تركيا ملحمة تاريخية وجغرافية (2)

تُحيلنا الإنتخابات الرئاسية والبرلمانية التي ستشهدها تركيا في الرابع عشر من الشهر الحالي إلى تاريخ هذا الشعب الضاربة جذوره في التاريخ. وثمة عناصر كثيرة تدفعك للإهتمام بتركيا: قربها الجغرافي، تفاعلنا التاريخي والثقافي معها، ثقلها العسكري والسياسي والإقتصادي، والأهم بالنسبة إليّ، شيءٌ من الجاذبيّة يصعب تفسيره وشرحه. تركيا هذه كلّما غصت بعناصر تركيبتها ازددتُ عطشًا لمعرفة المزيد عنها.

شكّل الأتراك لقرون طويلة تهديدًا مستمرًّا ومتواصلًا للدولة الصينيّة، وذلك لعدّة أسباب. أوّلًا لأنّ الإمبراطوريّة الصينيّة كانت عبارة عن حاضرةٍ نابضةٍ بالحياة والإقتصاد والثروة، وقد ساعدت الكثافة السكانيّة التي تميّز بها الصّينيّون في تحويلها إلى هدفٍ للغزاة والقوى الصاعدة. وبينما تميّز الأتراك بكونهم قومًا من المقاتلين الرحل، يُشكّل الغزو مصدرًا مهمًا لهم، فقد كانت الصين قد قطعت شوطًا كبيرًا في تحوّل شعبها إلى مجتمعٍ زراعي، وبالتالي أكثر اعتمادًا واستقرارًا في أرضه (مقال الكاتب عامر محسن في “الأخبار” بعنوان “مقدّمات في تاريخ الصين الإقتصادي” مفيد في هذا السياق). ثانيًا على اعتبار الحاضرة الصينيّة أغنى المجتمعات وأكثرها قربًا في ذلك الوقت للمنطقة التي ظهر منها الأتراك وعاشوا فيها، قبل أن يبدأ الإنزياح الكبير تجاه منطقة الأناضول، نهاية القرن العاشر ميلادي.

تقول إحدى المرويّات التاريخيّة عن الفترة الأخيرة لحكم الـ”كوك تورك” والمسمّاة بعهد قوتلوغ، بأنّ الصّينيّين وبرغم بنائهم السّور العازل، لم تنفكّ إمبراطوريتهم عن التعرّض للغزوات المستمرة من قبل القبائل التركيّة، فقام الإمبراطور الصيني بتجهيز جيشٍ قوامه 300.000 ألف مقاتل وزحف به تجاه أوتوكن عاصمة الإمبراطوريّة التركيّة حينها، إلّا أنّ كول تيكين استطاع أن يصدّ هذا الجيش ويهزمه، ويفرض على الصينيين دفع الضريبة. تُكمل الرواية، بأن دهاء الإمبراطور الصيني ظهر هنا، حيث اعتبر أن لا حلّ لتهديد الأتراك إلّا بتحويل طباعهم وحياتهم إلى شيْ من النعومة والرفاهية، وشكّل الحرير إحدى السّبل المتاحة لذلك، فكانت ضريبته السنوية عبارة عن 300,000 قطعة من الحرير. لم يطل الأمر حتى فقد الأتراك الحماسة للقتال، فتراجعت سطوتهم ونفوذهم، إلى أن حدث التحوّل الكبير، ودخل الأتراك الدّين الإسلامي، الّذي يُحرّم على الرّجال لبس الحرير، فبدأت مرحلة جديدة للعصر التركي والإسلامي معًا.

أرسل السلطان أرسلان للإمبراطور ديوجينيس عرض صلح، لكن جواب الإمبراطور كان: “قولوا لسلطانكم سأتفاوض معه بشأن الصلح في ريّ (قرب طهران)، فسيمضي جيشي الشتاء في أصفهان، وسأروي الجياد في همدان”، لكن رد صاو تيكين رسول السلطان، كان بليغًا وحاسمًا: “أنا لا أشكّ بأنّ خيولكم ستمضي الشّتاء في همدان، إلّا أنني لا أعلم أين ستقضون أنتم الشتاء”!

التحوّل الكبير

تحوّلانِ كبيران استطاع القراخانيون (من أحفاد الكوك تورك) إحداثهما على صعيد العالمين التركي والإسلامي. الأوّل؛ اعتناق (صاتوق بوغرا خان) الدين الإسلامي، والذي على إثره تَسمى باسم عبد الكريم عام 940م. الثاني؛ إيصالهم الوجود التركي ناحية البحر الأبيض المتوسط للمرة الأولى.

لم يكتفِ بوغرا خان باعتناق الإسلام وحده، متخليًا عن دين الأتراك الشامانيّ لآلاف السّنين، بل دفع رعايا إمبراطوريّته لاعتناق هذا الدين، والذي جاء نتيجة التفاعل الحضاري الذي استمرّ لقرونٍ طويلة، مقترنًا بمجموعة من المصالح المشتركة بين العرب والأتراك، على رأسها مواجهة الإمبراطوريّة الصينيّة. كما أنّ تقهقر سلطة الخليفة العربيّ من جهة، وازدياد النفوذ التركي في بلاط الخليفة من جهة ثانية، شجّعا الأتراك على الدخول إلى الإسلام لينتقل مركز ثقل العالم الإسلامي من الجناح العربي الذي بات في أضعف مراحله، إلى الجناح التركي.

يذكر المؤرّخ التركي يلماز أوزطونا أنّ الدين الإسلامي أصبح حاكمًا في معظم أقسام تركستان التي كانت تسمى آنذاك “توران”، ما عدا جونغاريا وشمال كازاخستان وشرق تركستان الشرقية (الإقليم الغربي للصين سنجان) إذ استمرّت شامانيّة أو بوذيّة. يضيف أوزطونا بأنّ الأتراك حاولوا نشر الإسلام بعد أن قبلوا بهذا الدّين بشكل سياسةٍ قوميّة، وقد حاربوا في هذا السبيل، فأرسلوا جيوشًا وصلت حتى منابع نهر أوبي في جبال ألطاي التي كان يقطنها الباسميل الأتراك.

الأتراك المسلمون في العصر العباسي

تعتبر الدولة الطولونيّة أوّل دولةٍ إسلاميّة حاكمها ومؤسّسها تركي، وللمفارقة فقد قامت في مصر بعيدةً عن العالم التركي. مؤسّس هذه الدّولة هو إبنٌ تركيٍ مملوكيّ من “الأوغوز” جِيء به إلى قصر الخليفة ببغداد عام 816م، وقد أسماه العرب طولون التركي. إعتنى طولون بتربية إبنه أحمد الذي راح يتدرّج في البلاط إلى أن ولّاه الخليفة عام 868م على مصر التي كانت واحدة من الأقاليم الهامة للخلافة العباسية، ثم أعلن إبن طولون نفسه حاكمًا على مصر عام 880م مع استمرار اعترافه بالخليفة العباسي. استمرّ حكم الأسرة الطولونيّة حتى عام 905م حيث استطاع العباسيّون استعادتها.

بعد تسعٍة وعشرين عامًا على انتهاء الدّولة الطولونيّة، حذا والٍ عباسي آخر حذو إبن طولون، وهو محمد بن طغج الإخشيد، حيث عيّن عام 928 واليًا على الرملة في فلسطين، ثم سوريا عام 930م ثم مصر عام 933م، ليعلن استقلاله عام 934م ويسيطر على لبنان عام 941م وبعدها بعامٍ على الحجاز. كانت لغة بني إخشيد العربيّة، واعتنقوا المذهب الحنفيّ، واستمرّت دولتهم على امتداد خمسة وثلاثين عامًا، إلى أن وصل الفاطميون إلى مصر، وانتزعوا الحكم من الإخشيديين.

دولةٌ أخرى أسّسها أتراكٌ بعد انفصالهم عن مركز الخلافة في بغداد، لكن هذه المرّة خارج حدود العالم العربيّ، إذ حكم بنو ساج الذين ولّاهم العباسيون على أذربيجان وأرمينيا عام 889م مدّة 38 عامًا، من سنة 892م لحظة إعلان استقلالهم وحتى سنة 930م حين استطاع العباسيون استعادة حكمهم على هذه البلاد والقضاء على سلالة بني ساج.

إقرأ على موقع 180  أول حرب إعلامية روسية ـ أميركية في زمن السوشيل ميديا

ظهور السّلاجقة

تعود جذور السلاجقة إلى “الأوغوز”، أهم الفروع التركيّة وأشهرها بعد الـ”كوك تورك”، والتي ينحدر منها اليوم جميع الأتراك، إضافةً إلى كونهم أوّل الأتراك الذين فتحوا الأناضول وأسّسوا الدولة التركيّة. تأثّر “الأوغوز” بمجاورة المسلمين، حالهم حال “القاراخانيين” الذين أعلنوا الإسلام دينًا رسميًا لدولتهم، مما ساهم بانتقال الإسلام إلى “الأوغوز”، وما إن حلّ الرّبع الثّاني من القرن الحادي عشر حتى أصبحوا جميعًا في عداد المسلمين.

ينقسم “الأوغوز” إلى أربعٍة وعشرين فرعًا، عشرة منهم فتحوا واستوطنوا الأناضول، على رأسهم فرعا “قينيق” الذي ينتسب إليه السلاجقة، و”قايي” الذي ينتسب إليه العثمانيون. كان “الأوغوز” الذين وصلوا إلى أبواب الأناضول في القرن الحادي عشر، بحسب أوزطونا، جميعًا مسلمون، وقد أدى نزوحهم ناحية الأناضول والمناطق القريبة منها إلى إفراغ آسيا من عنصر “الأوغوز”، باستثناء قسمٍ منهم بقي في جنوب شرق الخزر، أي في تركمانستان حاليًا، ويُطلق عليهم إسم أتراك الغرب.

على رأس هؤلاء يأتي السلاجقة سادة فرع “قينيق”، الذين تولّوا القيادة العسكريّة للدولة التركية الكبرى تحت حكم “القاراخانيين”، وقد وصلت القيادة العسكرية لسلجوق بك بعد مقتل والده دوقاق بك قائد الجيش وزعيم العشيرة عام 903م. وبسبب الخلاف الذي وقع بين سلجوق بك مع اليابكو، أي السلطان التركي، عام 915م، قام بالرحيل إلى مدينة جند (أو جَاند، الواقعة في كازخستان حاليًا) على رأس قبيلته التي دخلت الإسلام، وقد استمرّ الخلاف بين سلجوق بك وعددٍ من قادة اليابكو الذين توالوا على الحكم.

الحكّام الجدد

برغم الصرّاع المستحكم بين الأتراك “القاراخانيين” و”الغزنويين”، إلّا أنّ الصعود السريع والقويّ للسلاجقة على الساحة التركيّة، دفعهم للتوحد والتآزر للقضاء على هذه القوّة الصاعدة. أدرك السلاجقة أن لا خيار أمامهم سوى الإنتصار في هذه المعركة، وتحديدًا على “الغزنويين” حكام البلاد الهندية الأقوياء والأثرياء. وقد استمرّت حروب الكرّ والفرّ بين السلطان محمود الغزنوي والسلاجقة إلى حين وفاة الأوّل، حيث انتعشت آمال السلاجقة في القضاء على هذه السلطنة.

كان لتقاسم الأخوين جاغري وطغرل بك، أحفاد سلجوق بك، السلطة وتوحيد قواهما السبب الرئيس لنهوض دولتهم، فبدأ الأمر بالسيطرة على هرات التي استعادها “الغزنويون” لاحقًا، ثمّ على خراسان، ومن بعدها على مرو وبلح وهرات من جديد، وبعدها نيسابور عام 1038م حيث أمر طغرل بك بقراءة خطب الجمعة باسمه تحت عنوان السلطان.

تعتبر الدولة الطولونيّة أوّل دولةٍ إسلاميّة حاكمها ومؤسّسها تركي، وللمفارقة فقد قامت في مصر بعيدةً عن العالم التركي. مؤسّس هذه الدّولة هو إبنٌ تركيٍ مملوكيّ من “الأوغوز” جِيء به إلى قصر الخليفة ببغداد عام 816م، وقد أسماه العرب طولون التركي

استوعب “الغزنويون” خطر السلاجقة، فتوقفوا عن فتوحاتهم في الهند، ووجهوا قواهم إلى دانداناكان قرب مرو، للقضاء على جيش جاغري بك الذي استنجد بكل السلاجقة وعلى رأسهم أخوه طغرل بك. مُنيَ السلطان مسعود الغزنوي بهزيمة فادحة أمام جيش جاغري ـ طغرل برغم ضخامة جيشه، فاستولى السلاجقة على خزائن “الغزنويين” ومخيماتهم وبذلك قويت شوكتهم، فراحت القبائل المختلفة تبايعهم من دون قتال، وانتقلت السيادة على الدولة التركيّة الكبرى من “القاراخانيين” إلى السلاجقة، بينما أُخرج “الغزنويون” تمامًا من مسرح السياسة في الشّرق.

ورث السلاجقة سريعًا راية الدفاع عن حدود المسلمين في وجه البيزنطيين، الذين استشعروا اللحظة المناسبة لاستعادة السيطرة على سوريا وفلسطين ومصر، وحتى العراق وإيران، فانطلق الإمبراطور البيزنطي ديوجينيس بجيشٍ من 200 ألف مقاتل متعدّد القوميّات والأعراق من القسطنطينية تجاه الشام، فلاقاه السلطان ألب أرسلان بـ 50 ألف مقاتل، والتقى الجمعان بالقرب من بحيرة وان ونهر مراد حيث تقع قلعة ملازكيرت، التي سميت المعركة بإسمها.

وبحسب الرواية التاريخيّة، أرسل السلطان أرسلان للإمبراطور ديوجينيس عرض صلح، لكن جواب الإمبراطور كان: “قولوا لسلطانكم سأتفاوض معه بشأن الصلح في ريّ (قرب طهران)، فسيمضي جيشي الشتاء في أصفهان، وسأروي الجياد في همدان”، لكن رد صاو تيكين رسول السلطان، كان بليغًا وحاسمًا: “أنا لا أشكّ بأنّ خيولكم ستمضي الشّتاء في همدان، إلّا أنني لا أعلم أين ستقضون أنتم الشتاء”! إنتهت معركة ملازكيرت بخسارة فادحة للبيزنطيين، وأُسر إمبراطورهم، الذي أُطلق سراحه لاحقًا لقاء تنازلات وتعويضات كبيرة لمصلحة السلاجقة الذين باتوا قادة الأمّة الجدد.

الجزء الأول:  تركيا ملحمة تاريخية.. وجغرافية (1)

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  أردوغان لم يعد سلطانًا يسحر جمهوره.. ويهزم الأحزاب مجتمعة