليل اعتمادها على سندات الخزانة الأميركية، حولت الحكومة الصينية من خلال مؤسساتها المملوكة للدولة تركيزها إلى الاستثمارات الأجنبية. جعلت الحمائية في الولايات المتحدة من الصعب على الشركات الصينية الحصول على الأصول الأميركية، مما عزّز دور”شبكة الخيزران” كواحدة من المتلقين الرئيسيين للاستثمارات الصينية.

وقد عززت بيجينغ نفوذها في منطقة جنوب شرق آسيا في العام الماضي، عبر تتويج مساعيها الديبلوماسية بتوقيع اكبر اتفاق تجاري في العالم، هو اتفاق “الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة” الذي ضم عشر دول في جنوب شرق آسيا أبرزها اليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا وأستراليا، في غياب الولايات المتحدة الامر الذي اعتبر انتكاسة سياسية لواشنطن. وتساهم الدول المنضوية في الإتفاقية بنحو 30 في المئة من إجمالي الناتج الداخلي العالمي. ومن شأن اتفاق كهذا ان يمنح الصين مجالاً اوسع لصوغ قواعد التجارة في المنطقة، ويرسخ طموحاتها الجيوسياسية الإقليمية الأوسع حيال “مبادرة الحزام والطريق”.

لكن هذه القوة الاقتصادية التي يمتلكها الصينيون في الخارج ولدت مرارة لدى نظرائهم في جنوب شرق آسيا الذين يشعرون أنهم لا يستطيعون منافسة الشركات الصينية في مجتمعات السوق الحرة الرأسمالية، وهذا الأمر يعزّز التفاوت الهائل في الثروة ويكرس الفقر المدقع بين السكان الأصليين في جنوب شرق آسيا فضلاً عن مشاعر الاستياء وعدم الثقة والمشاعر المعادية للصين، وهذا ما تسعى الولايات المتحدة والهند الى استغلاله.

الصينيون يقودون طبقة الأثرياء في آسيا

بحسب قائمة أثرياء هورون العالمية لعام 2021، فإن الأثرياء الصينيين في الخارج يشكلون قوة ضاربة في العديد من بلدان العالم، لا سيما في جنوب شرق آسيا “القارة الصفراء”.

ووفقا للقائمة، فإن المليارديرات الصينيين في سنغافورة يبلغ عددهم 23 من أصل 45 مليارديرا، أي يشكلون حوالي 65.7 في المئة من مليارديرات سنغافورة.

ويوجد 9 من المليارديرات الصينيين في الفيليبين من أصل 20 مليارديراً، أي يشكلون 45 في المئة من مليارديرات الفيليبين، وتنخفض النسبة إلى حوالي 22 في المئة في أندونيسيا، حيث يوجد 7 مليارديرات صينيين من بين 32 مليارديراً في هذه الدولة الآسيوية.

في تايلاند، هناك 52 مليارديراً، بينهم 5 مليارديرات من الصين، اي بما يعادل 9.6 في المئة، بينما يستحوذ الصينيون على 30 في المئة (3 مليارديرات) من أصل 10 مليارديرات في ماليزيا.

كما ينتمى العديد من الصينيين في الخارج إلى أغنى العائلات في آسيا، منها عائلة “سي” عاشر أغنى عائلة في آسيا تعيش في الفيليبين، وتعمل في بيع المواد الغذائية ومتاجر الأحذية والخدمات المصرفية والعقارية، وهي تدير اليوم مصرف Banco de Oro ومتاجر SM Supermarkets وSM.

كما تضم العائلات الصينية الأكثر ثراء بالخارج عائلة Chearavanont في تايلاند والتي تحتل المرتبة الثالثة بين أغنى العائلات في آسيا.

ولا يشكل الصينيون الأثرياء في الخارج سوى مجموعة ضئيلة من بين أولئك الذين يقيمون في الصين ويبلغ عددهم ما يربو على 1000 ملياردير، مقارنة بـ 696 مليارديراً في الولايات المتحدة بينهم 3 في المئة من الصينيين.

Print Friendly, PDF & Email
أمين قمورية

صحافي وكاتب لبناني

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  أمريكا "تتدرب" في أوكرانيا.. وعينها على الصين!